فكر وفلسفة

“بيار هادو” فيلسوف الأزمات

عند حصوله على شهادة الباكلوريا عام 1939، كان المفكر بيار هادو (1922-2010) الذي عمل لسنوات طويلة أستاذ كرسي في “الكوليج دو فرانس“، متأثرا بفلسفة هنري برغسون مثل كل أبناء جيله في ذلك الوقت.

وقبلها كان قد عاش تجربة أحدثت تأثير هام على حيته الفكرية. فقد كان في الثانية عشرة من عمره عندما شاهد في ليلة شتاء السماء المرصّعة بالنجوم.

وعندئذ شعر برعب سرعان ما تحول إلى ابتهاج روحيّ. فقد أدهشه أن يكون جزءا من ذلك العالم المجهول، المترامي الأطراف.

وقد تكون تلك التجربة التي أول تجربة قادته إلى عالم الفلسفة التي سَيُفْتَنُ بها فيما بعد. وهو يقول: “عندما قرأت الفلاسفة الوجوديين الأكثر أهمية، أدركتُ أن الأفعال الأشد تأثيرا بالنسبة للفيلسوف هي تلك التي تتأتّى من إحساس الانسان بوجوده في العالم.

ويبدو لي أن روسو صاحب” هواجس المُتَنَزّه المنفرد بنفسه” هو اول من أدخل العاطفة إلى الفلسفة، وبعده جاء شيلينغ، وشوبنهاور، ونيتشه، ومهما يكن، فإن تجارب مراهقتي قادتني إلى التفكير بأن الشيء الجوهري في الفلسفة هو إعادة وضع الذات في كليانية الكون، والتي هي جزء منه.وقد كان نيتشه يقول: إذهب إلى أبعد من نفسك، ومن أنت، وليكنّ شعورك كونيا”.

ويقول بيار هادو إنه لما تقدم لامتحان البلكلوريا، كان موضوع الفلسفة جملة لبرغسون فيها يقول :” الفلسفة ليست بناء نظام، وإنما أن نتخذ قرارا بالنظر بكل بساطة وسذاجة إلى داخل أنفسنا وحولنا”. ويعتقد بيار هادو أن هذا التعريف بالفلسفة لا يزال صالحا إلى حد هذه الساعة إذ أن الفلسفة ليست نشاطا نظريا تجريديا.

وإنما هي طريقة جديدة للإدراك الحسي الذي يصفه برغسون ب”الساذج”، بمعنى نظرة الفنان بالدرجة الأولى إلى الطبيعة، مُتَحررا من عاداته ومن مصالحه الأنانية تلك التي تمنعه من النظر إلى الواقع كما هو…

وفي سنوات شبابه، تأثر بيار هادو بهايدغر، وبالشاعر الألماني راينار ماريا ريلكه. وكانت الأطروحة التي أعدها لنيل شاهدة الدكتوراه حول كاتب لاتيني مغمور من القرن الرابع يدعى ماريوس فيكتوريوس.

وفي نفس تلك الفترة اهتم بفلاسفة الاغريق القدماء من أمثال أفلاطون وأرسطو وبلوتين وهيراقليطس. وعلى مدى سنوات طويلة، ظل يسعى جاهدا لفك رموز جملة هذا الأخير التي فيها يقول :” الطبيعة تحبّ أن تتخفّى”.

وفي عام1977، ألف بيار هادو كتابا سمّاه:” تمارين روحيّة. وكانت غاياته من هذا الكتاب هي
-أن نتعلم كيف نعيش
-أن نتعلم كيف نتحاور
-أن نتعلم كيف نموت
-ان نتعلم كيف نقرأ

وقد تأثر الفيلسوف الفرنسي الآخر ميشال فوكو بهذا الكتاب الذي حدد صاحبه معناه الروحي قائلا:” إن التمرين الروحي فعل إراديّ، شخصيّ، غايته الأساسية تغيير الذات.

فعند الفلاسفة الرواقيين مثلا، كان التمرين الروحي يتمثّلُ في أن يكون الانسان قادرا على تحمل ضربات القضاء والقدر مثل الفقر، والمرض، والمنفى، وذلك بالاستعداد لهذه الضربات فكريا.

وهذا الاستعداد الفكري هو من مهام الفلاسفة. وقد قام الأبيقيريون بإعداد تمارين روحية هم أيضا…”.

ومن بين التمارين الروحية يمكن أن نذكر الاعتراف بالذنب، وبالخطأ، والحد من طغيان النزوات والرغبات، والقراءة التأملية، وتركيز الانتباه على اللحظة الراهنة. وفي “الأغذية الأرضيّة”، يقول اندريه جيد :”كل لحظة من لحظات حياتنا ليس بالإمكان تعويضها… لذا أعرفْ كيف تركز عليها هي فقط”.

ويرى بيار هادو أن غوته، شاعر ألمانيا الأكبر، كان يمتلك تصورا خاطئا ومثاليا للحياة اليومية في العصور القديمة معتقدا أن الناس كانوا يعيشون حياة سعيدة. وكان يُسَمّي ذلك :”صحة اللحظة”.

وهو يعني بذلك أن المسيحية نَسَفَتْ الانسجام الرائع عندما أجبرت الناس على التفكير في الموت، حارمة إياهم من ملذات الحياة. من جانب آخر، كان غوته يعشق الفلاسفة الاغريق خصوصا الرواقيين والأبيقوريين. وكان يعتقد أن الشعب اليوناني وفلاسفته كانوا يقولون نعم للحياة، وللعالم.

وكان مارك اورال يقول :” إن خاصية الانسان الخيّر هو أن يحب، وأن يستقبل بانشراح وسعادة كل الأزمات وكل الأحداث”. وباختصار أشد كان غوته يقول الشيء نفسيه في هذه الجملة :”الحياة مهما كانت ، هي شيء جميل”.

حسّونة المصباحي

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى