السياسة اللغوية وتعلم اللغة
- اللغة الإنجليزية في الصين
سعت الصين في السبعينات –كما إيران في عهد الشاه- إلى “تحديث” مؤسساتها، وفي هذه العملية تبنت الصين هي الأخرى استعارة “الإنجليزية أداة للتنمية”.
ومع ذلك بدأت القيادة الصينية في أواخر الثمانينات تسائل بعض مظاهر التحديث، ومن بينها انتشار الإنجليزية. وعلى الرغم من أن الصين، إلى حدود 1989، لم تقلص مجال الإنجليزية خلاف ما فعلت إيران، فإن قيادتها زاد انشغالها بالعواقب السياسية لانتشار الإنجليزية.
- اللغة الأنجليزية قبل السبعينات
يجب أن ننظر إلى انتشار الإنجليزية، لغاية التحديث في الصين، في إطار سياق تاريخي عريض حيث كان استعمال اللغة وتعليمها شديدي الارتباط بالسياسة الاقتصادية والسياسة. في أواخر القرن السابع عشر أصبح لإنجلترا موطئ قدم في كانطون.
وطوال القرن الثامن عشر وضعت شركة شرق الهند أسس التبادل التجاري. وما إن استولت ابريطانيا على هونغ كونغ سنة 1841 حتى بدأت أعداد غفيرة من التجار والمبشرين والموظفين الحكوميين تصل إلى الصين.
وبعد أن بسطت ابريطانيا مراقبتها على امتداد الشاطئ وعلى بعض الأجزاء من التراب الداخلي انتشرت الإنجليزية انتشارا لا بأس به. ومع ذلك لا مجال للمقارنة بين انتشارها هنا وانتشارها في أفريقيا وجنوب آسيا، لأن التراب الذي استعمرته ابريطانيا ينحصر في مجالات محدودة مثل كوانكزهو (كانطون)، وشنغهاي، وفوزْهو (فوشُوْ).
وفضلا على هذا كان الصينيون يعتبرون إنجلترا متخلفة ثقافيا، فنُظر إلى الإنجليزية لغة شرّيرة(1). وهكذا انحصر استعمال الإنجليزية في نخبة قليلة كالتجار ورجال الدين في المقام الأول، بينما نشأت بعض التنويعات الهجينة التي تستعمل للحديث مع الخدم وفئات دنيا في مجال الأعمال(2).
على إثر انتصار قوات ماو سنة 1949 بدأت الإنجليزية تعيش تقهقرا مطردا، ويعود ذلك إلى تغير النخبة الحاكمة والربط بين الإنجليزية والاستعمار، وتقليص حجم العلاقات الصينية مع الحكومات الغربية وعالم الأعمال الغربي. إضافة إلى هذا بُذل جهد لتطهير الصين من التأثيرات الشائنة من بقايا الرأسمالية.
وهكذا عززت الثورة الثقافية التي دامت من 1960 حتى المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي في أبريل 1969، عززت تقليص التكوين اللغوي باللغة الإنجليزية واستعمالها. وكانت الجامعات والثانويات أهم المؤسسات التي استهدفها الإصلاح، وأُقفل بعضها لما يربو عن أربع سنوات.
وحين أعيد فتحها غيرت معظم المؤلفات في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية أو أُلغيت، ومن ضمنها اللسانيات والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس، كما أُقفلت مؤسسات البحث ودور النشر والشركات التجارية التي كانت تعتمد على العلاقات مع بلدان أخرى أو التي تستخدم الأقليات غير الهانية (Han ) في المناصب الحساسة.
وفي بعض مناطق البلد كانت تُذم اللغات غير الصينية وتُعتبر غير قابلة للاستعمال ومتخلفة، أو أدواتٍ إقطاعية ورأسمالية(3). وأُحرقت الكتب والدوريات الأجنبية، وعوقب من ضبط متلبسا بقراءة الإنجليزية. وفُرض على مدرسي اللغة تغيير المهنة، وغالبا ما عُيّنوا فلاحين في التعاونيات الريفية.
أما في المناطق التي استمرت فيها برامج تعليم اللغة فقد عانت قيمة البرامج واستمراريتها من عدم التنسيق في محتوى البرامج ومستوياتها بين المدارس الثانوية والتعليم العالي.
على الرغم من أن الثورة الثقافية انتهت رسميا سنة 1969، إلا أن آثارها ظلت مستمرة حتى منتصف السبعينات على شكل سلسلة حملات إيديولوجية مكثفة. أخيرا بعد وفاة الزعيم ماو وإسقاط عصابة الأربعة سنة 1976 مالت القيادات الصينية الجديدة إلى سياسة رعاية التحديث العلمي والتكنولوجي.
وقد تطلبت هذه السياسة التخفيف من العداء للبلدان التي تتحكم في الوصول إلى العلم والتكنولوجيا، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الأخرى الرأسمالية.
- التحديث في الصين
كان هدف “التحديث” أصلا هو الوصول إلى العلوم والتكنولوجيا الغربية، وقد أدى هذا في أواخر السبعينات إلى تسطير أولويات جديدة لنظام تعليم اللغة الأجنبية في الصين: 1) تعليم الطلبة لغات البلدان التي لها علاقات دبلوماسية مع الصين؛ 2) تكوين عدد كاف من الترجمانات(4) والمترجمين؛ 3)تدريس مهارة قراءة لغة واحدة، على الأقل، لكل الصينيين المتمدرسين(5).
وقصد الاستجابة لهذه الحاجات طفقت الصين تطور البرامج المتبادلة وتستأجر مدرسي اللغة من بلدان أخرى. وهكذا حل بالصين عدد من مدرسي اللغة الإنجليزية والمكونين القادمين من ابريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوستراليا وزيلندة الجديدة، وذلك بعد الزيادة الملحوظة في عدد الموظفين الحكوميين الأجلنب والعلماء والمرشدين والتقنيين الذين شرعوا يفدون على الصين في أواخر السبعينات.
إن تعهد الصين بتعليم الإنجليزية من أجل تحسين فرص الوصول إلى العلم والتكنولوجيا سرعان ما حل محله –مع ذلك- اندفاع كبير إلى التكوين باللغة الإنجليزية: سياسة تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر والمقاولة الخاصة في الصين.
هذه السياسة المعتمدة تدريجيا من 1984 إلى 1987 وُصفت في أمريكا الشمالية وأوروبا بأنها توجّهٌ نحو التخلي عن العقيدة الشيوعية الأصلية. وخُلقت مناطق خاصة لتشجيع الاستثمار من هونغ كونغ وبلدان أخرى رأسمالية، ومُنح مديرو الصناعة مراقبة واسعة على الصناعة، بينما قُلّمت سلطة المخططين المركزيين.
وتم التوسع كذلك في إلغاء الملكية الجماعية للأرض. ورغم أن الأراضي الفلاحية تملكها الدولة من زاوية تقنية، فقد أصبحت لها في الواقع وضعية خاصة، إذ حصلت العائلات على عقود إيجار حكومية طويلة الأمد تتصرف فيها بيعا وشراء مثل السندات. وفتحت دكاكين خاصة تبيع كثيرا من السلع في مختلف مدن الصين.
تضاعف خلال هذه الحقبة زوار الصين؛ فانتقل عددهم سنة 1978 من أقل من ربع مليون زائر أجنبي ومليون ونصف المليون صيني، يعيشون في ما وراء البحار، إلى مليون ونصف زائر أجنبي وأكثر من عشرين مليون صيني يعيشون في ما وراء البحار، وذلك سنة 1986(6).
تقاطر المستثمرون الأجانب على بيجينغ (بكين) كما تقاطروا عقدان قبل ذلك على طهران. وبعدما كان رقم المبادلات التجارية بين الصين وأمريكا تسعمائة مليون دولار بلغ سنة 1988 أكثر من خمسة عشر بليون دولار(7).
أدى قدوم مستثمرين أجانب وعلماء وموظفين حكوميين إلى ظهور الحاجة إلى مزيد من المترجمين خلال لقاءات رجال الأعمال، ولترجمة اتفاقيات التبادل ووثائق الاستثمار، ولترجمة وتلخيص النشرات الأكاديمية ومصادر أخرى للمعلومات، واستعمال الحاسوب واللازر وتكنولوجيات أخرى مقتناة من الغرب.
وأرسلت جامعات البلدان الناطقة بالإنجليزية الأساتذة والمختصين الأكاديميين إلى الصين، وفي الوقت نفسه تقيد آلاف الطلاب والأساتذة في جامعات أجنبية. وهكذا بلغ عدد الطلبة الصينيين في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها سنة 1987 ما بين عشرين وخمسين ألف طالب.
في ظل السياسة الاقتصادية الجديدة أضحت الإنجليزية اللغة الأكثر دراسة في الصين. وهكذا نجد، مثلا في سنة 1988، أن كل طلبة المدارس المتوسطة تقريبا اختاروا الإنجليزية لاجتياز اختبار اللغة الأجنبية.(8) أضف إلى هذا أن مليونا ونصف المليون من طلبة الثانويات والجامعات كانوا يدرسون الإنجليزية مادة أساسية.
ويتجاوز هذا العدد بكثير عدد الذين اختاروا اللغة اليابانية والفرنسية أو الألمانية. يضاف إلى ذلك أن أكثر من مائة ألف طالب في مستويات الإجازة يدرسون الإنجليزية أيضا. قصد خدمة هذا العدد الهائل من طلبة الإنجليزية وُظّف أزيد من عشرين ومائتي ألف أستاذ صيني من مدرسي الإنجليزية لتقديم حصص مذاعة أو متلفزة يصل عدد مستمعيها إلى الملايين.
هذا الحج إلى الإنجليزية –بموازاة السياسة الاقتصادية الجديدة- كان يعني انتشار الرموز الثقافية الغربية مثل كوكاكولا، والديسكو، ومسابقات الجَمال، وحفلات موسيقى الروك، والكولف(9).
وعندما تزايدت أهمية الإنجليزية بذلت الحكومة جهودا لرفع قيمة الكتب المدرسية والاختبارات والتعليم. وهكذا نُشرت في 1980 و 1985 برامج جديدة لتعليم الإنجليزية في الثانويات، وتلتها نصوص تركز على حصص القراءة والاستماع(10).
ووضع نظام اختبار جديد معايير الكفاءة، بينما ركزت برامج تكوين المدرسين التي تم تحديثها على بدائل قواعد الترجمة. وقد كانت الرغبة في تبني ممارسات تعليمية جديدة أحد أسباب قرار استئجار خبراء أجانب في اللغة الإنجليزية لغة ثانية كباولا مارتينسون.
وعلى خلاف التبادل التربوي في أواخر السبعينات لم تقتصر البرامج الجديدة على تحسين وصول الصين إلى العلم والتكنولوجيا؛ فقد كانت البرامج مخصصة أيضا لتغيير اقتصاد الصين من خلال اندماج واسع في الأنظمة الاقتصادية الغربية.
وهكذا بدأ المتعلمون يسوغون دراستهم الإنجليزية بمبررات جديدة. ففي أوائل السبعينات كان التفسير المألوف هو “خدمة الثورة”، وهو جواب يعكس دروس الإنجليزية التي كانت تركز على موضوعات مثل “طبيب حاف” و “زيارة أسرة عاملة” و “مواصلة انتقاد لين بياو وكونفوشيوس حتى النهاية” و “حكاية التاريخ الثوري للأسرة”(11).
وفي أواخر السبعينات صرح المتعلمون بأنهم يدرسون الإنجليزية لتسهيل الوصول إلى العلم والتكنولوجيا المعاصرين(12).وفي بداية الثمانينات بدأ المتعلمون يربطون بين دراسة اللغة الإنجليزية والإصلاحات الاقتصادية والسياسية، وكذا مع التأثيرات الثقافية الأجنبية.
على الرغم من التركيز على الدراسة في الخارج وتعليم الإنجليزية في البلد، عجزت الصين عن الاستجابة لحاجياتها في تعليم اللغة الإنجليزية، وربما عاد ذلك إلى أن ما يقرب من 90% من طلبة الجامعات يدرسون العلوم الطبيعية والاجتماعية حيث تعد اللغة الإنجليزية أساسية، لكنهم يفتقرون إلى الوسائل اللغوية المتخصصة في حقول دراستهم.(13)
لم تكن لعدد من المدرسين في الصين كفاءة في الإنجليزية، وخاصة في الأرياف حيث تقطن 80% من الساكنة.(14) وهكذا وجب على المدرسين الذين لا يتكلمون الإنجليزية جيدا الاعتماد على الاستظهار طريقة أساسية في التدريس(15). وكانت الحاجة إلى الترجمانات والمترجمين كبيرة بحيث إن المتخرجين من الجامعات يوظفون مباشرة في المناصب الشاغرة.(16).
- مقاومة انتشار الإنجليزية 1987-1989
إن عملية “تحديث” الصين وما نجم عنه من الأهمية المتزايدة التي حظيت بها الإنجليزية لغة ثانية قد حل محلها –في أواخر الثمانينات- انشغال متزايد بأثر الإصلاحات الاقتصادية والتأثير الأجنبي في حياة الصين وثقافتها وسياستها.
وحين كانت اللغة الإنجليزية تقرن بالعلم والتكنولوجيا فحسب كانت أهميتها السياسية محدودة، أما وقد أضحت مقرونة بالسياسة الاقتصادية الجديدة فإنها غدت رمزا للانتقال إلى المكية الخاصة لرأس المال، والانفتاح على الثقافة الغربية، والليبرالية السياسية.
وقد صح هذا –على نحو خاص- على العدد المتزايد من الصينيين الدارسين خارج الصين؛ فبدأ بعض القادة الصينيين يحذرون مما ستؤول إليه السياسات الجديدة من فوارق طبقية وأشكال أخرى من اللامساواة.
ومثال ذلك أن من أولى نتائج التوجه الرأسمالي التفاوت بين الجهات في الثروات والدخل. ومن ذلك أن الأجور في منطقة كوانكدوك –مقر منطقة كانطون المتخذة نموذجا لتجريب الاستثمار الأجنبي- ترتفع بسرعة أكبر من مثيلاتها في المقاطعات الأخرى.
وقد أدى هذا الواقع في ظرف أسابيع معدودة في مطلع 1989 إلى تقاطر ما يناهز مليونين ونصف المليون على كانطون بحثا عن العمل.(17)
أدت مظاهرات الطلبة سنتي 1987 و 1989 إلى إثارة جدال حاد بين قادة الصين حول السياسة الاقتصادية الجديدة. ومن نتائج ذلك أن السلطات حاولت التحكم في النقاش السياسي، وفي الوقت نفسه الحفاظ على التوجه نحو الإصلاح الاقتصادي.(18)
وُضعت قيود على عدد الطلبة الصينيين المسموح لهم بمتابعة الدراسة خارج البلد، وأُلغيت أو قُلّصت بعض برامج التبادل التعليمية المتعلقة باستقدام أساتذة أجانب إلى الصين. وبعد أحداث 1989 حافظ قادة الصين على استمرار التبادل التجاري والاستثمار مع الغرب، إلا أنهم كانوا منشغلين انشغالا حقيقيا بالعواقب السياسية.
يعني الانشغال بالعواقب السياسية للسياسة الاقتصادية أن الجدال إن استمر قد يمس نطاق دراسة اللغة الإنجليزية ودورها الحقيقي في المجتمع الصيني. هل ستقرر الصين إيقاف سياسة تجريب الرأسمالية والاستثمار الأجنبي المباشر؟ وهل سيتراجع الطلب على المكونين الأجانب في مادة الإنجليزية لغة ثانية تراجعا مهما، كما حدث في إيران بعد الثورة ؟ وعلى الرغم من التراجع والحيطة الملحوظين مؤخرا، يبدو القادة الصينيون –مع ذلك- متمسكين بالسياسات الاقتصادية التي تتطلب الانتشار المستمر للإنجليزية.
على غرار المتخصصين في الإنجليزية لغة ثانية في إيران قبل الثورة، كان على باولا مارتينسون إعداد الطلبة الصينيين للعمل مع هيئات متعددة الجنسيات وشركات الاستثمار الدولية، والمؤسسات التعليمية المحلية والأجنبية التي تؤهل الموظفين، والبحث وأشكال أخرى من الدعم.
وما دامت مستمرة سياسات استيراد التكنولوجية الغربية، وخلقُ مناطق اقتصادية مخصوصة، وتطويرُ تبادل تجاري واسع مع بلدان الغرب، فستكون هناك حاجة إلى مدرسي الإنجليزية ومتكلميها في الصين.
ومكمن المخاطرة في قرار مارتينسون التدريس في الصين هو أن تقلبات السياسة الاقتصادية قد تجعل عملها في كف عفريت، تماما كما وضعت الثورة حدا لعملها في إيران فجأة.
- اللغة الإنجليزية لغة ثانية والتحديث
بينت الأحداث في إيران والصين منذ أواخر السبعينات العلاقةَ الوطيدة بين اللغة الإنجليزية و “تحديث” البلدان غير الناطقة بالإنجليزية. ففي إيران جُعلت الإنجليزية مطابقة لنظام ممقوت أصبح رمزا للسيطرة الأجنبية.
ولما أطيح بالشاه وجد مناصروه الذين تمتعوا بالامتيازات الاقتصادية والسياسية –بحكم قدرتهم على استعمال الإنجليزية- أنفسهم أمام إيديولوجية ثورية شددت على النقاء الإيراني بدل التحديث. وفي الصين انتشرت الإنجليزية بعد الثورة الثقافية انتشارا سريعا بصفتها وسيلة لمضاعفة إمكانات الوصول إلى العلم والتكنولوجيا، ومن ثم بوصفها أداة لمضاعفة الاستثمار الأجنبي.
وإضافة إلى الربط بين الإنجليزية لغة ثانية وتحولات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة في كل من إيران والصين، سعى البلدان أيضا إلى تحديث تدريس اللغة الإنجليزية، أي أنهما سعيا إلى الاستفادة من حركة التحديث من داخل حقل الإنجليزية لغة ثانية.
وبالفعل كان على رأس التبريرات المقدمة لاستئجار المتخصصين الأجانب في اللغة الإنجليزية لغة ثانية أن هؤلاء يحملون معهم أحدث نظريات التدريس وممارساته. وبناء عليه يجب أن نفحص التحديث من داخل تدريس اللغة الإنجليزية قصد الاستثمار الكامل للصلات بين تدريس الإنجليزية والتحديث.
- نظرية التحديث وتدريس اللغة الإنجليزية لغة ثانية
في نظرية التحديث ينظر إلى الخبراء والمختصين في اللغة الإنجليزية لغة ثانية أمثال مارتينسون بأنهم مستودعات للمعرفة والمهارات يسلمونها إلى النخب التي ستسير المؤسسات “التي يتم تحديثها”.
معنى هذا أن الخبراء مصدر للسلطة بالنسبة لنخبة جديدة. على أن منتقدي نظرية التحديث يشيرون إلى أن معرفة الخبراء الأجانب ومهاراتهم ليست موزعة بطريقة متساوية على المجتمعات “السائرة في طريق النمو”، ومن ثم قد يسهلون تنامي اللامساواة من خلال التضاد.
يضاف إلى هذا أن تسليم السلطة قد يكون وهميا، ذلك أن الخبراء إذ يدعون التخلي عن السلطة فهم يحتفظون بها في الواقع من خلال أداء دور متواصل في المؤسسات التي تم تحديثها. وهكذا يقوم الخبراء، في غالب الأحيان، بوظيفة إيديولوجية هي إعادة إنتاج البنيات المؤسسية التي تولّد اللامساواة والاستغلال.
تسري هذه الانتقادات بصفة خاصة على المختصين في اللغة الإنجليزية لغة ثانية. ونادرا ما تكون الإنجليزية لغة ثانية في متناول كل الأفراد والمجموعات بصفة متساوية في مجتمع “سائر في طريق النمو”.
وبدل ذلك ينبغي القول إنها عادة في متناول مجموعات تتمتع سلفا بامتيازات أخرى اقتصادية وسياسية، هذا فضلا على أن خبراء الإنجليزية لغة ثانية يستأجرون، في غالب الأحيان، مستشارين يقدمون لبلدان لا يعرفون عنها إلا القليل “حلولا” لمشاكل تربوية معقدة(19).
وتقوم الثقة في هؤلاء على الإيمان بأن نظريتهم ومنهجيتهم “حديثتان”؛ ويعبر هذا الإيمان عن مسلمة معتادة مفادها أن كل ما يأتي من البلدان “الحديثة” حديث، ومن ثم أجود من الممارسات “التقليدية”.
لكن دور الطبيعة الإيديولوجية للإنجليزية لغة ثانية لا ينحصر في دور الخبراء بل يتجاوزه إلى مستوى ما يمرّره خبراء الإنجليزية لغة ثانية. والأمر المركزي هنا هو دور السلطة في الممارسات الحديثة لتدريس الإنجليزية لغة ثانية؛ ذلك أن للسلطة في منهجية الإنجليزية لغة ثانية دورا كبيرا في التغيرات الحديثة التي أصابت ممارسات تدريس الإنجليزية لغة ثانية.
فخلال السبعينات انصب انتقاد الطرق التقليدية المعتمدة في تدريس الإنجليزية لغة ثانية على تنظيم الأقسام تنظيما تراتبيا، حيث يظل التلاميذ منتبهين بينما يقوم الأساتذة بتوجيههم في ترديد كورالي لجمل إنجليزية مستظهرة. وفي السبعينات والثمانينات انتقلت عدد من الحصص إلى الطرق “الحديثة”، حيث ينتظر من التلاميذ أن يتحملوا مسؤولية أكبر فيما يتعلق بتعلمهم.
وعلى غرار نظرية التحديث التي تدعي أن “الخبراء الأجانب” يسلمون السلطة إلى مواطني المجتمعات السائرة في طريق النمو باسم التطور الاقتصادي والديمقراطية السياسية، تدعي طرق التدريس “التي تركز على التلميذ” أن المكونين في الإنجليزية لغة ثانية يسلمون السلطة إلى الطلبة باسم التعلم الفعلي وديمقراطية الفصل.
- المثال الإعلامي 1.4
“منح السلطة” جون كلين TESOL Newsletter , October 1987
كيف أنجز درسا [ في الإنجليزية لغة ثانية لفائدة مستوى متقدم ] يدفع كل المشاركين إلى التنافس؟ كيف يمكن أن يتقدم المرء حثيثا نحو هدفه؟ الجواب فيما أظن هو أن يتحمل الطلبة مسؤولية تعلمهم أثناء الدرس.
ويحتاج هؤلاء إلى تحديد الغاية وسبل وزمن تحقيقها. أحتاج إلى توفير المناخ الملائم بإعداد الوسائل والمعلومات التي ستقدم لهم مساعدة جلّى. أما أول شيء ينبغي لي فعله فهو تسليم السلطة لهم.
يكمن التحدي في إعداد سيناريو يتفادى مبادرة الأستاذ وتقاعس الطلبة. فالتخطيط في معظمه واتخاذ القرار والاختيار والأنشطة وتدبيرها، وقبل ذلك كله التحدث –بما في ذلك المراجعة- ينبغي أن يقوم به الطلبة…
فبتلاحم المجموعة أتراجع إلى الوراء؛ أنا هنا لتوجيه الطلبة نحو العمل أزواجا وفي مجموعات صغيرة، ثم تجميعهم بين الفينة والأخرى من أجل وضع تقارير جماعية. أنا هنا أيضا لأنبههم إلى إمكانات الدرس، إلى الأنشطة والوسائل والمعدات والمعطيات التي في المتناول…
من الصعب الاكتفاء أحيانا –طوال الأيام اللاحقة- بوضعية المتفرج، لا سيما حين تسير الأمور سيرا غير مرض وأنا قادر على ترتيب الأمور بسهولة. من الصعب أيضا عدم المشاركة في نقاش حيوي، بينما دوري هو ملاحظة وتسجيل نقط حول اللغة من أجل حصة الاستذكار،… بدل القيادة أسير خلف الطلبة وهم يحققون، بطريقتهم الخاصة، تقدما أكبر مما لو قدتهم…
- أسئلة
هل يفترض “كلين” تحديدا كونيا للأقسام الناجحة؟ هل تعتقد أن هذا التحديد ينطبق على كل البلدان، مثل الصين وإيران ؟
2) هل يتخلى الأستاذ عن “السلطة” في القسم، كما وصف ذلك كلين أم تراه يتخلى عن جزء منها فقط؟ ما هي الطرق التي يحافظ بها الأستاذ على السلطة ؟ تأمل القرارات المتعلقة بمحتوى مواد المقرر وتنظيم الدرس وتقويم إنجاز الطلبة ؟
3) ما هي “السلطة” في القسم ؟ هل يكره الأستاذ ممارسة السلطة ؟
تدعي مختلف الطرق والوسائل الحديثة التي تخص تدريس الإنجليزية لغة ثانية أنها تقوي سلطة الطلبة. وتدعي طريقة الإنصات (Gattegno 1972- )، والاستجابة الطبيعية المحضة (Asher 1977 )، والمقاربة الطبيعية (Krashen and Terell 1983 )، والتعلم الاستشاري (Curran 1976 ) وطرقٌ أخرى تحكّم الطلبة بصفة متزايدة في عملية التعلم، وفيما يجري في قسم الإنجليزية لغة ثانية.
أضف إلى أن طريقة الاستجابة الطبيعية المحضة، مثلا، تؤكد أن الحصص التي تركز على الطلبة تضاعف تحفيزهم بتحويل العمل إلى لعب. ويذهب أنصار طريقة الإنصات إلى أن الطلبة يحصلون على سلطة كبيرة لأن الأستاذ نادرا ما يتدخل.
وتتأسس مثل هذه الادعاءات على رأي شعبي –وإن كان ضمنيا- يتعلق بما ينبغي أن يكونه القسم. تلخص راوندس (20)هذا الرأي عند تحليلها القدرة التواصلية في القسم قائلة:” يمكن أن نصف الخطاب الناجح في الفصل بأنه ما ينشأ عن قدرة الأستاذ على تطوير مناخ تفاعلِ تعاوني وتوافقي، أي حاسة العمل الجماعي لتحقيق غاية ما”.
على الرغم من الاعتقاد السائد بأن الطرق والوسائل الحديثة تقوي سلطة الطلبة، فإن هذه الطرق تقوي علاقات السلطة اللامتساوية بطريقتين:1) وضعيات المفارقة التي يوجد فيها الطلبة والأساتذة؛ 2) التشويهات المضمرة في وصفها الزاهي لحياة الطلبة.
بحث كل من كلارك وسيلبرستاين (1988) ظهور المفارقة التداولية في التدريس الحديث للإنجليزية لغة ثانية. وقد وجدا أن المفارقة التداولية تحدث حين تتوافر ثلاثة شروط: أ- وجود علاقة مهمة بين الأفراد، لكن سلطتهم غير متساوية؛ ب- صدور أمر لا يمكن تجاهله أو تجاوزه أو خرقه؛ ج- انعدام حل للوضعية عن طريق المناقشة.
حين تتوافر هذه الشروط يجد الأفراد أنفسهم في “قيد مضاعف” يستحيل التصرف في ظله، رغم أن التصرف مطلوب. وحين يطلب من التلاميذ على سبيل المثال، “تسلم زمام الفصل” يوضعون في قيد مضاعف؛ فهم يعلمون أن الأستاذ هو المسؤول في الفصل، ومن ثم لا يملكون سلطة تسلُّم زمامه حقا. ولكن نظرا لأن الأستاذ هو المسؤول فيجب على الطلبة أن يخضعوا لأمر تسلم الزمام.
يضع عدد من ممارسات التدريس الطلبة في وضعية المفارقة هذه بصفة منتظمة. فعلى سبيل المثال تدعي طرق التدريس أن أحسن قسم هو ذاك الذي يشبه “الحياة الواقعية” شبها كبيرا، وهكذا يحث المدرسون الطلبة على المساهمة الفعالة في مناقشة موضوعات شخصية (كالإجهاض، وممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج)،
هذا على الرغم من أن الطلبة قد يحسون بأن القسم ليس مكانا مناسبا لمناقشة مثل هذه الأمور. ولأن السلطة سلطةُ الأستاذ فالطلبة ليسوا أحرارا في رفض المشاركة، أما حين تكون المناقشة “واقعية” خارج القسم فهم أحرار حقا.
لا تنحصر المفارقة التداولية في الطلبة أثناء حصص الإنجليزية لغة ثانية، ولكن هي مفارقة تشمل العمل اليومي للأساتذة المنتظر منهم أن يحلوا أهم المشكلات الاجتماعية، ولو أن سلطتهم داخل المجتمع هامشية، إذا ما قورنت بسلطة مهنيين آخرين كالأطباء والمحامين.
إن التركيز على طرق التدريس التواصلية والإنسانية يخلق وهْم وجود حلول سهلة للقضايا التربوية، ووهْم قدرة التعليم على حل أهم المشكلات الاجتماعية المتجذرة في اللامساواة الاقتصادية. وهكذا يشتغل الأساتذة في وضعيةِ سلطتُهم فيها سلطةٌ ضعيفة، بينما يبحثون عن “حلول” لمشاكل لا يتحكمون فيها إلا قليلا.
هذا المنظور مضمر في توصية تقرير سوان بأن التعليم يمكن أن يحل مشاكل المواقف العنصرية واللامساواة الاجتماعية.
يكمن المظهر الثاني للطبيعة الإيديولوجية لأقسام الإنجليزية لغة ثانية في الوصف الزاهي للواقع الضمني لممارسة التدريس في القسم والكتب المدرسية ووسائل أخرى. ففي الأبحاث التي أجريت حول “البرامج الكامنة” لإنجليزية “البقاء” الملقنة لغةً ثانية وجد ويرباخ وبورجيس (1985) وويرباخ (1986) أن معظم النصوص تتجاهل المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ترفد الحاجات التعليمية للطلبة.
وعلى هذا النحو تركز الدروس الدائرة حول السكن مثلا على مسؤولية المكترين (أي الطلبة) عن أداء واجبات الكراء، لكنها تتجاهل مسؤولية المالك عن الحفاظ على معايير الصحة والأمن.
وتقدم الدروس المتمحورة حول الشؤون المالية حوارات تبسيطية يحصل فيها الأفراد على قروض تمليك السكن بسهولة، والحال أن عددا من الطلبة لا تتوفر فيهم شروط الحصول عليها.
وعلى الجملة وجد ويرباخ وبورجيس أن عددا من النصوص تتجاهل مشاكل الحياة الواقعية للطلبة، ولا تشجع مناقشة الحلول البديلة. وبدل ذلك تقدم حلولا تبسيطية في حوارات ذات قيمة ضحلة في مجتمعات مبنينة تبنينا تراتبيا.
وبصفة أعم تفترض عدد من حصص الإنجليزية لغة ثانية أن مناقشة الأمور الشخصية في هذه الحصص يمكن أن تقوي سلطة الطلبة بما فيه الكفاية بحيث يعدون قادرين على حل جل مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية.
هذا التفاؤل متأصل في الافتراض الكلاسي الجديد بأن المشاكل ذات طبيعة فردية ومن ثم فحلولها توجد لدى الفرد، ولا تكمن في القوى التاريخية-البنيوية التي تحكمه وتتجاوز طاقته.
النتيجة المترتبة من المفارقة التداولية، والدروس اللاواقعية لإنجليزية البقاء هي أن كثيرا من حصص الإنجليزية لغة ثانية لا تقدم أداة لتجاوز أشكال اللامساواة التي يعاني منها كثير من الكتعلمين في البلدان “الحديثة” والبلدان “السائرة في طريق التحديث”.
يحاول الطلبة والأساتذة جعل أقسامهم تواكب ممارسات التدريس الإلزامية التي يدعي منظور التعليم أنها ستؤدي إلى تعليم لغوي فعال، وتعليم عال، وشغل جيد، وعدد محدود من المشاكل الاجتماعية والنفسية.(21)
والنتيجة أن حصص الإنجليزية لغة ثانية –مثل عمليات التحديث عامة- تشتغل بوهم التقدم الذي قد يساعد على ترسيخ العلاقات الاجتماعية غير المتساوية.
- هوامش
1- Cheng 1982; Pride and Ru-Shan 1988.
2- انظر Hall 1984.
3- Light 1978 ; Yin 1985.ذ
4- الترجمة الفورية.
5- Light 1978
6- Schell 1988, p. 55
7- op. Cit. 52.
8- انظر Pride and Ru-Shan 1988.
9- Schell 1984,1988
10- Der-min 1988
11- Lehmann 1975, pp.76,77.
12- Cowan, Light, Matthews, and Tucker 1979, p.466.
13- op, cit.
14- Yin 1985; Barnes 1983.
15- Grabe and Mahon 1981.
16- Light 1978.
17- Kristof 1989 b.
18- Kristof 1989 a
19- انظر Clarke 1982, 1984.
20- Rounds 1987; p.666
21- Clarke and Silberstein 1988, p. 692.