“البنيوية” وحُلم العِلمية في الدراسات الأدبية
في «الكوليج دي فرانس» عام (1960م) ألقى ((ليفي شتراوس)) درسه الافتتاحي، وتكلم بأسلوب حماسي عن “الألسنية البنيوية”، حتى أنه قال: «على المشتغلين بعلم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا، عليهم أن يكونوا تواقين ومرحبين بالتعلم من الألسنية الحديثة الطريقة التي بنت بها معرفتها التجريبية Empirical Knowledge من الظواهر الاجتماعيةSocial Phenomena»(1). وبغض النظر عما ستؤول له النتائج عند ((شتراوس)) نفسه فيما بعد بإضفاء المسحة الفلسفية على “البنيوية” وتحويلها من استراتيجية بحث عقلانية إلى ضرب من الغموض في طورها الفرنسي بالإسهام مع((رولان بارت))؛ فإن اللافت هنا الميل الشديد للعمل الاجرائي في حقل الدراسات الإنسانية بعامة، بهدف القدرة على تحقيق نتائج في السيطرة والتحكم بالظواهر الاجتماعية، ذلك الميل والنداء بحلم «علمية الدراسات الإنسانية» كان الهاجس المسيطر على أغلب المشتغلين بحقول الإنسانيات في ستينيات القرن الماض، وبالأخص حقل الدراسات الأدبية
سيبدو الأمر أكثر وضوحا إذا ما عرفنا أن النجاحات الباهرة التي حققتها العلوم التطبيقية كانت تسبب إحراجا للمشتغلين بالعلوم الإنسانية، إذ أثارت الشك حول علمية الدراسات الإنسانية. ففي الوقت الذي كان فيه التطبيقيون يُحْرِزون المزيد من النجاحات في مجالات عملية ملموسة، كان المشتغلون بالعلوم الإنسانية يعانون من تخبط منهجي شديد، مما جعل علمية هذه المجالات على المحك، لكن في الوقت نفسه كان هناك علمٌ من بين هذه العلوم قد استطاع أن يحقق لنفسه مكاسب علمية واضحة، فقد استطاع “علم اللغة” بفضل “الألسنية” أن يصل إلى قدر كبير من الانضباط والعلمية، وبدا أن اتباع أسس نموذج الألسنية البنيوي تحديدا هو الأمل في تحقيق العلمية المنتظرة.
لقد حضر ((شتراوس)) مجموعة من المحاضرات لـ((رومان ياكوبسون)) بالولايات المتحدة الأمريكية، ورغم أن هدفه من المحاضرات كان الوقوف على نظام ترميزي مُرْضِي؛ يُمَكِّنْهُ من القيام بتسجيل لغات قبائل وسط البرازيل؛ إلا أنه تَرَكَ هذه الغاية المباشرة ، وتوجه ناحية شيء آخر، ناحية “إلهام الألسنية البنيوية” كما سماه هو بعد ذلك، فتمكن من صياغة رؤاه وأفكاره المتماسكة في حقل “الأنثروبولوجيا”. (2)
لقد استطاع ((شتراوس)) بفضل هذا «الالهام» – وفق تسميته – أن يصل لضبط منهجي في حقل الانثروبولوجيا يوضح مسارات العمل بين “الإثنوجرافيا” Ethnography، و”الإثنولوجيا” Ethnology، و”الإنثروبولوجيا”Anthropology؛ لتصبح “الإثنوجرافيا” هي العمل الميداني القائم على ملاحظة الوقائع، أما “الإثنولوجيا” فهي تحليل مفردات التوثيق الميداني للوصول للنتائج، أما “الانثروبولوجيا” فهي أعم من هذا واشمل، هي تلك التي تهدف عبر “الاثنوجرافيا” و”الاثنولوجيا” إلى الوصول لمعرفة شاملة عن الجنس البشري، معرفة كلية عن الناس، عن كل الناس إن أمكن، وليس عن الناس في العصر الحالي وحسب، بل عن الناس منذ الأصول وحتى اليوم، وعبر كل الحضارات أيضا(3). وتتضح أهمية هذه التمايزات إذا ما عرفنا أن علم “الإنثروبولوجيا” كان غير محدد المعالم والخطوات على هذا النحو الاجرائي قبل اسهامات ((شتراوس))، وأن هذه المراحل كان بينها تداخل كبير في التنفيذ، وطريقة استخلاص النتائج، وتعد هذه التفرقة ثمرة أساسية من اقتباس أسس “الألسنية البنيوية” في “الإنثروبولجيا”.
وفي اعتقادي أن الصورة التي تفاعل معها ((شتراوس)) في هذا التوقيت حول “البنيوية” في دراستها للظواهر الإنسانية بعامة هي ما قدمها ((رومان ياكوبسون)) في كتاب “الاطروحات” عام (1928م)، والتي يُعَرِّف فيها المصطلح على النحو التالي: «إن كان علينا أن نحدّد الفكرة التي تقود العلم الحالي بتجلياته الأشد تنوعا، فمن الصعب أن نقع على خيار أنسب من البنيوية. فالعلم المعاصر لا يعالج أية مجموعة من الظواهر التي يتفحصها بوصفها كتلة ميكانيكية وإنما باعتبارها كلا بنيويا، أو نظاما تتمثل المهمة الأساسية بالكشف عن قوانينه الداخلية سواء كانت سكونية أم تطورية. ويـبدو أن المنبه الخارجي لم يعد بؤرة الاهتمامات العلمية، بل الأسس الداخلية للتطور؛ فالتصور الميكانيكي للسيرورات أو العمليات يُخلي الطريق للسؤال المتعلق بوظيفة هذه السيرورات.»(4)
إذا ما أردنا أن نحلل كلام ((ياكوبسون)) لنخرج منه باستراتيجية بحث علمية، يُبْحَث من خلالها في “النصوص الأدبية” المختلفة، فإن المشتغل بهذا النوع من البحث عليه أن يحقق العناصر التالية:
(1-) النظر إلى مجموعة الظواهر هذه على أنها تشكل كلا واحدا متكاملا، وليس كلا ميكانيكيا، به بعض انفصال بين عناصره المختلفة.
(2-) هذا الكل المتكامل له قوانينه وأنظمته الداخلية التي تحكمه وتحكم سيرورته، وهذه القوانين تنقسم بين كونها قوانين سكونية [تزامنية] وأخري تطورية [تعاقبية].
(3-) هدف ووظيفة البحث هنا هو الكشف عن هذه القوانين وعن هذه الأنظمة التي تحكم هذا الكل المتكامل، وتحكم سيرورته.
(4-) البحث في هذه القوانين يجب أن يتم عن طريق التركيز على هذه الظواهر نفسها، دون النظر إلى أية منبهات أو علاقات أخرى تقع خارج هذه الظواهر.
ورغم أن هذه الاستراتيجية تحتاج لقدر من التجريب التطبيقي في حد ذاتها، إلا أن الطور الفرنسي أضفى أبعادا على “البنيوية” تحديدا جعل منها نوعا من لغة تقنية تعتز بذاتها ومصطلحاتها، أكثر مما تعتز بالنتائج التي تصل إليها، ربما منبع ذلك انقطاع التواصل مع أبحاث «حلقة براغ اللغوية» حول الشعر السُلافي، أو حتى التواصل مع مبادئ ((دو سوسير))؛ فرغم من أن ((موكاروفسكي)) قد زار باريس في عام (1946م)، وألقى فيها محاضرة عن “البنيوية” في “معهد الدراسات السُلافية” (L’ Institut d’ Etudes Slaves)، إلا أن هذه المحاضرة لم تُنْشَر، ولم يكن لها أثر يذكر في الثقافة الفرنسية(5). وبالتالي فإن “البنيوية” لم تنتقل من “حلقة براغ اللغوية” بشكل مباشر إلى فرنسا، وإنما انتقلت بشكل أساسي عبر ((كلود ليفي شتراوس)) مما جعل الفهم الفرنسي للبنيوية متأثرا كثيرا بتكييفات ((شتراوس)) للـ«الإلهام» الذي تحدث عنه وفق وصفه.
وتكيفات ((شتراوس)) كانت حماسية، ومتعجلة جدا كما أشرت في البداية، حتى أنه يقول: «سوف تقوم “البنيوية الألسنية”Structural Linguistic حتما بنفس الدور التجديدي الذي قامت به “الفيزياء النووية” Nuclear Physics في العلوم الفيزيقية؛ لكي يؤدي ذلك إلى احترام العلوم الاجتماعية، مثلما فعلت “الفيزياء النووية” مع العلوم الطبيعية»»(6)، لكن هذا التعجل الشديد، والتوقع للنتائج قبل اجراء التطبيقات اللازمة – وهو ما ينافي العلمية في حد ذاتها، فضلا عن كون محاولات ((شتروس)) تعتمد كثيرا على نتائج جهده التجميعي حول قبائل وسط البرازيل، وبالطبع فإن طبيعة الموضوع ذاته، تؤثر على المنهج المستخدم، خاصة لو كان هذا الاستخدام تجريبي، أقصد أنه استخدام له مردوده على النتائج المتوقعة، والمنهج المستخدم؛ فمثلا، لو كانت ملاحظات ((شتروس)) قد تمت حول قبائل في أسيا، أو في جنوب أفريقيا، هل كان سيصل للنتائج ذاتها؟ صحيح ((شتراوس)) أكد على وحدة بنية العقل البشري، لكن تمفصلات الظواهر الاجتماعية تختلف، وبالتالي تحتاج لمناهج مختلفة في التعامل معها، لكن “البنيوية” ذاتها تتعارض مع هذه المقولة، وهي تقدم إيمانها التقني بوجود نموذج واحد ينطبق على أكبر كم ممكن من الظواهر، وعلى الباحث أن يصل لهذا النموذج.
على أية حال، ليس من هدفي هنا مناقشة قناعات الفكر البنيوي، وإنما إلقاء الضوء حول حلم الوصول للعلمية في الدراسات الأدبية الذي كان مصاحبا بشكل زاخم للطور الفرنسي من “البنيوية”؛ والطريف في الأمر، وخلافا لما ينتشر بين الكثيرين من الدارسين، فإن الطور الفرنسي من “البنيوية”، بقدر ما أسهم في ظهور ما أصبح يُعْرَف بـ«نظرية الأدب المعاصرة»، إلا أنه مسئول أيضا عن عدم اكتمال النضج الطبيعي للنظرية “البنيوية”، ومحاولة ارتياد الأفق الذي يمكن أن تصل له لو أن محاولات فهم طبيعة النص الأدبي جرت بعيدا عن الصاق مواقف اُتخذت كرد فعل من وقائع تاريخية – اجتماعية معينة؛ وأقصد تحديدا هنا موقف ((رولان بارت)) من المطالبة بالغموض، حتى أن ((بارت)) يقول: «يعيش مجتمعنا الفرنسي، منذ أمد طويل، ((الوضوح)). إلا أنه لا يعيشه نوعا بسيطا للإيصال اللغوي، شأنه في هذا شأن صفة متحركة نستطيع أن نطبقها على لغات عدة. إنه يعيش الوضوح كلاما منفصلا: فالمقصود أن يكتب المرء لغة مقدسة بعينها، تنتمي إلى اللغة الفرنسية، تماما كما كُتبت الهيروغليفية، والسنسكريتية، ولاتينية القرون الوسطي. إن هذه اللغة المسامة ((الوضوح الفرنسي)) هي لغة سياسية في أصلها. وقد ولدت في الوقت الذي رغبت فيه الطبقات العليا – وبموجب صيرورة إيديولوجية معروفة – أن تجعل من فرادة نقدها لغة عالمية. ولكي تبلغ مرماها هذا، فقد أدخلت في الاعتقاد أن ((منطق)) اللغة الفرنسية منطق مطلق: إن منطق الفرنسية يتجلى في تقديم الفاعل، ثم الفعل، وأخيرا المفعول, وذلك انطباقا على نموذج ((طبيعي)) كما يقولون. ولقد قوضت اللسانيات الحديثة هذه الخرافة: فليست الفرنسية أكثر أو أقل ((منطقية)) من لغة أخرى.»(7)
والحقيقة أن مسوغ ((بارت)) للغموض، باستشهاده بأن “الألسنية” لا تُعْطِي أفضلية للغة عن لغة، وترى في كل لغة قدرتها على توصيل المعنى تماما مثل باقي اللغات، هو استدلال في غير موضعه، فانتهاج مبدأ الغموض، جاء كرد فعل على الأسلوب النقدي المعتمد في السوربون منذ أمد، للدلالة عن قدرة الناقدين من خارج هذا الصرح الأكاديمي، على تقديم خطاب، قد يعجز الأكاديميون أنفسهم عن التعامل معه، وهذا المنطق العجيب دفع الكثير من الكتابات النقدية في اتجاه المغالاة في التقنية المصطلحية، فغرقت في استشكال المعنى مما لا يزال له تأثيره في النظرية المعاصرة، وهذه المغالاة المصطلحية، جعلت الطلاب يهتفون في مظاهرات مايو (1968م) بفرنسا ضد “البنيوية” باعتبارها تمثل نزعة تحكمية تسلطية، تشبه التسلطية العسكرية للدولة، خاصة مع إدخال لفظة “البنيوية” إلى مختلف مجالات الحياة في فرنسا، بدءا من المطبخ، وانتهاء بلعب الكرة(8)، وهذا الحدث الضخم، هو ما جعل ((بارت)) يتحول سريعا عن التمسك بالوعد البنيوي بالدراسة العلمية، ليميل ناحية بذور “التفكيك”، ورغم أنه فعليا كان ((جاك دريدا)) قد طرح ذلك في وقت سابق، إلا أن الهزة السياسية العنيفة لفرنسا ستجعل التحول السريع عن “البنيوية” هو السمة السائدة، لكن ذلك حدث في الوقت نفسه مع بزوغ نجم الاجراءات المقننة في الممارسة النقدية، لتبرز إلى ساحة الدراسات الأدبية مصطلحات مثل: “التحليل الأسلوبي”، “التناص”، “علم النص”، السيميولوجيا، “علم السرد”، “نظريات التلقي”، وغيرها من النظريات صاحبة الاجراءات التقنية المحددة، والتي يُعَدُّ أغلبها امتدادا لمحاولات استلهام مبادئ “الألسنية” في التعامل مع الظاهرة الأدبية.
بالطبع هناك الجانب الاجتماعي في الدراسات الأدبية، الذي يحاول أن يوازن بين الانغلاق النسقي في الدراسة “البنيوية”، وبين الوقائع والتأثير والتأثر بين المجتمع، والنصوص، وهي لها منحى آخر في الافادة من تطورات الدرس الاجتماعي المعاصر مثلما تتبدى عند ((لوسيان جولد مان)) مثلا، فضلا عن تكييفات ((التوسير)) للدراسات الاقتصادية في الواقع الاجتماعي، لكن بالتأكيد يتعذر متابعة جميع تطورات أنماط الدراسات الأدبية منذ انفجارها المعرفي مع تأثرها بالألسنية، حتى الانتهاء بالوضع الراهن، لكن الطريف في الأمر، أن ما بدأ برغبة حثيثة في إثبات الذات البحثية للدراسات الأدبية بتحقيق طبيعة علمية للبحث في العلوم الإنسانية بعامة في ستينيات القرن الماضي، انته بتقبل فكرة خصوصية البحث الأدبي، وترسيخ مبدأ «الخطأ المنطقي» في المقارنة بين نتائج مجالين مختلفين في الطبيعة والمكونات، أعني نتائج العلوم التطبيقية، ونتائج الدراسات الأدبية، ليتم بدلا من ذلك الاتفاق على وجود قدر كبير من النظريات النقدية يمكن لمن سيقوم بتحليل الأدب أن يختار من بينها، أو يمزج بين بعضها البعض في نماذج توفيقية فيتم مثلا مزج الحركة النسائية، بالماركسية، أو التفكيكية، أو يتم مزج الماركسية بما بعد الحداثة، أو ما بعد البنيوية أو ما بعد الكولونيالية، وهلم جرا، ويميل الكثيرون من النقاد هذه الأيام إلى العمل بطريقة تجميعية بالانتقاء من بين عدد من النظريات ودمجها معا بما يخدم منظورهم الشخصي.(9)
هناك جانب خفي من البحث في تاريخ الأفكار، وتاريخ النظريات الأدبية والاجتماعية، وأصول العلوم الإنسانية بعامة، وهو جانب التأثيرات السياسية للواقع الاجتماعي على تفكير مؤسسي النظريات. فمثلا، في مقابل الرصانة الفرنسية التي انطلقت مع ستينيات القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة الأمريكية عبر جامعاتها تدعم الاتجاه منفتح الأبعاد في الدراسات الاجتماعية، فنمت في كنف الامبريالية الأمريكية الجديدة، دراسات النسوية Femminism، والنقد الأسود Black Cretisism، وغيرها – رغم أنها تبدو ضد السياسة الأمريكية العامة ظاهريا، وسواء كانت تقصد أمريكا بسياساتها هذا التأثير الثقافي من عدمه، فإن واقعها الاجتماعي كان له تأثيره الخاص على المنحى التاريخي للنظرية الأدبية، ففي جامعة «جون هوبكنز»، و«يال» مثلا، ظلت رعاية الاتجاهات ما بعد البنيوية هي السمة السائدة لأغلب الجهد الأكاديمي هناك، و((رومان ياكبسون)) نفسه، أحد مؤسسي حلقة موسكو اللغوية، والذي استقر به المطاف في الولايات المتحدة الأمريكية، هل يمكن تخيل مسار أبحاثه لو أنه لم يكن مضطرا للرحيل المتواصل من روسيا إلى تشيكلوسفاكيا ثم إلى أمريكا؟ إنه جانب كبير من الفهم التحليلي لمسار وسياق توليد الرؤى والاطروحات أزعم أنه ما يزال غائبا عن دراساتنا العربية، ونحتاج له بشدة.
على سبيل المثال، يقول الدكتور ((حامد أبو أحمد)): «ولهذا فإني ما زلت أذكر كيف أدى تطور العلوم النظرية في أواخر السبعينيات، ونحن ندرس في جامعة مدريد بإسبانيا، إلى تحويل كلية الآداب والفلسفة إلى أكثر من عشر كليات، بحيث غدا كل قسم من الأقسام كلية قائمة بذاتها، وبعد أن كنا ندرس في كلية الآداب أصبحنا ننسب إلى كلية جديدة هي ((كلية فقه اللغة))؛ لأن ما جد في دراسات علم اللغة، وما نشأ من علوم جديدة، اضطر القائمين على الأمر إلى أن يحدثوا نوعا من المواءمة مع الواقع العلمي الجديد …»(10)، السؤال الذي أطرحه مستلهما ما ذكره الدكتور((أبو أحمد)): هل يوجد لدينا في عالمنا العربي معرفة وتتبع تاريخي للتغييرات الأكاديمية التي تمت بناء على اكتشافات واسهامات الألسنية المعاصرة في العديد من الجامعات الغربية؟ فاستحدثت أقسام، وضمت أقسام إلى أخرى، بل استحدثت قطاعات من البحث لم تكن موجودة مسبقا، هل لدينا دراسة في عالمنا العربي لمثل هذا الجانب المصاحب لتاريخ الأفكار والنظريات وتأثيراته على بنية الجامعات الغربية وأقسامها؟ وكذلك تأثيراتها على الصحافة الأدبية والبرامج التليفزيونية والحوارية المهتمة بالأدب في الواقع الغربي؟ أم أننا نكتفي فقط بالتعريف والنقل ومحاولة التطبيق، دون بحث وتحليل سياق ما نقتبسه؟
السؤال الثاني: هل يمثل حلم العلمية في الدراسات الأدبية بالنسبة للثقافة العربية، هاجسا ملحا بالقدر الذي كان يمثله السؤال في ستينيات القرن الماضي في التقاليد الغربية؟ وإذا ما كان البحث الأدبي الغربي قد اطمئن لرصيده المدجج بالنظريات القابلة بالتطبيق والدمج أحيانا في سياق “نظرية الأدب المعاصرة”، ففي المقابل هل نحن مطمئنون إلى ما قمنا به من عملية إحياء للتراث في حقبة الاحياء النقدي (1876م-1920م)(11)، وما تلاها من تعاقبات في الممارسة والتنظير العربي، حتى وصلنا لصورة المشهد الحالي الذي هو وليد تكثيف طرح المناهج النقدية المعاصرة منذ ثمانينيات القرن الماضي في العالم العربي؟ هل يمكن أن تؤدي أية اكتشافات علمية أو تنظيرية يوما ما إلى تغيير بنية الجامعات الأكاديمية العربية، وتغيير أقسامها المستقرة منذ نشأتها، بحيث يصبح هناك مكان لدراسة “نظرية الأدب المعاصرة” بشكل يُمَكِّن الثقافة العربية من فهمها واستيعابها، والتفاعل والتحاور معها؟ أم أن الصورة المستقرة حول «علمية الدراسات الأدبية» في العالم العربي بعامة، تشير إلى تلك الدراسات التي أُنجزت في التراث العربي، وانته الأمر عند هذا، ليصبح مجرد تحفيظ البلاغة، وفهم أراء القدامى حول الشعر والموازنات، وشروحات القصائد، وحروف الهمس والجهر وغيرها مما يندرج في اطار التراث النقدي العربي – وهي أمور لا شك أنها على قدر هام جدا، إذ تمثل الجذور الأساسية للطبيعة اللغوية للغة العربية ذاتها التي لا يمكن تجاهلها في أية عملية تحليلية لأي نص عربي- إلا أنها تحتاج الآن بعدما انفتحنا على سياق النظريات الأدبية المعاصرة إلى توظيف مغاير، بحيث تُصبح هذه المعطيات الأولية لتحليل النصوص مصحوبة بمنظور أشمل، يتم فيه توظيف هذه المعطيات للخروج بنتائج، تُسهم في فهم الواقع الاجتماعي من ناحية، وبنية العقل العربي الذي أنتج النصوص الأدبية على مختلف العصور وصولا لعصرنا الراهن من ناحية أخرى.
في اعتقادي أننا بحاجة ماسة إلى قدر مُكثف من الدراسات حول تاريخ الأفكار، وتاريخ الدراسات الإنسانية بعامة في العالم اجمع، لا سيما أن هناك جانبا كبيرا من الدراسات التي تمت في شرق آسيا على قدر كبير من الأهمية لكن لا نعرف عنها شيئا، فضلا عن بعض الدراسات في استراليا، ولكننا عند دراسة هذا التاريخ الفكري لا بد أن نراعي الاهتمام بأمرين، الأول: دراسة السياق والواقع وتبادلات الناحية الاجتماعية السياسية وتأثيراتها على انتاج الافكار نفسها، الآخر: دراسات الاحتياجات الفكرية، ومتطلبات البنية الثقافية العلمية، التي لا يمكنها أن تقبل التداخل القصري مع مسارها، ومهما كان هناك من تأثير عليها، إلا أنها لها منحاها الخاص في التفاعل الفكري.
وإن لم يكن هناك مشروع مقنن في هذا الاتجاه، إلا أنه قد قُطِع أشواطا كبيرة في الثقافة العربية مع الكثير من الجهود الشخصية والترجمات – مع غياب الاهتمام بجانب السياق التاريخي الاجتماعي – في جانب متابعة الأفكار والنظريات العالمية، لكن ما لا يبدو أنه قد تمت فيه دراسات على نحو تمكننا من اتخاذ القرار والحكم، هو الجانب الآخر، أقصد جانب دراسة واقعنا نحن الفكري والثقافي، وسياقنا نحن أيضا التاريخي الاجتماعي، لكي نعرف إلى أين يسير واقعنا العلمي في الدراسات الأدبية، واتخاذ القرارات الأكاديمية أو الثقافية العامة التي يكون لها مردودها في أرض الواقع، ورغم أني أعرف ضرورة القيام بهذه الدراسات، إلا أن مسئولية من يجدر أن يقوم بها تبدو غير واضحة بالنسبة لي؛ ليتوقف الأمر عند مجموعة من الجهود التي طُرحت في بعض الرسائل الجامعية، وبعض الكتابات الفردية في إطار «نقد النقد» في حدود اطلاعي، وهو أمر يحتاج للنظر ولوجود مشروع قومي للبحث والدراسة مع أخذ نتائجه على محمل الجد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]-)Claude Lévi-Strauss: Structural Anthropology, Chapter II, Structural Analysis in Linguistics and in Anthropology, Penguin Press, 1968.
(2-) أنظر: ليونارد جاكسون: بؤس البنيوية: الأدب والنظرية البنيوية، ترجمة: ثائر ديب، وزارة الثقافة، دمشق،2001م.، صـ128.
(3-) أنظر: فرانسوا شاتليه: تاريخ الفلسفة، الجزء الثامن، علي هامش: فرانسوا دوس: كلود ﻟﻴفي شتراوس: مؤسس البنيوية وآخر الكبار، مجلة المنار، [عدد رقم (6)]، السنة الأولي، يونيو 1958م، صـ146..
(4-) نقلا عن: ليونارد جاكسون: بؤس البنيوية، مرجع سابق، صـ96-97.
(5-)Lubomír Doležel: Structuralism of the Prague School, IN: The Cambridge History Of Literary Criticism, Volume VIII, From Formalism to Poststucturalism, ED: Raman Selden, Cambridge University Press, New York, 2005, P.36
(6-)Claude Lévi-Strauss: Structural Anthropology,OPCIT.
(7-) رولان بارت: نقد وحقيقة، ترجمة: د.منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، الرباط، 1994م ، صـ55-56.
(8-) راجع كلا من:
(1) تيري ايجلتون: مقدمة في نظرية الأدب، ترجمة: أحمد حسان، الهيئة العامة لقصور الثقافة، [سلسلة كتابات نقدية رقم (11)]، القاهرة، سبتمبر 1991م، صـ171.
(2) كاترين كليمان: من البنية إلى أوربا، تعريب: عبد الكريم شوطا، مأخوذة من الإنترنت، في تاريخ 21/1/2006م، علي الرابط التالي:
http://www.fikrwanakd.aljabriabed.net/n08_18chuta.htm.
(9-) راجع: ستيوارت سيم، وبورين فان لوون: أقدم لك: النظرية النقدية، ترجمة: جمال الجزيري، مراجعة وإشراف وتقديم: إمام عبد الفتاح إمام، المشروع القومي للترجمة – سلسلة آفاق، المجلس الأعلى للثقافة، عدد 839، القاهرة، 2005م صـ17.
)10-)حامد أبو احمد: مقدمة ترجمته لكتاب: خوسيه ماريا بوثويلو إيفانكوس: نظرية اللغة الأدبية، مكتبة غريب، القاهرة، 1992م، صـ10
)11-) راجع حول هذا التاريخ، وحول ما تم في مرحلة الاحياء النقدي في النقد العربي: وائل النجمي: متاهة النقد العربي المعاصر، دار العلم والايمان بكفر الشيخ، 2009م.