أعلام النقد الغربي

لوسيان غولدمان – Lucien Goldmann

 

قبل العام 1933 لم يكن غولدمان قد تعمق بعد في دراسة الأدب والفكر، إلا أن ذهابه إلى فيينا كان مفترق طرق، حيث اتجه فيها إلى الأدب والفلسفة بعدما تعرف على المفكر الماركسي ماكس إدلر، وعرف حينها الماركسية النمساوية ومدرسة فرانكفورت. وكان لوسيان غولدمان قد ولد في مدينة بوخارست لأب وأم رومانيين، وعاش طفولته في مدينة بوتوساني، وبعد أن أنهى الثانوية عاد إلى بوخارست ودرس فيها الحقوق، وخلال دراسته هذه تعرف على الفكر الماركسي واحتك به فعليا عبر دراسته للحقوق واطّلاعاته. في عام 1934 انتقل غولدمان إلى باريس وبدأ بتحضير رسالة الدكتوراه في جامعة السوربون، حيث اختص فيها بالاقتصاد السياسي. وفي باريس تشكلت أولى ركائز منهجه، الذي ستتبلور ملامحه فيما بعد وأبرزها كان الكلية والشمولية.

  • السجين الهارب

غولدمان يودع السجن بعد احتلال القوات النازية فرنسا إلا أنه استطاع الهرب متجها بعد ذلك إلى سويسرا، إلا أن النازيين كشفوا أمره واعتقلوه ثانية إلى أن أخرجه الفيلسوف الفرنسي جان بياجيه. ليبدأ بعدها بالتحضير للدكتوراه في جامعة زيوريخ، حيث اختص حينها بفلسفة كانط وكانت أطروحته تحت عنوان “المجموعة الإنسانية والكون لدى عمانوئيل كانط” بالإضافة إلى عمله مساعدا لبياجيه.

في جنيف بدأت تتبلور أفكار منهج غولدمان في رأسه حيث شرع يفكر في التقارب بين الفكر الماركسي والنظرية التكوينية لبياجيه، بالإضافة لاكتشافه الأعمال الثلاثة الكبرى للمفكر الهنغاري الماركسي جورج لوكاتش وهي “الروح والأشكال” و”التاريخ والوعي الطبقي” و”نظرية الرواية” وعكف على دراسة أفكار لوكاتش الشاب ومقولاته الفلسفية.

  • غولدمان وجورج لوكاتش

كل من يعرف لوسيان غولدمان يعرف الأثر الذي تركه في منهجه المفكر العملاق جورج لوكاتش، فبعيد اكتشاف غولدمان لمؤلفات لوكاتش الشاب والتماسه الثورة في تلك الكتابات، عكف غولدمان على فهم فكر لوكاتش، فكان بذلك أول مفكر أوروبي بحث في المنهج “اللوكاتشي”. ومن شدة تأثره بلوكاتش وإعجابه به ألف كتابا بعنوان “لوكاتش وهايدغر” باعتبارهما من أهم الأعلام البارزين في الفلسفة المعاصرة، حيث حلل في هذا الكتاب رؤى لوكاتش ومقولاته الجمالية، وأبرز العناصر الهامة التي استفاد منها في تكوين أسس مذهبه.

أول ما أعجب به غولدمان في فكر لوكاتش هو مفهوم “النظرة المأساوية للعالم” التي عبر عنها الأخير في كتابه “الروح والأشكال” إذ أن النظرة المأساوية طغت على المفكرين اليساريين بداية الحرب الباردة، لا سيما الهزائم التي منيت بها الطبقة العاملة في فرنسا، زد عليها محاكمات ستالين الكبرى.

ويتوضح أن غولدمان انطلق من النظرة الشمولية في فكره وبعدها بدأت تتشكل علامات منهجه الخاص. ظهر أيضا ارتباطه بالنظرة الهيغيلية، إذ يعتبر هيغل أن الفن هو التعبير الحسي عن الفكرة وهو نفس المعنى الذي يشير إليه غولدمان في تحديده للقيمة الجمالية والقيمة الأدبية، ولأن الحسي مرتبط دوما بالجزئي والعيني، فإنه يحاول دراسة هذا الجدل القائم بين الجزئي والكلي، والمجرد والعيني من خلال دراسته للبنية الرئيسية في العمل الأدبي التي تفصح عن رؤية العالم.

يظهر للقارئ الحاذق ذلك التقارب الفكري بين كتاب غولدمان “الإله الخفي” وكتاب لوكاتش “الروح والأشكال”، فغولدمان كان قد اقتبس الكثير من الأفكار وطبقها على المجتمع الفرنسي في القرن السابع عشر، فاكتشف البنى الذهنية والأيديولوجيات التي قام عليها فكر باسكال وراسين. وعالج من وجهة نظر ماركسية الوضع الاجتماعي التي تبنت هذه النظرة وعلاقتها بالمجتمع والتاريخ. كما ظهر فكر لوكاتش في مؤلفات غولدمان من خلال التأثر بكتبه “نظرية الرواية”، و”من أجل سوسيولوجيا للرواية” و”التاريخ والوعي الطبقي” و”الماركسية والعلوم الإنسانية”.

كتاب “الإله الخفي” لغولدمان يقوم على فكرة أساسية تقول إن الأفعال والوقائع الإنسانية تمثل بناء كليا دلاليا، وتتسم بأنها عملية ونظرية وانفعالية على حد سواء، وأن هذا البناء لا يمكن أن يدرس إلا من خلال منظور عملي مؤسس على قبول مجموعة معينة من القيم
السوسيولوجيا الجدلية للأدب أو البنيوية التكوينية، هي المنهج الذي تمخضت عنه دراسات لوسيان غولدمان، وهي منهجية تبحث في العلاقة بين العمل الأدبي وأثره الاجتماعي الذي يسبقه، وهي ليست مجرد توازٍ بين هذه العلاقات، بل تشبه الاندماج الكلي لسلسلة من الجزئيات.

الفرضية المبدئية لما يدعوه غولدمان بـ”البنيوية التكوينية” هي أن السلوك البشري سلسلة من الأجوبة أو الردود ذات الدلالة على مواقف توجهها الذات، وتحاول أن تقيم نوعا من التوازن بينها وبين العالم المحيط بها. ولكن تلك المواقف تتغير بتغير الظروف المحيطة بها، مما يدعوها إلى إقامة توازنات جديدة تستجيب للمواقف الطارئة. ويمكن تطبيق هذه المقولات على كل الردود الإنسانية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو نفسية.

التكويني أو التوليدي ليس له علاقة بالمنشأ، بل هو يهتم بالسياق التاريخي والاجتماعي والثقافي، الذي يظهر فيه الإنتاج، حيث لا يمكن عزل أيّ عمل أدبي أو فني عن سياق، فكل مسألة يجب فهمها من خلال الإطار العام المحيط بها، ومن خلال تاريخ المجتمع الذي نشأت به حيث تساعد مجمل التفاصيل على فهم الوضع الشمولي لمجتمع معين. والبنية عند غولدمان ترتبط حتما بالأعمال والتصرفات الإنسانية، وإذ يكون فهمها محاولة لإعطاء جواب بليغ على وضع إنساني معين، لأنها تقيم توازنا بين الفاعل وفعله أو بين الأشخاص والأشياء. فبالتالي صفة التكويني تعني الدلالي.

إذن بخلاف البنيويين المنكبّين على دراسة اللغة، يعتبر منهج غولدمان أن التفسير السوسيولوجي هو أحد أكثر العناصر أهمية في تحليل العمل الفني. مدققا بأن هذا التحليل لا يؤدي بالضرورة إلى فهم المعنى كاملا، وهو لا يشكّل إلا خطوة أولى ضرورية في دراسة الأعمال الفنية والأدبية. المهم هو العثور على المسار الذي عبر في الواقع التاريخي والاجتماعي عن نفسه بواسطة الحساسية الفردية للمبدع. فالبنيوية التكوينية ليست المفتاح لكل شيء، إنما هي منهج للعمل يتطلب عدة أبحاث طويلة، وهي دراسة البنيات لا من حيث أنها سكونية لا زمنية بل دراسة وظيفتها العملية الجدلية وصيرورتها، والانتقال من السكونية التزامنية إلى الدينامية التتابعية.

منطلقاً من البعد السيوسيولوجي كأهم الأبعاد في عملية تحليل الإنتاج، يثبت غولدمان أن العلاقة الجوهرية بين الحياة الاجتماعية والعمل الأدبي تتعلق بشكل مباشر بالبنيات الذهنية أي بالأيديولوجيا التي تقوم عليها الطبقات الاجتماعية والعالم المتخيل للمبدع، إذ أن البنيات الذهنية هي اجتماع وليست فردية، وبالتالي تكون هذه البنيات الذهنية كامنة وتعمل بشكل لا إرادي وغير مباشر ولا تتعلق بالشعور واللاشعور بل تبقى وكأنها في مرحلة عمل غير مباشرة. بالمقابل فهو يرى أن وعي المجموعة الاجتماعية وعالم الإنتاج لا يكونان بالضرورة منسجمين.

لذلك تتم دراسة البنيات من خلال البحث التكويني التوليدي وليس عن طريق دراسة حياة الكاتب أو التطرق إلى علم النفس لمعرفة الظواهر الشعورية له. وذلك انطلاقا من الفكر البنيوي التكويني القائل بالبحث الأعمق عن التاريخي والفردي لأنه يمثل جوهر المنهج وهو الدراسة المثلى للتاريخ. إذن فهي تسعى إلى تحقيق وحدة بين الشكل والمضمون. بين حكم القيمة وحكم الواقع، بين التفسير والفهم بين الغائية والحتمية.

السوسيولوجيا الجدلية للأدب أو البنيوية التكوينية، هي المنهج الذي يخلقه لوسيان غولدمان، وهي منهجية تبحث في العلاقة بين العمل الأدبي وأثره الاجتماعي الذي يسبقه، وهي ليست مجرد تواز بين هذه العلاقات، بل تشبه الاندماج الكلي لسلسلة من الجزئيات

  • كتاب الإله الخفي

يُعتبر كتاب الإله الخفي الذي ألّفه لوسيان غولدمان عام 1955 من أهمّ كتبه وأنضجها، عالج فيه الأدب والفكر الفرنسيَّين في القرن السابع عشر. وبعد مرور نصف قرنٍ من تأليف هذا الكتاب مازال يُعتبر من أهمّ الكتب النقدية التطبيقية الحديثة.

إنّ السياق التاريخي والاجتماعي الذي ظهر فيه كتاب الإله الخفي مهمٌّ جداً لمعرفة خصوصية هذا الكتاب وكيف تلقاه القُرّاء والنقاد، ولتتكشّف لدينا المعاني الحقيقية التي أقام عليها لوسيان غولدمان نظريته.

يقوم الكتاب على فكرة أساسية تقول إنّ الأفعال والوقائع الإنسانية تُمثّل بناءً كلياً دلالياً، وتتسم بأنّها عمليّة ونظرية وانفعالية على حدٍّ سواء، وأنّٕ هذا البناء لا يمكن أن يُدرس إلا من خلال منظورٍ عمليّ مؤُسَس على قبول مجموعة معيّنة من القيم.

“وقد استطاع غولدمان إيجاد مثل هذا البناء الذي أطلق عليه الرؤية التراجيدية والذي سمح له بأن يستخلص ويفهم جوهر العديد من المظاهر الإنسانية: الأيديولوجية واللاهوتية والفلسفية والأدبية، وأن يضع تحت الأضواء تشابهاً في البناء بين كل هذه الوقائع لم يسبق أن التُفت إليه إلاّ نادراً”، إذ أنّه عالج موضوعاً دينياً بفكرٍ ماركسي.

فأهميّة الكتاب تأتي من المنهج التطبيقي البنيوي الذي أنتجه غولدمان بغية الوصول إلى فهم البنية الذهنية المجتمعية من خلال الإنتاج الأدبي والفنّي. في هذا الكتاب يدرس غولدمان الرؤية المأساوية للحركة الجانسينية التي تُمثّل طبقة اجتماعية فقدت دورها السياسي والاجتماعي، وهي طبقة نبلاء الرداء والتي بلورت أيديولوجيتها من خلال تطرف ديني وأخلاقي لا يقبل بأنصاف الحلول أو بالتسويات. فالإنسان حسب الجانسينية مُمزّق بين الله الخفي والعالم المرفوض الذي لا يمُثّل شيئاً بالنسبة إلى عظمة الله.

