فكر وفلسفة

“الفلسفة الفرنسيّة المُعاصِرة”: موسوعة عربيّة

- مؤسسة الفكر العربي -

 

صدور الجزء الأوّل من “الفلسفة الفرنسيّة المُعاصِرة: اتّجاهاتها ومَذاهبها وإسهاماتها”، وعنوانه: “فلسفات البنيويّة والتفكيك والاختلاف”، (عن دار نشر صوفيا، الكويت؛ الطبعة الأولى – 2021؛ 509 صفحات)، باللّغة العربيّة، هو حَدَثٌ لافِتٌ في مجال الثقافة العربيّة المُعاصِرة عموماً، وبخاصّة في جانبها الفلسفيّ؛ من إعداد مُشير باسيل عون، الأستاذ في الجامعة اللّبنانيّة، مع مجموعة من باحثين أكاديميّين من لبنان والعالَم العربيّ.


هذا الجزء الأوّل الصادر هو رأس سلسلة من عشرة أجزاء تُشكِّلُ مشروعَ موسوعة “الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة”، وهو الحصيلة الأولى للجهود التي بُذلت في تأليف البحوث الأربعة عشر التي يتضمَّنُها هذا المجلَّد عن أربعة عشر فيلسوفاً، بقلم باحثين يعتصمون جميعهم بالمجّانيّة تعزيزاً لاستقلاليّة فِكرهم، أكاديميّين غالبيَّتهم أساتذة فلسفة في الجامعة اللّبنانيّة، قاموا بأبحاثهم، بمُعظمهم، بغيابِ مَراجِع دراسيّة باللّغة العربيّة. والموجود النادر منها لا يكفي ولا يُمكن الركون إليه.


فكان لا بدّ للباحث من اعتماد المَراجِع، كما المَصادِر، باللّغة الفرنسيّة ونقْل ما يحتاج إليه من مُقتبساتٍ حَرفيّة إلى اللّغة العربيّة التي يكتب بها. وصعوبات أخرى مُتلازِمة مع هذا النقل، تعود إلى أنَّ تعريب بعض مُصطلحات المؤلِّف هي غير مُتداوَلة في لُغته، وبالتالي غائبة عن مَعاجِم اللّغة، صيغت في أسماءٍ وأفعالٍ لغويّةٍ جديدة، مُفردة أو مُركَّبة من جذرَيْن لغويَّيْن…! مع الإشارة، إلى أنّ كلّ هذا الجهد الإضافي، وبالمُوازاة، هذا الشرط الضروري، لا يجعل هذا العمل ترجمةً، بل هو تأليفٌ باللّغة العربيّة: إنّها “موسوعةٌ عربيّة”، غير مسبوقة، حول الفلسفة الفرنسيّة المُعاصِرة.


والفاعل المركزي في هذا المشروع الفكري، مُشير عون، أَظهر براعةً وسعةَ اطّلاعٍ في إعداد الموسوعات الفلسفيّة. فهو يُدير حاليّاً، وبالموازاة، عملاً جماعيّاً آخر، وبأقلامٍ عدّة أيضاً، عن الفكر الفلسفي العربي المُعاصِر، صدرَ منه حتّى الآن جزءان، عن “مركز دراسات الوحدة العربيّة”، الأوّل بعنوان: “الفكر الفلسفي المُعاصِر في لبنان” (2017)، و”الفكر الفلسفي المُعاصِر في سورية” (2020)، والثالث، هو قَيد الإعداد، بعنوان: “الفكر الفلسفي المُعاصِر في تونس”!


هذه الموسوعة التي لم تَكتمل بعد، تنطوي على فكرةٍ غير مسبوقة تقوم على الجمْع، بين دفَّتَيْ كتابٍ واحد، ومن غير تصنيف، الذين، في بلدٍ عربي، تفرَّغوا للتأليف الفكريّ، وكان لهم باعٌ في الأنشطة ذات الطّابع الفلسفي، أتعليماً أكاديميّاً كان أم مُشارَكةً في ندواتٍ ومُحاضراتٍ ومؤتمراتٍ، وانطوت مؤلّفاتُهم على مَواقِف فلسفيّة مُميَّزة كان لها، ولا يزال، أثرٌ فكريّ في قرَّائهم وطلّابهم وفي بيئتهم، وأحياناً على المدى الأوسع، وبصرف النّظر عن انتماءاتهم ومَذاهبهم الفكريّة والمُعتقديّة الشخصيّة.


وهذا المعيار الذي ينطبق أيضاً على الذين اختاروا أن يكتبوا عنهم بحرّيّة وبمنهجيّة أكاديميّة صارمة، هو توكيد لقيمة الحقّ في الاختلاف واحترام الرأي الآخَر والعديد من القيَم المُنتهَكة عندنا، وضمن إطار المُساواة في المواطَنة والوحدة الوطنيّة والإنسانيّة.


  • في معيار تصنيف الفلاسفة

أمّا موسوعة “الفلسفة الفرنسيّة المُعاصِرة”، فبالإضافة إلى مَعايير الحقوق المُجتمعيّة والإنسانيّة، فإنّها تَطرح إشكاليّة لم يُواجِهُها مُعِدُّو مشروع الفكر الفلسفي العربي، تقوم على وضْعِ معيار تصنيف الفلاسفة الفرنسيّين المُعاصرين بحسب اتّجاهاتهم، وتداخُلِهم في أكثر من اتّجاه، وحتّى في حالة إعلانهم انتماءَهم إلى اتّجاه، بينما أفكارهم في مؤلّفاتهم توحي بكونهم في محورٍ آخر، أو أكثر…

هذه الإشكاليّة في عناوين التسميات وتحديد الانتماءات عرَضَها مُشير عون، بعد مُراجَعةِ كلّ سجلّات كِتاباته وما كُتب عنه، تحليلاً ونقداً، فاستقرّت جميعها العشرة، وبعد مُعاناة المُصنِّف وحذاقته، تحت عناوين المجلّدات العشرة التي آلت إلى الاستقرار على العناوين التالية:

الجزء الأوّل (الصادر) هو بعنوان: “فلسفات البنيويّة والتفكيك والاختلاف”، والثاني بعنوان: “الفِنومِنولوجيا وتفرُّعاتها والفِسارة الفلسفيّة”، والثالث: “الفلسفات التفكُّريّة والوجوديّة والشخصانيّة”، والرّابع: “فلسفات تأريخ الفلسفة”، والخامس: “فلسفات الفنّ والجمال”، والسادس: “الفلسفات الهيغليّة والماركسيّة والفلسفات التاريخيّة التفكيكيّة”، والسابع: “الفلسفات المسيحيّة”، والثامن: “الفلسفات الاجتماعيّة والنفسيّة والتربويّة والأخلاقيّة”، والتاسع: “الفلسفات السياسيّة والاقتصاديّة والقانونيّة والبيئيّة والإعلاميّة”، والعاشر: “فلسفات الطبيعة والعلوم والإيبستمولوجيا”.


وثمّة معيار آخر لهذا التصنيف لألْمعِ الأسماء وأشدِّها تأثيراً في الفكر الفلسفي المُعاصِر الفرنسي والعالَمي، هو انتماء جلّ عطائها الفكري للقرن العشرين، وهذا يعني أنّ قبول مَن هُم مِن مواليد نهاية القرن التاسع عشر هو استثناء، وقبول مَن استمرَّ ويستمرُّ في العطاء في هذا القرن الحادي والعشرين… فالقرن العشرون هو، اصطلاحاً، المعنى المقصود “بالمُعاصَرة” الفلسفيّة الفرنسيّة في هذه الموسوعة.

في مقدّمة الجزء الأوّل، قدَّم معِدُّ الموسوعة، بحوالى الخمسين صفحة، ما يُمكن اعتبارُه رؤية فلسفيّة للفلسفة الفرنسيّة المُعاصِرة، فانطلقَ من افتراضٍ شائع في الأوساط الأكاديميّة بأنَّ هذه الفلسفة، بكلّ اتِّجاهاتها وكلِّ الإسهامات التي قدَّمَها مُمثّلوها على مدى القرن العشرين، تتفرَّعُ وفقاً لتيّارَيْن كبيرَيْن، هُما: مقولة الحياة، وكلّ ما يُشتَقُّ منها من فكرٍ وحركةٍ وحدسٍ (مع برغسون)، ومقولة المفهوم، المجرَّد الصوَري الرمزي، كما يتجلَّى بأبهى صوره في الرياضيَّات الحديثة.

وإنَّ تقابُلَ هاتَيْن المقولتَيْن أدّى إلى إعادة النَّظر بالذّات الإنسانيّة التي رسَّخها ديكارت في الكوجيتو الشهير. هذا ما يعتقده الفيلسوف آلان باديو، يُضاف إليها أثرُ الفلسفة الألمانيّة مع الأربعة الكبار هيغل ونيتشه وهوسّرل وهايدغر، يُضاف إليهم فويرباخ وماركس وفرويد، كما أبانَ ذلك لوك فيري وآلان رينو في كِتابهما: “فكر 68، بحث في ضد – الأُنسيّة المُعاصِرة”…


ويلفتُ مُشير عون إلى ما أشار إليه مؤرِّخو الفكر المُعاصر بأنَّ فلسفات التفكيك والاختلاف لا يُمكن فَهْمُها بمعزل عن التحوّلات الخطيرة التي ولَّدتها البنيويّة التي هي الأصلُ لكلِّ الاتّجاهات الفلسفيّة المُعاصِرة: لقد تغزّزت الرؤية البنيويّة في كلّ مَيادين المعرفة، كما في رؤية كلّ الكائنات الطبيعيّة والتصوُّريّة: ففي المجال اللّغوي، اللّغةُ هي نظامُ بنية تقوم على علاقة الكلمات بعضها ببعض، لا الكلمات ذاتها ومَعانيها الجامدة؛ وفي مجال عِلم النفس، كانت نشأة “السلوكيّة” في العام 1913 مع واطسون قد أزالت التقابُلَ بين الوعي واللّاوعي، بأن جَعلتِ السلوكَ (الواعي واللّاواعي) موضوعَ كلِّ الأبحاث النفسيّة؛ ونظريّة “الغشتالت” (أي البنية الكليّة) قدَّمت دعماً كبيراً لفكرة البنية: ففي كلّ إدراكٍ حسّي أم عقلي، أو رؤية فنيّة للوحة… الكلُّ له السبق على الأجزاء…


والأنثروبولوجيا عرفَت نظريّة بنيويّة مع كلود ليفي – ستروس مُتأثّراً بعالِم الألسنيّة الروسي ياكوبسون الذي تأثَّر به أيضاً في مجال اللّغة والمَوقف من النصوص، رولان بارت… وما إعلانُ “موت الإنسان” عام 1966 في كِتاب “الكلمات والأشياء” لميشيل فوكو إلاّ الحدثُ الذي جَعَلَ البنيويّة تنقلب إلى فلسفة، على الرّغم من تحذيراتِ عالِم النفس الفيلسوف السويسري جان بياجيه بأنَّ البنيويّة هي منهجٌ في البحث والتفكير وليست مَذهباً فكريّاً.

أمّا فوكو فرفَضَ أن يُنعَتَ بأنَّه بُنيويّ، وقال في المقابل إنّ “الإنسان اختراعٌ حديث”! وكان انتشارُ العلوم الإنسانيّة التي رَفضتْ مُغالاةَ الفلسفة بتفرُّدِها في زعْمِ فَهم الإنسان، قد آلَ إلى ما يُشبه استبدالَ أوهامٍ فلسفيّة قديمة بأوهامٍ جديدة، بخاصّة أنَّ المَفاهيم الفلسفيّة الكبرى الموروثة لا تزال، في القرن العشرين، تُهيمِن على الفكر، كمفهوم “الحقيقة” الواحدة اللّازمانيّة، و”العقل” الملاذ الأوّل والأخير في كلّ سعيٍ إنساني، ما جعله، منذ ديكارت مروراً بعصر الأنوار وكانط وحتّى هيغل، يدخل في هَيكل التقديس، و”الهويّة”، الاسم الجديد للجوهر، التي هي استعبادٌ وهَيمنة، و”اليقين” الجاهز في الفكر وينتظر التأكيد من التجربة والبرهان، ومقولات “الخطأ والصحيح”، و”الصواب والضلال”…

فتمَّ التمرُّد على كلّ هذه الأنظمة، ومن غير الالتزام بوضعِ بديلٍ، فالاختلاف لا يقتضي واجبَ ابتداعِ البديل… فثمّة إقرارٌ واسعٌ ظَهَرَ هنا وهناك بقيمةِ النسبيّة في التصوُّرات، والنقدُ بات مُرادفاً للتفكير، والتفكيكُ هو التعاملُ التحليلي مع البنى، والحفرُ منهجٌ مستوحىً من عمل عُلماء الآثار، ينبغي اعتماده في كلّ بحث من دون أفكارٍ مُسبقة عن طبيعة الآثار وتاريخها ومعانيها. والحقائق ليست جاهزةً تنتظر مَن يكتشفها، فهي تنتظر مَن يبتدعها، ولا يكفُّ عن ابتداعها…

هذه المَواقف الفكريّة هي التي تعتمل في أذهانِ أهل الفلسفة المُعاصِرة، الفرنسيّة والكونيّة، والتي انتشرت في العالَم الأنغلوساكسوني تحت اسم “French Theory”، وفتحت أبوابَ الجامعات فيه ومَراكِزَ البحوث لممثّليها، معلِّمين ومُحاضِرين ومُحاوِرين.


لقد ضمَّ الجزءُ الأوّل من الموسوعة 14 فصلاً/ بحثاً، كلّ واحدٍ من هذه البحوث هو عن فيلسوفٍ من خلال كلّ أعماله، رُتّب تسلسلُها بالتدرُّج بحسب سنة الولادة، وكلُّهم من مواليد القرن العشرين، باستثناء جورج باتاي المولود قبل ثلاث سنوات من انقضاء القرن التاسع عشر؛ ينتمي كلُّ واحدٍ منهم إلى واحدة، أو أكثر، من “فلسفات البنيويّة والتفكيك والاختلاف”، على النحو التالي:

الفصل الأوّل: عالَجت فيه مارلين كنعان موضوعاً بعنوان “جورج باتاي: فيلسوف الإسراف والإقامة على تخوم الذات”، والثاني لباسل الزّين، بعنوان: “موريس بلانشو في هَدْمِ الأنساق”، والثالث لشادي كسحو: “فتنة الكاوُس أو نحو مَنابِع الخواء: تأمُّلات في جذريّة أميل سيوران”، والرّابع لباسل الزّين: “رحلة البحث عن الكتابة خارج اللّغة عند رولان بارت”، والخامس بقلم أنطوان سيف: “فرانسوا ليوتار “في معنى الوضع ما بعد الحداثي” والاختلاف”، والسادس لِمَي – لين الدبس: “من فلسفة التفكيك إلى ما بعد الفلسفة”، والسابع لجمال نعيم: “ميشيل فوكو: مشكلة الانهمام بالذات”، والثامن لشادي كسحو: “مُتلازمات ما بعد الحداثة عند جان بودريارد”، والتّاسع لزهراء الطشم: “وجوه الهَيْمنة الرمزيّة في فكر بيار بورديو”، والعاشر لخالد كَمُّوني: “الظنّ الحضوري والتخيُّف والاختلاف عند جاك درّيدا”، الحادي عشر لمُشير باسيل عون: “سارة كوفمان وتفكيك الألغاز وتأويل المستورات النفسيّة المتحكِّمة بالنصّ الفلسفي”، والثاني عشر ليوحنّا عقيقي: “ترجمة الجماليّة الأولى عند فيليب لاكو – بارت”، والثالث عشر لوفاء شعبان: “جان – لُك نانسي فيلسوف المعنى والصلة”، والرّابع عشر، والأخير، لرندى أبي عاد: “مأزق زمن الخواء عند جيل ليبوفِتسكي”.


  • في أمانة العرض التحليليّ

هذه الأبحاث الموضوعة باللّغة العربيّة، عن جوانب من الفلسفة الفرنسيّة المُعاصِرة، كان على مؤلِّفيها أن يتجاوزوا صعوبتَيْن إضافيَّتَيْن: الأولى النقص الحادّ في المَراجِع بالعربيّة عن الموضوعات التي اختاروا مُعالَجتها، وأحياناً كثيرة، انعدامها! والثانية، وهي مُشتقّة من الأولى، القيام بجهدٍ شخصيٍّ لترْجمَةِ هذه النصوص، أو ما يُستشهَد منها بالحَرف، من الفرنسيّة إلى العربيّة التي تظهر فيها لأوّل مرّة مع ما يحمله هذا العمل من تبعاتٍ عِلميّة وأكاديميّة على كاتِب البحث! لم يكتفِ مؤلّفو هذه الابحاث بالتعريف وحسب، إذ انطوت نصوصهم على أمانةٍ في العرض التحليلي أوّلاً، ومن ثمّ يأتي الموقف التقييمي الموضوعي، وانطلاقاً منه، وبناءً عليه، يَظهر النقدي الاستشرافي ويكتسب شرعيّتَه الفكريّة.

هذا الجانب الأسلوبي إذ هو مُشترَك بين كلّ النصوص، فإنّ أصحابها، في هذا المشروع البحثي الجَماعي، عمِلَ كلُّ فردٍ منهم بمنأىً عن الباقين، وما يظهر فيها من أحكامٍ لغويّة ورسومٍ كتابيّة اصطلاحيّة مُشترَكة، هو مِن عملِ مُعِدِّ الموسوعة الذي وصفَ هذا العملَ بأنَّه “لبنانيُّ المنطق، عربيُّ المدى، إنسانيُّ المَطلب، كونيُّ الانفتاح”، يَجمع “الباحثين من مختلف الأوطان العربيّة في مودّةِ التفاهُم الفكريّ الراقي، وفي مقتضى البحث العلميّ الموضوعيّ الرصين”.


وأخيراً، موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصِرة، بالنسبة إلى الثقافة العربيّة المُعاصِرة، وللجانب الفلسفي فيها، هي عمليّة مُثاقَفةٍ كبرى مُختلفةُ التوازُنِ لصالح الحداثةِ الغربيّة، وما بعد الحداثة، إلّا لقلّةٍ من الفلاسفة العرب الذين لا يشكِّلون للساعة، وليس من غير أسف، تيّاراً ثقافيّاً وازِناً في بيئتهم، له خصائص عموميّة.

إلّا أنّ هذا اللّاتوازن في التبادُل الثقافي الذي يمتدّ قروناً ولا يزال جاثماً، لن يكون مُدعاةً للتخلّي عن المُثاقفة اليوم وغداً وفي كلّ آن، فهي ضروريّة لا بديل منها في عالَمٍ يتداخل فيه المُختلفون على قواعد غير مسبوقة في البشريّة من سرعة الاتّصالات والمُواصلات، ولا تزال الترجمة الرصينة تلعب الدور الأكبر والأساسي فيه إلى جانب تعلُّم اللّغات الأجنبيّة بالمُوازاة.

كما ينبغي على المثقّفين العرب، كائنةً ما كانت مَواقعهم، أن يُباشِروا بإعمالِ النقد، بمعناه الكانطي، في أوضاعهم العامّة، الفكريّة وغير الفكريّة، التي تُعيق حريّة التفكير والإبداع والنقد في كلّ المجالات، ومنها الفلسفي. لا تقدِّمُ هذه الموسوعةُ أفكاراً وفقَ خطّةٍ، أو بغاياتٍ واضحة، بل تساؤلات ومحاولات وإجابات نسبيّة، غير يقينيّة، هي مُعطيات محرِّضة دوماً على التفكير؛ ومنهجيّات فكريّة مُتباعِدة لا نماذج لها لتُحاكيها، بل لتُحاكي “نمْذَجَتها” المتنوّعة، مَناهجها المُختلفة تقوم على الخلاف مع ما سبقَها وعلى ما بينها من رؤىً ومَواقف.

لقد أثَّرت وتأثَّرت بتناولاتٍ هزَّت الكونَ هزّاً وأَظهرت الكثير من عطوبه: وبهذا تكمن كَونيّتُها بأنَّها لا تُهادِن، وبهذا يُمكن استثمارها عربيّاً إذ تَضعنا على تماسٍّ مع مَعارِف الأفكار والفنون والآداب التي تُحرِّك البنى المُنحجِبة عنّا، وتُزَحْزِحُها، في عالَمٍ لا يبدو مُتماسِكاً إلّا لِمَن لا يُفكِّر بجرأةٍ وحريّة. “آن الأوان لاحتراف الانتهاك الفكري في فضاءات الوجود العربي”.


د. أنطوان سيف – أستاذ الفلسفة في الجامعة اللّبنانيّة


مركز الفكر العربي

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى