الحداثة والتراث بين مشروع “الجابري” وطرح “العروي”
تعتبر إشكالية بناء الحداثة في العالم العربي من أهم القضايا الأبستمولوجية، التي تمت مقاربتها من طرف ثلة من المفكرين العرب، مما أدى إلى وجود اختلاف وتنوع في الطروحات حول كيفية تشييدها،
هل بالاقتصار على الاقتباس من تجارب الغرب في عصر النهضة والأنوار والسير كما ساروا، أم بالعودة إلى السلف والروح الراشيدية والسينوية والفارابية. من بين هؤلاء المفكرين: المؤرخ عبد الله العروي والفيلسوف محمد عابد الجابري.
إن دعوة عبد الله العروي لقراءة جديدة للتاريخ المغربي بمنظور علمي جديد توازيها دعوة الجابري إلى توظيف التراث بشكل مغاير لأشكال التوظيف السابقة عليه، التي كانت إما منحازة كليا للتراث بطابعه الماضوي أو منحازة كليا للفكر الغربي، أو باحثة عن سبل السلامة في محاولة للتوفيق أو التلفيق بينهما.
إننا أمام رصيد فكري مغربي يحمل كل ما من شأنه أن يدعم المشروع السياسي والثقافي البديل بالمغرب، مشروع مجتمعي ديمقراطي حداثي مغربي في سياق مجتمع مسلم.
يتجلى الفرق واضحا بين مشروع كل من الجابري والعروي، فإذا كان هذا الأخير يشرط الحداثة بمراجعة التراث نفسه وإعادة النظر فيه، أي بثورة ثقافية تتجاوز التأخر التاريخي.
فإن الجابري يرى أن طريق الحداثة يبدأ بنقد التراث والبحث عما يؤهلنا منه لخوض غمار الحداثة، وذلك بنقد العقل، إذ من داخل التراث نفسه يمكن بناء الحداثة والعقلانية.
وفي الوقت الذي يعلن العروي أن لا خلاص من التأخر التاريخي إلا بالقطيعة مع الماضي والانخراط الواعي في تأسيس الحداثة، لا يرى الجابري ذلك، فاللحظات اللامعة والنيرة في التراث العربي الإسلامي ما تزال قابلة للتوظيف الأديولوجي الإيجابي. “مجموعة مؤلفين، الجابري دراسات متباينة”.
العروي من المساهمين في عقلنة التنظير للإشكالات الأساسية في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، وأيضا التعلق بمسار تاريخ العالم.
وقد عرفت المعالم الرئيسية لمشروع الأستاذ الجابري لقراءة التراث العربي من كتابه: نحن والتراث، الذي نشرته دار الطليعة بيروت عام 1979، وقد تضمن الكتاب تقييما أو تصنيفا للموروث الفلسفي العربي في تيارات عرفانية وأخرى برهانية. وكان المفاجئ اعتبار فلسفة ابن سينا فلسفة عرفانية وأخرى برهانية.
وكان المفاجئ اعتبار فلسفة ابن سينا فلسفة عرفانية بسبب ما جاء في بعض رسائله من حديث عن الحكمة المشرقية، وقد وجد تصديقا له في الإشارات والتنبيهات. أما الفلسفة البرهانية فقد وجدها الأستاذ الجابري في أعمال ابن رشد، الشارحة لأرسطو، أو الباحثة في علاقة العقل بالدين.
وقد تضمن ذلك التصنيف التقويمي إشارات إلى التوجهات التي تبلورت فيما بعد في بنية العقل العربي، وتكوين العقل العربي. MOHAMED OURYA LA PENSEE ARABO MUSULMAINE ACTUELLE: DETERMINATIONS ET EXPRESSIONS2012.
في حين يعتبر العروي من المساهمين في عقلنة التنظير للإشكالات الأساسية في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، وأيضا التعلق بمسار تاريخ العالم. وهو من بين المفكرين الذين يحتاج المتتبع لأفكارهم وإنتاجاتهم إلى تأمل وإمعان من أجل استيعابها ووضعها في السياق الذي جاءت فيه، بمعنى البحث عن موقعها داخل المشروع الفكري الذي يعمل العروي على بنائه منذ أن كتب الأديولوجيا العربية المعاصرة.
تمثله العقلاني طبع حقبة تمتد عقودا من الزمن في تاريخ الفكر العربي المعاصر، ساهم في ذلك اطلاعه العميق على المناهج الحديثة في العلوم الإنسانية، واستيعابه الفكر الأوروبي وإتقانه لعدة لغات أجنبية وخاصة الفرنسية. فالصورة الثقافية التي عرف بها العروي هي الممارسة التاريخية التي جعلت أعماله في ميدان التاريخ تتميز بالدقة.
من خلال مطالعتي للجابري، أذكر أنه ذكر العروي بالاسم في موضعين. الموضع الأول في مذكراته السياسية جمعت في كتاب في غمار السياسة فكرا وممارسة، حيث أعاد الجابري نشر نقده الأيديولوجي لخطاب العروي ويخص بالذكر العرب والفكر التاريخي وأزمة المثقفين، مع تذكير بملابسات هذا النقد ومن ضمنها التحضير لمؤتمر حزب الاتحاد الاشتراكي،
وتجاهل خطاب العروي لعمل الحركة الوطنية وتغييبه التام لدور الاستعمار الجديد الذي كان حاضرا بقوة في فكر المهدي بنبركة خاصة في الخيار الثوري الذي يقال إن العروي ساهم فيه. وكذا تصنيف العروي للمهدي بنبركة في كتابه الأيديولوجيا العربية المعاصرة في صف داعية التقنية، وهذا حسب الجابري لا يستقيم لا من الناحية الفكرية ولا من الناحية السياسية.
كما ذكر الجابري العروي بالاسم ثانية في كتاب الخطاب العربي المعاصر، بصدد تحليل وتفكيك الخطاب النهضوي العربي، كتمهيد لنقطة البداية في نقد العقل العربي أبستمولوجيا. ويكفي الاطلاع على ما كتبه الجابري بهذا الصدد ليلاحظ القارئ فعلا، حضور العروي كمحاور للجابري في الكتب التي تناقش إشكاليات وقضايا الفكر العربي وهي متنوعة وآخرها في نقد الحاجة إلى الإصلاح.
نفتخر بمفكرين أفنوا حياتهم من أجل المساهمة في إعادة تشكيل العقل العربي، غير أن وللأسف اصطدمت مشاريعهم النهضوية بتيارات أخرى جارفة تكرس واقعنا الثقافي المر.
أشار الجابري أيضا في مؤلفه نحن والتراث إلى العروي حيث يقول: يطرح بعض المثقفين العرب الذين يبدو أن صلتهم بالتراث الأوروبي أقوى من صلتهم بالتراث العربي الإسلامي مشكلة استيعاب الفكر العربي المعاصر لمكتسبات الليبرالية، قبل، وبدون، أن يعيش مرحلة ليبرالية ويقصدون بالليبرالية: النظام الفكري المتكامل الذي تكون في القرنين السابع عشر والثامن عشر والذي حاربت به الطبقة البرجوازية الأوروبية الفتية، الأفكار والأنظمة الإقطاعية.
تلك هي إشكالية العروي وزكي نجيب محمود وماجد فخري وآخرين كثيرين، منهم من يطرحها من منظور فرنسي ديكارتي ومنهم من يطرحها من منظور أنجلوسكسوني تجريبي وضعي، وذلك حسب نوع التراث الأوروبي الذي يشكل منظومته المرجعية الثقافية والفكرية. إننا نعتقد أن طرح المسألة بهذا الشكل طرح خاطئ تماما.
ذلك لأنه عندما يطلب من العرب أن يستوعبوا الليبرالية الأوروبية، فإن ذلك يعني أن عليهم أن يستعيدوا على صعيد وعيهم تراثا أجنبيا عنهم بمواضيعه وإشكالياته ولغته، وبالتالي لا يشكل جزءا من تاريخهم. إن الشعوب لا تستعيد في وعيها ولا يمكن أن تستعيد إلا تراثها أو ما يتصل به أما الجانب العام في التراث البشري كله فهي تعيشه داخل تراثها لا خارجه.
فاختلافهما يعود إلى اختلاف مقاربة كل منهما للتاريخ الإسلامي تحديدا. فمن جهة يعتمد العروي على التاريخانية كمنهج لقراءة التاريخ ويستند في ذلك على علم الأركيولوجيا الدي يلغي التدخل الإنساني في عملية التأريخ وما تسببه من تناقضات وتعدد الروايات للحادثة الواحدة،
في حين أن الجابري اعتمد في معظم مؤلفاته على التاريخ بالمفهوم الكلاسيكي أي قراءته من خلال الكتب التراثية بما تتضمنه من تناقض واختلاف على أمل الخروج بخلاصات توحد الآراء حول المسألة الواحدة.
وفي الأخير نعبر عن رغبتنا الملحة اليوم نحن أبناء القرن الواحد والعشرين، إلى ثورة ابن رشد العقلانية، إذ بصرف النظر عن المضمون الفلسفي والمعرفي لتلك الثورة، تظل وظيفتها الأيديولوجية راهنة ومطلبا راهنا.
ولا يمكن للفكر العربي المعاصر أن يستوعب ويستعيد الجوانب العقلانية في تراثه ويوظفها توظيفا جديدا إلا في الاتجاه الذي وظفت فيه أول مرة: اتجاه محاربة العرفان والتواكل والإقطاع والجمود، وتشييد مدينة العقل والعدل.
كما أننا نفتخر بمفكرين أفنوا حياتهم من أجل المساهمة في إعادة تشكيل العقل العربي، غير أن وللأسف اصطدمت مشاريعهم النهضوية بتيارات أخرى جارفة تكرس واقعنا الثقافي المر. وبهذا يبقى السؤال مطروحا إلى متى سياسة تغييب أفكار عظمائنا.
شكراً لكم على هذا المقال