الفلسفة والمجتمع الفلسفي السعودي
المجتمع الفلسفي السعودي حيوي ولديه طموح كبير. هذا يتمثل في الكتب والمقالات التي أنتجت في السنوات الماضية، وكذلك في مستويات القراءة العالية التي تشهد عليها مبيعات معارض الكتب، وكذلك الاهتمام الكبير بالأسئلة الفلسفية التي تطرح في فضاء التواصل الإلكتروني في تويتر وبرامج البودكاست وغيرها.
هذا عامل أساسي ترافق معه جهات رسمية لديها حس دقيق واستجابة عالية لحركة الثقافة السعودية والمجالات التي تستحق رعاية واهتمامًا. كل هذا الحراك دخل ضمن توجه أكبر لدى الدولة السعودية وهو الانفتاح على العالم، وأن تكون السعودية قِبْلة في الفنون والآداب والتقنية والصناعة والرياضة وكذلك في الفلسفة.
داخل هذا الرحم وُلدت فكرة مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة بتنظيم من هيئة الأدب والنشر والترجمة وشراكة من جمعية الفلسفة وجهات ثقافية أخرى. الفكرة كانت عمليًّا خلق لحظة من اللقاء بين الفلاسفة من دول مختلفة من العالم مع الفلاسفة في السعودية والمجتمع الفلسفي السعودي وكذلك الوسط الثقافي بشكل عام.
دُعِيَ فلاسفة من توجهات فلسفية مختلفة ومدارس فلسفية مختلفة تحت شعار «مهرجان الأفكار»، والثيمة الأساسية للمؤتمر: اللامتوقع. كان الضيوف من دول مختلفة ومن مدارس فلسفية مختلفة تحليلية وقارّية، وكذلك اهتمامات مختلفة تمتد من الفينومينولوجيا والأخلاق والأعصاب والتقنية وصولًا إلى التربية والفلاسفة المسلمين.
في المقابل كانت هناك مشاركة لمفكرين وفلاسفة سعوديين من توجهات مختلفة وقضايا مختلفة، امتدت من مساهمة التراث الإسلامي في الفلسفة وتحليلات فينومينولوجية للامتوقع وعلاقته بالأمل والثقة وحركة العلوم الحديثة والثورات التقنية وأثرها في القدرة على توقع المستقبل. كذلك مشاركات عن تاريخ الفلسفة الإسلامية والقضايا الأخلاقية المرتبطة بحالة اللامتوقع.
لدينا إذن لقاءات متنوعة وثرية احتضنها كلها حضور كبير من المهتمات والمهتمين بالفلسفة في السعودية؛ وهو ما عبّر بشكل عميق عن الطبيعة الاجتماعية والثقافية للفلسفة في السعودية، وأنها ليست مجرد تخصص أكاديمي محصور في أروقة الجامعات.
- ملامح ما يجري في الفلسفة عالميًّا
ربما أهمية المؤتمرات العلمية عامة أنها تضع المهتم والباحث أمام الواقع المعاصر للمجال المعرفي الذي يشتغل فيه. أما الفيلسوف فإن حضوره مؤتمر الفلسفة يعني أن يلتقي الأطروحات الحديثة في الفلسفة. المؤتمر مطبخ بطريقة أو بأخرى لما سينتج في السنوات المقبلة.
وبالتالي فالمؤتمر كان فرصة للجميع أن يتعرفوا إلى ملامح ما يجري في مجال الفلسفة في العالم وما هي الأسئلة والأطروحات الكبرى. هذه كانت نعمة كبيرة للمجتمع الفلسفي السعودي.
كذلك المؤتمرات رحم ولّاد للصداقات والعلاقات الشخصية ومشروعات العمل والتعاون في المستقبل. شخصيًّا تعرفت إلى شخصيات فلسفية مهمة، وسعدت بالاستماع لهم، ومشاركتهم القضايا التي اشتُغل عليها،
ونتج من ذلك دعوات لمؤتمرات مقبلة وأفكار لأعمال مشتركة في المستقبل. المؤتمر كذلك كان لحظة لقاء بين أفراد المجتمع الفلسفي السعودي من مناطق مختلفة من المملكة بعد انقطاع طويل؛ بسبب الظروف الصحية العامة ومحدودية الحركة بسبب أزمة كورونا.
الخطة المرسومة أن يكون هذا المؤتمر سنويًّا، وبالتالي فنحن على موعد سنوي مع المنتج الفلسفي العالمي الذي يقدم في السعودية، والمجتمع الفلسفي لديه الفرصة للتفاعل معه والمساهمة فيه. هذا الأمر نموذجي للمشتغلين بالفلسفة في السعودية.
أعتقد أنه سيسهم في حَفْز الإنتاج والإبداع في المجال الفلسفي استعدادًا لهذا المحفل العالمي، واستغلال الفرصة للمساهمة في الخبرة الإنسانية الطويلة، من السؤال والشك والافتراض والاختبار والمحاولة والخطأ.
على المستوى الاجتماعي الأوسع، أعتقد أنه سيكون لمؤتمر الفلسفة تأثير رمزي وواقعي بعد سنوات طويلة من حجب الفلسفة عن المشاركة في الجدل المجتمعي والثقافي الواسع.
سبق المؤتمر أعمال كسرت كثيرًا من الحواجز، بدأت بأن يتولى أفراد هذا المجتمع القول في الفلسفة والتعاطي معها بشكل مباشر، واستثمارها في تحليل وفهم القضايا الاجتماعية. تلت ذلك نشاطات رسمية أو شبه رسمية أدخلت الفلسفة في البنية الهيكلية للثقافة السعودية.
أتحدث هنا عن حلقة الرياض الفلسفية في الرياض، وإيوان الفلسفة في جدة، والحلقة المعرفية في الدمام، وملتقى السلام الفلسفي في نجران. كل هذا توّج بإنشاء جمعية الفلسفة بوصفها مؤسسة أهليّة غير ربحية تسعى لخدمة المجتمع الفلسفي في السعودية.
الثقافة المحلية تعاطت بحيوية مع كل هذا، وهي اليوم تنفتح على المشهد العالمي من خلال نافذة مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة.
- المسؤولية الأخلاقية تجاه المستقبل
سمعنا في المؤتمر أوراقًا عن المسؤولية الأخلاقية تجاه المستقبل وسط غشاوة ارتباك المعلومات المتوافرة، ودور الأمل والثقة في التعاطي مع المستقبل. سمعنا كذلك أطروحات عن العلم الحديث وما يقدمه لنا من تحديات على مستوى تصور الذات وعلاقتها بالواقع.
وبالتالي علاقتها باللامتوقع وسؤال المستقبل. سمعنا كذلك أطروحات عن التربية، وكيف يمكن أن تساعد على التعاطي مع الإنسان بوصفه كائنًا متزمّنًا يتحرك باتجاه المستقبل.
كل هذه الأطروحات آمل أن تأخذ أثرها في المجتمع المعرفي السعودي، من خلال النقاش والحوار معها، ومحاولة المساهمة في النوافذ التي يمكن أن تفتحها لنا ونحن مجتمع غالبيته من الشباب، ويمرّ بمراحل تحوّل كبيرة على مستويات متعددة. قد لا يكون من المصادفة أن يكون هذا المؤتمر الفلسفي الدولي في السعودية التي تتحرك باتجاهات مختلفة من أجل مستقبل قادم.
المستقبل بطبيعته يحمل داخله المجهول والمغامرة واللامتوقع، ولكن الحركة في اتجاهه أو الترحيب به ربما تتطلب نمطًا وجوديًّا عميقًا يقوم على الثقة في الآخر والطبيعة، نمطًا يتحرك بطاقة الترحيب والاستقبال والإيمان بخيريّة الوجود.
المؤتمر في عمقه ليس إلا دعوة وبابًا مفتوحًا، وأملًا وثقة في استجابة الآخر. استجاب كثير من فلاسفة العالم ولبّوا الدعوة، وكذلك استجاب المجتمع الفلسفي السعودي وحضر بفاعلية وروح منفتحة على النقاش والحوار.
ربما هذا الباب المفتوح والدعوة الصادقة والترحيب رسالة المؤتمر الأساسية، وربما نموذج لما يمكن أن يكون لا متوقعًا. لا ننسى أن هذا المؤتمر كان في يوم ما لا متوقعًا.
- عبد الله المطيري – أكاديمي سعودي رئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة.