فكر وفلسفة

خطاب ما بعد الحداثة وعبثيّة الذّات

يُعَدّ مفهوم ما بعد الحداثة من المَفاهيم والمُصطلحات التي أثارَت جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافيّة والفلسفيّة العالَميّة على مدى العقود الأربعة الأخيرة، وإن كان نشوء هذا المفهوم يرقى إلى الناقد الأميركيّ من أصل عربيّ د. إيهاب حسن في النصف الثاني من أربعينيّات القرن المُنصرِم.

كما أنّ مفهوم “ما بعد الحداثة” أثار التباسات كثيرة، وذلك بسبب اختلاف النقّاد حوله والدارِسين، نظراً لتعدّد مَفاهيمه ومدلولاته من ناقدٍ إلى آخر. لكنْ، على الرّغم من هذا، هناك شبه اتّفاق يصل إلى حدّ الإجماع على ارتباط ما بعد الحداثة بفلسفة التفكيك والتقويض والعدميّة والإقصاء، وتحطيم المقولات المركزيّة الكبرى التي هَيمنت على الثقافة الغربيّة.. من أفلاطون حتّى يومنا هذا.

من هنا تُعَدّ ما بعد الحداثة بالنسبة إلى كثيرين نزعةَ عدميّة على نحوٍ خطير؛ فهي تقوِّض أيّ معنى للنظام و للسيطرة المركزيّة للتجربة، فلا العالَم ولا الذّات يغدوان وحدة مُتماسِكة.

وفي هذا السياق نجد الخطاب ما بعد الحداثي خطاباً فوضويّاً يقوم على تغييب المعنى وتقويض العقل؛ بل ممّا يزيد الأمر خطورة، هو أنّ فلسفات ما بعد الحداثة تمثِّل مَعاوِل للهدْم والتفكيك.

وأنّ هذه الفلسفات تعمل جاهدة أيضاً على تحرير الإنسان من المقولات المركزيّة التي تحكَّمت بالثقافة الغربيّة.

هذا كلّه يتمّ في سياق التسلُّح بمجموعة من الآليّات الفكريّة و المنهجيّة، كالتشكيك والتفكيك والاستلاب. فهي تجعل من الإنسان كائناً عبثيّاً فوضويّاً لا قيمة له في هذا الكون المغيَّب، يعيش حياة الغرابة والمُفارَقة، ويتفكَّك أنطولوجيّاً في هذا العالَم الضائع بدَوره تشظّياً وضالّة وانهياراً و تشتُّتاً.

في هذا السياق نشير إلى أنّ من أبرز سمات فلسفة ما بعد الحداثة إقصاء الذّات وعدميّتها. فلقد كانت مقولة موت الإله هي الحدث الأبرز في العصر الحديث بما تتضمّنه هذه المقولة من فقدانٍ للقيَم الإنسانيّة، وسقوط الإنسان في دوّامة لا نهاية لها، ولا فكاك أو خلاص منها، ما جعل الإنسانيّة تعيش العدميّة والعبثيّة في أقصى مراحلهما؛ إذ قامت الحداثة بهدْم القيَم التقليديّة من دون طرْح قيَمٍ بديلة.

وفي هذا السياق يشير نيتشه إلى أنّ الحداثة ألغت الحياة وأفرغَتْها من قيمتها وحوَّلتها إلى حالة من العدم، وقد عبَّر عن هذه العدميّة بمقولة موت “الإله”. لكنّ “موت الإله” عند نيتشه لا يعني “موت الإله” السماوي، بل مَوت القيَم الإنسانيّة والمُثل العليا وبشكلٍ عام موت الميتافيزيقا.

موت الإله يعني التضحية بالذّات الإنسانيّة وقيمها، وسقوط الإنسان في دوّامة اللّاإنسانيّة، وشعوره بفقدان معنى الحياة، وكذلك اغترابه عن ذاته، أي، بالمعنى الأدقّ، عبثيّة الذّات.

لذا، مثَّل نيتشه الأب الروحي لتيّار ما بعد الحداثةمفهوم الحداثة في فكر محمد سبيلا، لأنّه قدَّم نبوءات عدّة للقرن الجديد مثَّلت علاماتٍ فارقةً لهذا القرن، كما مثَّلت مَساراً مهمّاً في أحداث هذا القرن. ولقد استخدم نيتشه مفهوم “موت الإله” كمطرقة ضخمة ضدّ كلّ المؤسّسات القائمة والمذاهب الأخلاقيّة؛

حيث إنّ قيَم الإنسان الحديث كلّها، فضلاً عن العِلم والعقلانيّة و الواجب الأخلاقي، والديمقراطيّة والاشتراكيّة هي أعراض فساد وانحطاط يجب سقوطها عن طريق إرادة القوّة وظهور السوبرمان.

لذا كان موت الإله في الفكر الغربي بمثابة ثورة كوبرنيكيّة أدَّت إلى انهيار مركزيّة الإله كي تعوّضها مركزيّة الإنسان. فلقد كان نيتشه سبّاقاً في التنبيه إلى خطورة موت الإله كحدثٍ ميَّز العصور الحديثة، وأدّى إلى تحويل القيَم الإنسانيّة إلى عدم مُطلق أَفقَدَ الإنسان الأوروبي ثقته بكلّ شيء.

في هذا الإطار نشير إلى أنّه إذا كان من أبرز سمات الحداثة نزعتها الذاتيّة التي ميَّزتها عن النزعة الموضوعيّة للفلسفات السابقة، فإنّ فلسفات ما بعد الحداثة تؤكِّد على موت الذّات وعدميّتها، ومن ثمّ القضاء على التقابل الشهير بين الذّات والموضوع الذي كرَّسته الحداثة،

ورفْض المبدأ المثالي طالما أنّه ليس هناك موضوع من دون ذات. وإذا رجعنا إلى تاريخ الفكر الفلسفي لتلمّس هذا الموقف وتلك الرؤية في إقصاء الذّات وعدميّتها عند أشهر تيّارات نزعة ما بعد الحداثة، سوف نجد هذا الموقف الرافض للذّات والمُستبعِد لها عند البنيويّة.

التي اتَّخذت من موت الذّات نداءً لها، بحيث قذفت بالنزعة الإنسانيّة إلى أدنى منزلة، وأخذت على عاتقها تحطيم البديهيّات التي طالما ارتكز عليها الفكر الغربي، ومنها فكرة الإنسان.

هذا المضمون نفسه نجده عند ميشيل فوكو في كِتابه “نِظام الأشياء”، حيث أَعلن الموت الوشيك للإنسان، وكذلك في كِتابه “أركيولوجيا المعرفة“. ففي مفهومه للابستميّة، رأى أنّ نيتشه بَشَّر بظهور الإنسان الرّاهن وظهور مرحلة جديدة للفكر المُعاصر عند تأكيده على أنّ قوّة الإقناع التي تتّصف بها مسلّمات المنطق والميتافيزيقا،

وأيضاً الاعتقاد بفكرة الجوهر والعرض والمحمول إنّما ترجع كلّها وتعود إلى ما تعوّدناه من اعتبار كلّ نشاطاتنا كنتيجةٍ لإرادتنا، وذلك على الرّغم من أنّ إرادتنا هذه لا وجود لها.

ولقد نحا هذا المنحى أيضاً في إقصاء الذّات وعدميّتها كلود ليفي شتراوس؛ وحجّته في ذلك أنّ الذّات هي الطفل المدلَّل الذي شغل المسرح الفلسفي منذ مدّة طويلة، ووقَف حجر عثرة في وجه كلّ عمل جادّ لرغبته المستمرّة في الاستئثار وحده بكلّ انتباه.

ومن هنا شنّ شتراوس حملة شعواء على كلّ نزعة ذاتيّة، واستبدل بعبارة سارتر القائلة إنّ الجحيم هو الآخرون عبارته القائلة إنّ الجحيم هو الذّات؛ بحيث اعتقد بالتالي أنّ الغاية القصوى للعلوم الإنسانيّة ليس تركيب الإنسان بل إذابته.

واستمرّ الرفض عَينه للذات والدعوة إلى إقصائها مع جاك دريدا الذي استغنى عن الذات وضحّى بها في فلسفته، بعدما قام بمحاولات مُستميتة لتقويض الفلسفة القائمة على الذات كما ورثها الغرب من ديكارت، تقويضاً نهائيّاً.

وهو في محاولته هذه يذهب إلى أبعد ممّا وصل إليه فوكو، حيث حاول أن يدمِّر ويعصف بالمحور الرئيسي والفكرة المركزيّة التي قامت عليها كلمة الميتافيزيقا، وهي مركزيّة العقل؛ أي احتلال العقل و الكلمة للنقطة الأساس التي تجعل منها المَرجع الأخير لكلّ فلسفة بل لكلّ حقيقة.

ونقطة الانطلاق عند دريدا هي البحث عن مكانة جديدة للكلمة بإسقاطها من مركزها المتسلِّط كأصل اللّغة ومركزها. وفي هذا المسار أيضاً اتَّجه الفيلسوف الأميركي أرنست هوكنج إلى استبعاد الذّات ورفضها والتأكيد على عدم جدواها بمفردها في تشكيل الخبرة الإنسانيّة.

من هنا يمكن تجاوز الأنا الأحاديّة فقط من خلال إبراز الخبرة الفعليّة التي تقدِّم لنا الأساس لتصوّرنا عن المُشارَكة والتفاعُل مع المجتمع.

هكذا يتّضح لنا بجلاء ارتباط فلسفة ما بعد الحداثة ارتباطاً وثيقاً بالعدميّة والتفكيك وتقويض الذّات، و استبعادها وإقصائها، والتأكيد على عبثيّتها، وعدم جدواها. ومن هنا انهارت القيَم الإنسانيّة وتمّت إماتة الذّات ودفنها في قبر عميق.

لقد صارت الذّات الإنسانيّة ريشة في مهبّ الريح على يد تيّار ما بعد الحداثة الذي أفضى إلى زعْزَعة الثقة في القيَم الإنسانيّة كلّها. فيما شعر الإنسان في المقابل بالاغتراب والغربة، وأضحت القيَم الإنسانيّة كلّها عبثاً لا طائل منه، ما جعل الإنسان يفقد الثقة أو اليَقين في كلّ شيء.

عماد الدّين عبد الرّازق

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى