بَينَ “البلاغة العتيقة” و”البَلاغة الجَديدة”
قالوا عَن “البلاغة العتيقة”: إنَّها كانَت حَبيسَةَ السَّراديبِ المُظْلِمَة؛ لأنّها اقتَصَرَت على بَلاغَة المتكلِّم، وقَد آن الأوانُ لإخراجها إلى الضَّوءِ، في عَصر “العَصرَنَة” لتَجديد البلاغَة بتحويل البحث من بلاغة المتكلِّم إلى بلاغَة “المُخاطَب”،ونَقلِ العُدَّةِ والعَتاد من البحثِ في البلاغَة الأولى إلى البحثِ في بلاغةٍ صَنَعَها “المُخاطَبون”،أي مما كانَ مَعدوداً مَركزاً إلى ما كانَ مَعدوداً هامشاً وذيْلاً.
فبذلكَ أصبحَت البلاغَةُ الجديدةُ تَشهدُ “انكسارَ زَمَنِ النخبَةِ وثَقافةِ النُّخبَة” وبُروز “ثقافة شعبيةٍ جديدَةٍ” متقلِّبَة المزاجِ تَخلطُ كلَّ شيءٍ بعضَه ببعضٍ وتَراهُ في نَسقٍ آخَر غير الذي يَراه المنطقُ والنظامُ والأنساقُ العَقليّةُ الراهنةُ.
والغَريبُ في البلاغَة الشعبيّة الجَديدَة أنَّها انتقَدَت بشدّةٍ تاريخَ الأفكارِ والفلسَفاتِ التي كانَت تولي العقلَ والمنطقَ والقيمَ الثقافيةَعناية، فأسقَطَت جُزءاً كبيراً من الفكرِ من تاريخِ الفكرِ و”وَأدَت” مفكّرين وفلاسفةً وعُلماء إنسانيينَ، و”أحْيَت” فئاتٍ من الشعبِ منهم العوامُّ والغَوغاءُ والرَّعاعًُ والدَّهْماءُ… ومَنَحَتهُم وسامَ البلاغَة.
والسّرُّ الأكبرُ في تحوُّلِ عامّةِ النّاسِ إلى مَركزِ الضَّوءِ البلاغيّ، هو أنَّهُم مُكِّنوا من وسائل التواصُل الشبَكي، فغَلَبَت وسائلُهم وَسائلَ البلاغيين القُدَماء، إذن ترى البلاغَةُ “الجديدَةُ” أنّ السرَّ في أن تَكونَ بلاغيا أو بليغاً هو أن تتمكَّنَ من أداةِ التعبيرِ ومنبَرِه ومنصّاته، فهذا جزءٌ من القضيّةِ، وكأنَّ أصحاب هذاا الرأي يَرونَ أنّ الإنسانَ بليغٌ بطبعِه يولَدُ على الفطرَة البلاغية، ولا تنقُصُه إلاّ الأداةُ.
ثُم قالوا ليسَت البلاغَة الجديدةُ إلاّ زَحزَحَة الثَّوابت وكَسر الحُصون، والتمكُّن من منصّاتِ القَول. وأنَّ حديثَ موت الكاتبِ إنما هو حَديثُ خُرافَة، بل القضيّةُ أنّ في الأمرِ تغيُراً في المَواقعِ فما كانَ مركزاً قبلُ صار اليومَ هامشاً وما كان ذيلاً قبلُ صار اليومَ أنفاً.
أحسنت وأجدت التعبير الدكتور المحترم عبدالرحمن.. شكرًا لك