من خلال المنهج التكويني والدراسة السوسيولوجية التي قام بها على مسرح راسين وخواطر باسكال، اعتبر غولدمان أنّ العمل الأدبي والفني هو ليس فقط انعكاس للوعي الجماعي، بل هو تطوير منهجي للنزعات الممكنة في هذا الوعي وترجمتها إلى عالم متخيل فالفرد الواحد لا يستطيع أن يحمل عملية الإبداع الفني، لأنّ العمل الفني هو تعبير عن الفكر الجمعي الذي يشاركه الفرد مع المجموعة البشرية التي ينتمي إليها.

“الفكر الجدلي يؤكد أن لا وجود أبداً لنقاط انطلاق أكيدة ولا لمسائل محلولة بشكل نهائي، وأنّ الفكر لا يتقدم أبداً بخط مستقيم لأنّ كل حقيقة جزئية لا تأخذ معناها الحقيقي إلا عن طريق مكانها في المجموعة، كما أنّ المجموعة لا يمكن معرفتها إلا بواسطة التقدم في معرفة الحقائق الجزئية وهكذا التدرج في المعرفة كتأرجحٍ مستمر بين الجزئيات والكل، إذ يجب أن يوضّح أحدهما الآخر”. وهذا يعني أنّ دراسة مسألة ما لا تكتمل أبداً في مجموعها ولا في العناصر التي تؤلفها، فمن جهة من البدهي أننا عندما نبدأ عملاً ما من جديد نجد ما كان يجب أن نضعه في البداية، ومن جهةٍ أخرى ما يصلح للكل يصلح لأجزائها، ولأنها ليست عناصر أولية فهي في مستواها مجاميع نسبية.

والفكر مسيرة حية من الممكن أن تتطور في الواقع، فلذلك لا يصلح الكل دون أجزائه وما يصلح للكل يصلح للأجزاء.

“لا تكتسب فكرة ما أو عمل ما دلالته الحقيقية إلا عندما يندمج في المجموع من حياة وسلوك ما، وأضف إلى ذلك أنه قد يحصل غالباً أن يكون السلوك الذي يسمح بفهم العمل ليس سلوك الكاتب، بل سلوك مجموعة اجتماعية ما قد لا ينتمي إليها الكاتب أو بالتحديد سلوك طبقة اجتماعية معينة، عندما يتّصل الأمر بأعمال هامة”. وهذا انطلاقاً ممّا يقوم عليه الفكر الجدلي الذي يقول بأنّ المعاني تبقى سطحية وظاهرية إذا لم يتم دمجها في السياق أو المجموعة التي تسمح بفهم جوهرها ودلالتها.

ومن جهة أخرى يطرح غولدمان في فصل الكل والأجزاء موضوعة متعلقة بذات الكاتب أو سيرة حياته وبمعنى أدق النصوص التي أُدخلت عليها ذات الكاتب، ويرى غولدمان أنّ كلَّ دراسة فقهية لغوية تصطدم بعقبات إذا لم يتم إدماج العمل بالسياق التاريخي الذي يشكل جزءا منه. ليس المقصود استبعاد دراسة السيرة من عمل المؤرخ فغالباً ما تحمل له إيضاحات ذات أهمية بالغة، وٕإن كانت تتعلق بنقاط تفصيلية. ومع ذلك ستبقى دائماً طريقة بحث مساعدة وجزئية يتوجّب أن نفحص نتائجها بطرائق مختلفة، وألاّ نجعل منها أساساً للشرح مهما كلّف الأمر. ويتساءل الكاتب عن حدود العمل: هل هي كل ما كتب الكاتب من رسائل ومنشورات؟ أم هي تنحصر فقط بالأعمال المنشورة له؟

هذا يسمح بتطوير سوسيولوجيا الإبداع الأدبي التي من الممكن تطبيقها على المؤلّفات الأدبية الكبرى، ومن أهم النماذج والتطبيقات العملية السوسيولوجية على الأدب هي كتاب الإله الخفي. فمن خلال دراسة خواطر باسكال ومسرح راسين استطاع غولدمان إظهار البنية المأساوية للجانسينية في المجتمع الفرنسي في القرن السابع عشر، والرؤية التراجيدية المقسمة إلى ثلاثة أقطاب (الله، العالم، الإنسان) وكيف أنَّ هذه الرؤية تصلح لدراسة ومناقشة مختلف المؤلفات الأدبية الكبرى، وتُظهر محاولة غولدمان وبحثه للوصول إلى منهج وضعي مناسب لدراسة الأعمال الفلسفية والأدبية.

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى