الدراسات اللغويةلسانيات

تجليات الألسنية الحديثة في تراثنا اللغوي

  • ملخص

حاولت في هذا البحث المقتضب أن أقدم صورة مقاربتية؛ مركز على بعض المنطلقات الأساسية للألسنية الحديثة في تراثنا اللغوي القديم. وقد أتيت في هذا المقام بمجموعة من النماذج تمثل لحد ما؛ مدى اهتمام لغويينا القدامى بالدرس اللساني، ومحاولة مقارنتها نسبيًا بما انتهت إليه الدراسات الألسنية الحديثة.

وغرضي من هذا كله، هو استشراف الجديد كما سعى ويسعى إليه غيرنا من العلماء والدارسين في هذا المجال.

لقد أثبتت الدراسات اللغوية الحديثة بوجود أواصر صلة بين بعض اللغات وانفصالاً وغربة بين بعضها الآخر، بيد أنها لم تنف الخصوصيات التي تتمايز  به بعض اللغات عن غيرها…

وكما أنه تعد عملية إسقاط النظريات الألسنية شكلاً ومضمونًا على لغتنا قديمها وحديثها عملاً بعيدًا عن المنطق العلمي، فلا يصح أيضًا الاستهانة بما جادت به قرائح الأقدمين، والدعوة إلى التخلي عنها بذريعة أن الدراسات الألسنية تعتمد منهجًا علميًا سخرت فيه التكنولوجية لخدمة اللغة..

وسنقتصر في هذا المقال المتواضع الإشارة إلى عينات من آراء لغويينا تنسجم إلى حد ما مع ما نادت به الألسنية الغربية. ولن نبالغ إذا قلنا إن الألسنيين الغربيين المنصفين متأثرون بما ابتكرته عبقرية العرب في القديم ومعترفون بما أخذوه عنا.

وهذا ما ذهب إليه أحد الألسنيين العرب(1): (… لقد أثبت باحثون لسانيون غربيون معتدلون أمثال روبنز وتشومسكي تأثر اللسانيات الحديثة بالتراث اللغوي العربي وذلك عن طريق وسائل مختلفة سواء أكانت مباشرة أم غير مباشرة).


  • أولاً- نظرة موجزة عن الألسنية

الألسنية(2): هي دراسة علمية للغة، وقد عرفها مؤسس الألسنية دي سوسير بما ترجمته(3): (موضوع علم اللغة الوحيد والصحيح هو اللغة معتبرة في ذاتها ومن أجل ذاتها).

ظهر هذا العلم في أوروبا في القرن الثامن عشر، ثم تطورت بحوثه واتسعت دائرة اهتماماته في القرن التاسع عشر. أما في القرن العشرين فإن دي سوسير فرق بين الدراسة التاريخية للغة، والدراسة الوصفية.

وقد عرف هذا العلم بتطور الزمن أنواعًا أخرى:

– علم اللغة المقارن- علم اللغة التركيبي- علم اللغة الجغرافي.

ولمزيد من الدقة العلمية، حدد الألسنيون المستويات التي يجب أن تدرس اللغة بموجبها، فإذا هي:

المستوى الصوتي – المستوى النحوي  – المستوى الدلالي – المستوى المعجمي.

ويبحث علم اللغة إضافة إلى هذه المستويات الأربعة في ماهية اللغة، ووظيفتها، وبيئتها، وطريقة جمع مادتها.


  • ثانيًا- جهود العرب اللغوية

نجد في تراثنا اللغوي قدرًا هائلاً من الدراسات والأبحاث التي تلتقي في بعض ما ذهبت إليه مع ما انتهت إليه الألسنية الحديثة. من أهمّ هذه الدراسات، نذكر أصوات اللغة العربية من الناحية الفيزيولوجية التي عالجها كل من الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175هـ) وسيبويه (ت 180هـ).

أما تراكيب اللغة فقد اهتم بها النحاة اهتمامًا فائقًا وعلى رأسهم الخليل بن أحمد وسيبويه والكسائي (ت 189هـ)ـ والفراء (ت 207هـ) وابن يعيش (ت 642هـ) وغيرهم.

وفي علم الدلالة والمعاني نجد البلاغيين قد درسوا اللغة في إطار البلاغة، واشتهر من بين البلاغيين الجرجاني (ت 392هـ) والسكاكي (ت 626هـ) والخطيب القزويني (ت 734هـ) وأبو هلال العسكري (ت 395هـ) وغيرهم.

ولم يغفل لغويونا مسألة ارتباط اللغة بالمجتمع، فالجاحظ (ت 255هـ) أتى خاصة في كتابيه “الحيوان” و”البيان والتبيين” بنظريات متميزة في هذا الميدان. كما نجد في “رسالة الغفران” لفيلسوف المعرة نظرات ثاقبة في هذا النطاق.

 كما كان للغويينا أبحاث ودراسات جُلّى في البحث عن نشأة اللغة. ومن هؤلاء نذكر ابن جني (ت 392هـ) في الخصائص وابن فارس (ت 395هـ) في الصاحبي والمجمل والمقاييس، وغيرهم.

ولعل في كتب فقه اللغة هذه نظريات تثبت قصب سبق العرب في توصلهم إلى إيجاد إحدى النظريات التي أتى بها الألسنيون في وقتنا الحاضر.


وسنورد بعض هذه النظريات التي أتى بها لغويونا القدماء، وهي كالتالي:

  • 1 – لا تفاضل بين اللغات

أنكرت الألسنية التفاضل بين اللغات، واعتبرت اللغات سواء. وقد وقف علماء اللغة من العرب نفس الموقف السابق ونادوا به قبل الألسنية.

من هؤلاء ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ) الذي رفض التباهي، ونظر إلى اللغة نظرة علمية حيادية فقال (4): (توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات، وهذا لا معنى له، لأن وجوه الفضل معروفة، وإنما هي بعمل أو باختصاص، ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال الله تعالى (5): (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ) (6): (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذاك قومه عليه السلام، لا لغير ذلك.

وقد غلط في ذلك جالينوس فقال: إن لغة اليونان أفضل اللغات لأن سائر اللغات إنما هي تشبه نباح الكلاب، أو نقيق الضفادع. وهذا جهل شديد، لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها، فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق).

  • 2 – السليقة اللغوية

يرى الألسنيون، بإزاء ما يسمى بـ(السليقة اللغوية)، أن الطفل لا يكتسب اللغة وراثة، وفي تصورهم أن اكتسابها يبدأ بالتقليد ثم تتثبت بالمران، لأن اللغة في نهاية المطاف ملك من تعلمها.

ولقد سبقهم إلى نظرتهم هذه عبد الرحمن بن خلدون (ت 808ه) بقوله (7): (اعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني، وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها… والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقع أولاً، وتعود منه للذات صفة، ثم تكرر فتكون حالاً، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة).

  • 3 – مقارنة اللغات

إذا كان الألسنيون قد بدأوا بمقارنة اللغات متأخرين، أي في القرن الثامن عشر الميلادي، وابتدعوا ما يسمى بعلم اللغة المقارن، فإن علماءنا قد شرعوا في البحث فيها قبيل القرن الثاني للهجرة، إذ قارن الخليل بن أحمد بين الكنعانية والعربية بقوله(8): (وكنعان بن سام بن نوح، ينسب إليه الكنعانيون وكانوا يتكلمون بلغة تضارع العربية).

ونجد أبا حاتم الرازي (ت 322هـ) يوازن بدوره بين العربية والسريانية حيث قال(9):(للعرب في كلامها علامات لا يشركهم فيها أحد من الأمم نعلمه. منها إدخالهم الألف واللام في أول الاسم وإلزامهم إياه الإعراب في كل وجه.. كما في “الطور” وحذفوا الألف التي في آخر الحرف فألزموه الإعراب في كل وجه، وهو بالسريانية “طورًا” على حال واحد.. وكذلك اليم هو بالسريانية “يما” فأدخلت العرب فيه الألف واللام وصرفته في جميع الإعراب على ما وصفت).

كما قارن بعد ذلك بين العربية والفارسية (10).

وفي نفس السياق نجد سيبويه الأندلس أبا حيان التوحيدي (ت 754هـ) قد تحدث بدوره عن صلات قربى بين لغتي العرب والحبش فقال (11):(…من تكلم بهذا من العرب إن كان تكلّم به فإنما سرى إليه من لغة الحبش لقرب العرب من الحبش ودخول كثير من لغة بعضهم في لغة بعض….وكثيرًا ما تتوافق اللغتان ..في ألفاظ وفي قواعد من التراكيب النحوية..).

نكتفي بهذا القدر، وقصدنا من ذلك هو إعطاء فكرة عن مدى اهتمام علمائنا بهذه القضية دون الخوض في تفصيلات الموضوع.

  • 4 – حقيقة اللغة

إذا عدنا إلى تعريفات علمائنا اللغويين وجدنا فيها تعريفات قيمة ودقيقة للغة لا تقل شأنا عما انتهى إليه بحث الألسنيين في ماهية اللغة.

فهذا ابن جني يقول (12):(أما حدّها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم). ولعل هذا التعريف الدقيق للغة يكون ابن جني قد ميّز بين لغتين: لغة منطوقة وأخرى مكتوبة. ودرس اللغة من منطلق أنها منطوقة مثل الألسنيين ولم يدرسها من كونها مكتوبة كما فعل فقهاء اللغة القدماء. وتعليل ذلك مردّه إلى أن علماءنا القدامى اعتمدوا الرواية والمشافهة حينما شرعوا بجمع اللغة وتدوينها تمهيدًا لاستقراء قواعدها وأبنيتها.

كما أبرز ابن جني في موضع آخر رمزية اللغة باعتبارها أصواتًا ترمز إلى أشياء حيث قال (13): (…وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا، فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات، فيضعون لكل واحد منها سمة ولفظًا، إذا ذكر عرف به ما مسمّاه ليمتاز من غيره وليُغْنَى بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين).

  ويؤكد هذا ما ذهب إليه والتر وارتبورغ الأستاذ بجامعة بال بسويسرا بقوله في رمزية اللغة(14):(كل مجموعة معينة من الأصوات يقابلها حالة وعي أو إدراك خاصة. فسلسلة الأصوات التي تكون الكلمة الفرنسية arbre مرتبطة ارتباطًا وثيقًا في مجال استعمال اللغة الفرنسية بتمثيلها arbre وهذا الارتباط قد يبدأ من الكلمة إلى التمثيل، وقد يبدأ على العكس من ذلك من التمثيل إلى الكلمة فما أسمع الكلمة حتى تنبعث الصورة image حالاً في عقلي esprit، وعلى العكس من هذا إذا انبعثت الصورة في عقلي فإنها تثير الكلمة ولو لم تنطقها أعضاء النطق…).

  • خامسًا- وظيفة اللغة 

اعتبر الألسنيون أن اللغة في النهاية ظاهرة اجتماعية. وقد عبر عن وجهة الألسنيين كافة فندريس حين قال (15):(في أحضان المجتمع تكونت اللغة…فاللغة وهي الواقع الاجتماعي بمعناه الأوفى تنتج الاحتكاك الاجتماعي، وصارت واحدة من أقوى العرى التي تربط الجماعات..).

ولعل هذا ما ذهب إليه ابن جني، حيث نراه يؤكد على أن اللغة لا تكون إلا داخل المجتمع. وبالتالي يكون ابن جني له قدم سبق في هذا الميدان مقارنة بعلماء الألسنية.

وبهذا الصدد يطالعنا علامة آخر هو الجاحظ برأي رائع يسبق علم اللغة الاجتماعي فيقرر حقائق لم يفصل فيها علماء الألسنية بعد. لقد وضّح هذا العالم المتميز أن كلام الإنسان لا يمكن اختزاله في كونه مجرد القدرة على استعمال الصوت الطبيعي في الصياح، مستدلاً على ذلك بقوله:(…ومتى أحببت أن تعرف ذلك فتَسمَّعْ تجاوب السنانير، وتوعُّدَ بعضها لبعض في جوف الليل، ثم أَحصِ ما تسمعه وتَتبّعْه، وتوقَّفْ عنده، فإنك ترى من عدد الحروف ما لو كان لها من الحاجات والعقول والاستطاعات، ثم ألّفتها لكانت لغة صالحة الموضع متوسطة الحال…) (16).

فالصوت لصير لغة لابد أن تكتمل فيه شروط أسماها الجاحظ بالحاجات والعقول والاستطاعات. فالجاحظ يريد أن يؤكد هنا أن اللغة لا تتمظهر في مخارج حروفها، بل تمثلها قدرة إنسانية مفكرة عاقلة ومبينة عن الحاجات البشرية في مجتمع إنساني.

في ضوء الحقائق العلمية التي توصل إليها الجاحظ في زمانه، نؤكد أنه يعطينا للغة نفس الحدود والرسوم التي أعطانا إياها عالم الألسنية الأمريكي إدوارد سابير من خلال تعريفه القائل (17): (الكلام وسيلة إنسانية خالصة، ولا غريزة فيه إطلاقًا، تمكنه من توصيل الأفكار والانفعالات والرغبات من طريق نظام من الرموز الصوتية الاصطلاحية على وجه التغليب والتعميم تصدرها أعضاء النطق بصورة إرادية).

ونرى الجاحظ في موضع آخر يذهب إلى أبعد من ذلك حيث أكّد أن اللغة ظاهرة اجتماعية، إذ ربط سبب وجود الكلام  بسبب وجود الحاجة إليه، ويدعم هذا الرأي قوله (18):(…إن من أعون الأسباب على تعلم اللغة فرط الحاجة إلى ذلك. وعلى قدر الضرورة إليها في المعاملة يكون البلوغ فيها والتقصير عنها…).

ومن الطريف أننا نجد الاستراباذي (ت 688هـ) يؤكد نفس الفكرة حين قال (19): (والمقصود من قولهم وضع اللفظ جعله أولاً لمعنى من المعاني مع قصد أن يصير متواطأ عليه بين قوم… ولا يقال لكل لفظة بدرت من شخص لمعنى إنها موضوعة له من دون اقتران قصد التواطؤ بها)، أي أن اللغة ليست ظاهرة غريزية بل هي تكتسب اكتسابًا.

وقد بيّن ابن فارس عملية الاكتساب هذه بقوله (20):(تؤخذ اللغة اعتياديًا عنهم كالصبي العربي يسمع أبويه وغيرهما، فهو يأخذ اللغة عنهم على مرّ الأوقات. وتؤخذ تلقّنًا من ملقّن. وتؤخذ سماعًا من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة …).

لقد تقدّم ابن فارس في رأيه هذا على عالم الألسنية إدوارد سابير الذي وازن اللغة بالمشي، فرأى المشي وظيفة إنسانية عضوية موروثة تستوي فيه كل الأمم، أما اللغة فوظيفة إنسانية مكتسبة. وعليه، فإن طفلاً عربيًا إذا وضع منذ ولادته في اليابان أو في ألمانيا أو في انجلترا دون أن يكون حوله وسط اجتماعي يتكلم العربية فإنه سيتحدث اللغة اليابانية أو الألمانية أو الانجليزية تحقيقًا وتأكيدًا.

  • سادسًا- علم الأصوات اللغوية

إن قريحة العرب قد جادت ببعض الآراء في هذا المجال سبقت بها نظريات هذا العلم. وقد تمثلت آراء العرب القدامى في حركات الإعراب التي اعتبرت بحق من البدايات الأولى في إسهامات العرب في الدراسات الصوتية.

وقصة وضع حركات الإعراب مشهورة منثورة في كتب اللغة وقطباها زياد بن أبيه وأبو الأسود الدؤلي وقد أوجزها الداني بقوله(21): (راجع أبو الأسود الدؤلي من فوره إلى زياد فقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن فابعث إلي ثلاثين رجلاً، فأحضرهم زياد فاختار منهم أبو الأسود عشرة ثم لم يزل يختار منهم حتى اختار رجلاً من عبدالقيس فقال: خذ المصحف وصبغا يخالف لون المداد، فإن فتحت شفتيّ فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن اتبعت شيئًا من هذه الحركات غُنّة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره).

ومما يستحق ذكره في هذا المقام أن تصنيف الحركات يعتمد في الدرس اللغوي الحديث هذا المبدأ الفيزيولوجي الذي استحدثه أبو الأسود الدؤلي (ت 69هـ).

وفي هذا السياق ذاته نجد الألسنيين قد انتهوا إلى أن الفرق  بين الحركات القصيرة والأخرى الطويلة لا يعدو أن يكون فرقًا كميًا لا كيفيًا. وفي نفس المعنى نرى جان كانتينو يدرس المدى الذي يستغرقه طول الحركة فيقول (22): (يطلق اسم حركات طويلة على الحركات التي يمتدّ فيها إخراج النفس امتدادًا يصير معه مدى النطق بها مساويًا لمدى النطق بحركتين بسيطتين بل وقد يتعدّى ذلك).

وفي اعتقادي، أنه لا يمكن لأحد منا أن ينكر ريادة الخليل في مجال الدراسات الصوتية خاصة حينما رتّب “معجم العين” ترتيبًا صوتيًا موزعًا الحرف على مخارجها ناسبا كل مجموعة إلى مخرج من مخارج النطق. وقد دلّته أذنه الموسيقية إلى التمييز بين الحركات الطوال والقصار، وتبيّن أنها علاقة في الكم لا في الكيف. ولعل اهتمام الخليل بالدراسات الصوتية هي التي ساعدته على اكتشاف بحور الشعر.

وأتى بعدهما ابن جني فأسدى إلى الدراسات الصوتية آراء سديدة، خاصة، عندما أبان عن نظرته في الحركات بقوله (23): هي (أبعاض حروف المد واللين، وهي الألف والياء والواو، فكما أن هذه الحركات ثلاثة فكذلك الحركات ثلاثة، وهي الفتحة والكسرة والضمة…وقد كان متقدمو النحويين يسمّون الفتحة الألف الصغيرة، والكسرة الياء الصغيرة، والضمة الواو الصغيرة).

ثم إن ابن جني يعتبر، دون مغالاة، واضع مصطلح علم الأصوات، ويشهد على ذلك قوله (24): (اعلم أن الصوت عرض يخرج من النفس مستطيلاً متّصلاً حتى يعرض له الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده واستطالته فيُسمّى المقطع أينما عرض له حرفًا).

لقد استطاع ابن جني أن يفرّق بينهما تفريقًا بيّنًا ودقيقًا لم يقدر الألسنيون أن يبزّوه في هذا الميدان حينما قال (25): (فقد ثبت بما قدمناه معرفة الصوت من الحرف، وكشفنا عندهما بما هو متجاوز للإقناع في بابهما، ووضحت حقيقتهما لمتأملّهما).

وهذا ابن يعيش (ت 643هـ) هو الآخر قد بيّن الفرق بين الصوت والحرف مما لم يترك زيادة لمستزيد بقوله (26): (والحرف إنما هو صوت مقروع في مخرج معلوم). كما أنه حدّد المخرج بقوله (27): (والمخرج هو المقطع الذي ينتهي الصوت عنده).

ولم تتوقف إسهامات العرب في الدراسات الصوتية عند هذا المستوى بل تعدوا ذلك، إذ حاولوا أن يفسّروا اللهجات بالمميزات الصوتية المنطوية عليها.

  • سابعًا- عيوب النطق

إن هذا المصطلح لم يرد تداوله عند لغويينا القدامى بل استخدموا مصطلحات أخرى مماثلة ومقاربة له في المعنى فذكروا الآفة. قال المبرَّد(28) (ت 285هـ): (يقال للعَيّ: لجلاج، وقد يكون من الآفة تعتري اللسان). وقد أورد الجاحظ هذه الآفة قائلاً(29): (… ثم رجع بنا القول إلى الكلام الأول في ما يعتري اللسان من ضروب الآفات).

وقد وجدنا في أقوال الجاحظ ما يثبت تمييزه بين هذه الأمراض مجتمعة. قال الجاحظ(30): (يقال في لسانه حُبْسة: إذا كان في لسانه ثقل يمنعه من البيان. فإذا كان الثقل الذي في لسانه من قبل العُجْمة قيل: في لسانه حكلة).

وقد تحدث الجاحظ عن بعض الأمراض من الناحية الفيزيولوجية فعقد في البيان والتبيين فصلاً بعنوان(31): (ذكر الحروف التي تدخلها اللُّثغة وما يحضرني منها”، وقد رأى أنها أربعة أحرف هي: القاف والسين واللام والراء)..

ويبين في موضع آخر مصاعب النطق عند بعض المتكلمين كالتعتعة والحبسة والعقلة واللكنة والحكلة وغيرها … (32).

وقد زاد  المبرد على العيوب السابقة عددًا من العيوب الأخرى كالرُّتة والغمغمة والطمطمة والغنة وغيرها(33).

يتضح مما سبق، أن الجاحظ يقترب بشكل كبير في بحثه هذه الأمراض من البحوث اللسانية المعاصرة المبنية على المقاييس اللسانية النفسية أو ما يطلق عليه بالمصطلح اللساني psycholinguistics الذي ترجم بعلم النفس اللغوي أو علم اللغة النفسي(34). ولم تتوقف جهود الجاحظ بتحديد وتشخيص أمراض النطق، بل تعدى ذلك إلى محاولة وصف الدواء المفيد والفعّال الذي قد يقضي على بعضها (35). ومن المذهل أن نرى علم اللغة الحديث يقرّ هذه الأدوية التي اهتدى إليها الجاحظ.

ولم يكتف الجاحظ بإبراز عيوب النطق الفيزيولوجية بل حاول أن يذكر بعض العوامل الاجتماعية التي أفرزت هذه الظواهر.

وعليه يكون الجاحظ  قد أدرك  بعدًا آخر من أبعاد علم اللسان الحديث هو البعد الاجتماعي الذي أطلق عليه الألسنيون الأمريكيون اسم علم اللسان الاجتماعي أو  Sociolinguistic.

  • ثالثًا- مناهج البحث اللغوي

لقد اعتمدت الألسنية الحديثة مناهج عديدة في دراساتها وبحوثها اللغوية، تبعا لاختلاف نظرة أصحابها وتعدد مدارسهم. وفي هذا السياق سنركز على أبرز المناهج الموظفة  في هذا المجال، وهي كالآتي:

  • 1 – المنهج الوصفي:

أقام أسسه ومبادئه دي سوسير، وغرضه وصف اللغة من حيث هي تنظيم قائم بذاته، وفيه توصف اللغة (36): (بوجه عام على الصورة التي توجد عليها في نقطة زمنية معينة ليس ضروريًا أن تكون في الزمن الحاصر) . يبدأ الوصف عند أصحاب هذا المنهج بالصورة المنطوقة للغة ثم ينتقل إلى الصورة المكتوبة، وتتم عملية تسجيل الظواهر لديهم انطلاقًا من الاستقراء.

ولو رجعنا إلى تاريخ النحو العربي لوجدنا تجليات هذا المنهج الوصفي حاضرًا بقوة، لأنه ينطلق من الاستقراء كما يوثّق ذلك كتاب سيبويه. ثم إن البدايات الأساسية للنحو العربي لها علاقة وثيقة ومباشرة بالواقع اللغوي المبني على الاستخدام.

وتعتبر مسألة تلقّي النصوص من أفواه الرواة ومشافهة الأعراب من أهم الأمثلة الدالة على الاتصال اللغوي. وبناء على هذا السبيل استطاع العلماء استقراء اللغة واستنباط القواعد التي ينبئ بها هذا الاستقراء وينبثق عنه.

  • 2 – المنهج التاريخي:

يهتم بدراسة اللغة عبر تاريخها الطويل، ودراسة مظاهر تطورها وأسبابه ومظاهره. ولغتنا عبر تاريخها الطويل، شأنها في ذلك شأن اللغات الأخرى، مرّت بمراحل من بداوة وحضارة وانتقال من عصر الظلمات إلى عصر النور. لهذا رأينا بعض الألفاظ الجاهلية صارت تكتسب معاني دلالية جديدة  بمجيء الإسلام  وتطور المجتمع الإسلامي (37).

وفي لغتنا العربية قسم اشتغل فيه النحاة واللغويون قديمًا وحديثًا يعتبر من صميم اهتمامات المنهج التاريخي اهتمت به دراسة الأخطاء اللغوية، وقد كتبت فيها مؤلفات ورسائل عديدة.

  • 3 – المنهج التحويلي:

يرى هذا المنهج أن الجملة لها مبنيان: مبنى ظاهري، ومبنى باطني. وضوابط الاستنباط اللغوي هي التي تؤلف العلاقة بين المبنيين فتحوّل المبنى العميق إلى المبنى السطحي. وليس غريبًا أن نجد بعض ملامح هذين المبنيين في جملتنا العربية.

ولقد لخص بعض الباحثين الجوانب التحويلية في النحو العربي بالأمور الآتية (38):

– قضية الأصلية والفرعية: النكرة أصل المعرفة، والمفرد أصل الجمع…

– قضية العامل: يرى أنها تمثل البنية العميقة أو الجانب الإدراكي في اللغة..

– قواعد الحذف.

– قواعد الزيادة والإقحام.

– قواعد إعادة الترتيب.

وأخيرًا، نكتفي بهذا النزر فيما التقت فيه دراستنا اللغوية القديمة مع الدراسات الألسنية الحديثة. لذلك أرى، أنه خليق بنا أن نعيد قراءة هذا التراث قراءة متروية ومتمهلة في ضوء المناهج الحديثة التي تعيننا على فهم تراثنا فهمًا عصريًا سليمًا دون المساس بمقومات وجودنا العربي وخصوصياته اللغوية.


الهوامش:

1 – دراسات لسانية تطببيقية- د. مازن الوعر، دار طلاس دمشق، ط1/1989، ص: 31.

2 – Le langage.Sous la direction de Bernard Poitier. P 253

3 – علم اللغة مقدمة للقارئ العربي- د. محمود السعران، دار النهضة بيروت، ص: 49.

4 – الإحكام في أصول الأحكام- ابن حزم الأندلسي، مطبعة الإمام، 1/32.

5 – سورة إبراهيم الآية 4

6 – سورة الدخان الأية 58

7 – المقدمة- ابن خلدون، تحقيق د. وافي، دار النهضة، 3/1278. وينظر في هذه المسألة: كتاب الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس ص: 62 كتاب الخصائص لابن جني 2/15، 16.

8 – كتاب العين- الخليل بن أحمد،  تحقيق عبدالحميد هنداوي، دار الكتب العلمية بيروت 2002 ،  4/52.

9 – كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية- أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي، عارضه بأصوله وعلّق عليه حسين الهمداني، مركز الدراسات والبحوث اليمني، ط1/1994- 1/89،90.

10 – المصدر السابق، 1/90.

11 – تفسير بحر المحيط- أبو حيان محمد بن يوسف التوحيدي، دراسة وتحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معرض، دار الكتب العلمية بيروت، ط1/1993- 4/167.

12 – الخصائص- أبو الفتح عثمان ابن جني، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتب المصرية 1/ 33.

13 – المصدر السابق- 1/44.

14 – علم اللغة- د. محمود السعران، دار النهضة العربية للنشر بيروت، حاشية 1، من ص: 72، 73.

15 – اللغة- ج.فندريس، ترجمة عبد الحميد الدّواخلي ومحمد قصاص وفاطمة خليل، المركز القومي للترجمة القاهرة، ط/2014 ص: 35.

16 – الحيوان- أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق عبدالسلام هارون، دار الكتاب العربي بيروت، 1969، 5/ 289

17 – علم اللغة الاجتماعي عند العرب- د. هادي نهر، مكتبة لسان العرب، ط1/1988- ص: 64.

18 – الحيوان- الجاحظ، تحقيق عبدالسلام هارون، 5/ 290

19 – شرح الرضي لكافية ابن الحاجب – الرضي الأستراباذي، 1 تحقيق يحيى بشير مصري، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1/1996- 1/4.

20 – الصاحبي في فقه اللغة- أبي الحسن أحمد ابن فارس، تحقيق عمر فاروق الطباع، مكتبة المعارف بيروت، ط1/1993- ص: 62.

21 – المحكم في نقط المصاحف- أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، تحقيق عزة حسن، دار الفكر دمشق، ط2/1997- ص: 3، 4

22 – دروس في علم أصوات العربية- جان كانتينو، ترجمة صالح قرمادي، ص: 145، 146

23 – سر صناعة الإعراب- ابن جني، تحقيق حسن هنداوي، دار القلم، ط2/1993- 1/17

24 – المصدر السابق- 1/7

25 – نفسه، 1/9.

26 – شرح المفصل- ابن يعيش، مطبعة المنيرية، 10/124

27 – المصدر السابق، نفس الصفحة.

28 – الكامل- المبرّد، تحقيق أبو الفضل إبراهيم، دار النهضة مصر، 1/14

29 – البيان والتبيين- الجاحظ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة، 1948- 1/57.

30 – الحيوان- الجاحظ، 4/21

31 – البيان والتبيين- الجاحظ، 1/34

32 – المصدر السابق، 1/37.

33 – الكامل- المبرّد، 2/220، 221

34 – سيكولوجية اللغة والمرض العقلي- جمعة سيد يوسف، عالم المعرفة 145، ص: 17.

35 – البيان والتبيين- الجاحظ، 1/134.

36 – أسس علم اللغة- ماريو باي، ترجمة أحمد مختار عمر، عالم الكتب، ط8/1998- ص: 137

37 – المزهر في علوم اللغة وأنواعها- عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، المكتبة العصرية صيدا، 1/209.

38 – منهج البحث اللغوي- علي الزوين، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد، ط1/ 1986، ص: 47، 48.


د. عبد الله رمضاني – المغرب

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى