كلاسيكيات الأدب العربي
تعكس بعض برامج المسابقات الثقافية واقع المجتمعات وموقعها من التطور، أو التخلف. ويكفي لمن يتابع بعض هذه البرامج في القنوات الأجنبية والعربية أن يدرك الفرق الثقافي الشاسع بين المجتمعات. يشارك في برنامج ثقافي فرنسي (أسئلة من أجل بطل مثلا) أشخاص من فئات عمرية مختلفة، ومن الجنسين، ومن مهن واختصاصات متعددة. تتنوع الأسئلة وتتعقد، ونجد من بين المتسابقين من يفلح في الجواب عن أغلبها، وإن كانت بعيدة جدا عن اختصاصه. لا يمكن لمتتبع هذا البرنامج من العرب إلا أن يفاجأ باتساع الأفق الثقافي للمشاركين وسعة اطلاعهم، وشمولية معرفتهم.
ما كان يثيرني في هذا البرنامج هو المعرفة المشتركة بين المتسابقين في ما يخص الأسئلة ذات الطابع الأدبي، حيث كنت دائما ألمس تقاربا في امتلاك معرفة عامة واطلاعا دقيقا على الأدب الفرنسي، خاصة الرواية، في أدق جزئياتها. وتساءلت كذا مرة مع نفسي، لو توفر لدينا نحن العرب مثل هذا البرنامج، هل سيوفق المتسابقون في تقديم الإجابات الصحيحة عن أسئلة تتعلق بأحداث، أو شخصيات في الكثير من النصوص الروائية العربية؟
أستنتج جوابا على هذا السؤال أن التعليم اضطلع بقسط وافر في تحقيق الاشتراك في امتلاك تلك «الثقافة الأدبية» بين أفراد المجتمع الفرنسي. كما أن الإعلام اضطلع بدوره بنصيب آخر لا يقل أهمية عن التعليم.
ويبدو لي كلما زرت مكتبة حضورا للكتب «الكلاسيكية» في الأدب الفرنسي. تقدم هذه الكتب في كل مرة بصيغة جديدة، وبشكل أنيق، وأثمنة مناسبة.
بدأت تقام الآن معارض الكتب في العواصم العربية تباعا، لكن هل ثمة خطط لنشر الكتاب وتوزيعه؟ أم أن الناشرين يقدمون ما توفر لديهم من كتب جديدة؟ أو إعادة تسويق كتب حسب الطلب؟ هل الناشر يسهم في خلق قارئ جديد؟ أم يكتفي بالتوجه إلى القارئ الموجود؟ أسئلة كثيرة تفرض نفسها على معارضنا، سواء تعلق الأمر بالمنظمين أو الناشرين. ولهذا نجد المعارض تتشابه، ولا فرق بين عام وآخر. ولعل هذا من العوامل التي تسهم في جعل الأسئلة المتصلة بالقراءة، والعزوف عن الكتاب، وما شابه هذا من الأسئلة، تثار دائما بدون أن نجد ما يجعلنا نتجاوزها إلى غيرها من الأسئلة التي تتصل بالنقاش الثقافي حول الكتاب ومضمونه وأفكاره، وليس فقط حول تقنيات تسويقه وترويجه.
السؤال المركزي المركب الذي يمكننا طرحه هو: ما المشترك الثقافي الذي يمكن أن يجمعنا؟ وكيف يمكن تحقيق هذا الاشتراك من خلال المدرسة والإعلام، والساحة الثقافية؟
إن السؤال المركزي المركب الذي يمكننا طرحه هو: ما المشترك الثقافي الذي يمكن أن يجمعنا؟ وكيف يمكن تحقيق هذا الاشتراك من خلال المدرسة والإعلام، والساحة الثقافية؟ ويتولد عن هذا سؤال آخر مركزي: ما هو نوع الثقافة التي ينبغي جعلها أساسا ومرتكزا لتكوين جيل جديد يتربى على حب الكتاب، والاهتمام بالثقافة؟ يبدو لي أنه بدون التفكير الجماعي في الجواب عن هذين السؤالين، سنظل نطبع الكتب، ونؤلفها بدون أفق ثقافي محدد، أي بدون مقاصد معينة. وغياب هذا التفكير لا يمكن إلا أن يؤدي إلى ترك الأجيال الجديدة نهبا لما تقدمه لهم الوسائط الاجتماعية الجديدة. إن التقدم في الجواب عن الأسئلة التي نطرح يمكن أن يجعل هذه الأجيال تتفاعل في ما بينها، من خلال هذه الوسائط، بمستوى عال من الاهتمام الثقافي المشترك بقضايا أكثر جدية، وأهمية.
ما يمكن أن يكون أساس الثقافة المشتركة لدى أي شعب من الشعوب هو الأدب الذي ينتجه أبناؤه تعبيرا عن رؤيتهم للعالم. وهو ما يمكن أن تختص به أمة ما عن غيرها، وبه تسهم في الثقافة الإنسانية. ليس الأدب موضوعا للمختصين بدراسته فقط. إنه ما يجمع بين مكونات المجتمع، مجسدا بذلك طموحاتهم وواقعهم وأحلامهم. إنه بتعبير آخر اللغة الثانية التي يمكنهم بها أن يتواصلوا إلى جانب لغتهم اليومية. ومتى ضعف لدى أمة الاهتمام بآدابها قل شأنها واعتبارها.
إن ما نسميه «كلاسيكيات الأدب العربي» هو ما يمكن أن يشكل ركيزة وأساس الثقافة العربية لدى الأجيال الجديدة. أذكر كتابا يحمل عنوان «جامع مهمات المتون» كان متداولا في منتصف القرن الماضي، وهو يضم نصوصا شعرية، ومتونا في مختلف العلوم العربية، ويقدم معارف متنوعة شكلت مشتركا بين أجيال من القراء. نحن في أمس الحاجة اليوم إلى مصنفات كثيرة من هذا النوع من الكتب، لما ينبغي أن يكون به العربي عربيا في القرن الحادي والعشرين بحيث يجمع بين كلاسيكيات الأدب والثقافة العربيين، وما تقتضيه معارف العصر الذي نعيش فيه. وإذ أركز على الأدب أرى أنه الجامع الثقافي الذي يمكن أن يسهم في تشكيل الاشتراك الثقافي، الذي يتيح لنا إمكانية التواصل أكثر من أي وقت مضى. كما أن ذلك يسمح لنا بالإبداع في أفق أوسع.
لا يمكنني تصور فرنسي لم يقرأ «مدام بوفاري» أو «البؤساء» أو «الأمير الصغير»، لكن ما هي كلاسيكيات الأدب العربي التي يمكن بواسطتها تشكيل الخلفية الثقافية للأجيال القادمة؟ إنه سؤال المستقبل الثقافي العربي.