الاستشراقالدراسات الثقافيةفكر وفلسفةنقد

“إدوارد سعيد” .. اللغة وسيلة لتكريس وعي العالم كوطن قومي وحيد للفلسطينيين

عُرف عن إدوارد سعيد التزامه المقال في نقده الثقافي والسياسي والأكاديمي والأدبي، كما عرف بنهجه في الكتابة القائمة على التكثيف وتجاور الأفكار وتداخل التحليل والتعليق.


فما هو الأسلوب الذي اعتمده إنسان يكتب خارج المكان؟ وقد أمضى حياته معانداً ومشاكساً وخارج السرب، يبين قناعاته عبر مشاكسة الأنظمة الإمبريالية، ومعاندة أي فكر للاستسلام وحتمية الخضوع لأي شكل من أشكالها.


سعيد في هذه السيرة يبتعد من اللغة الأكاديمية التي عرف بها، ويقترب نصه السير ذاتي من كينونته كإنسان باحث عن قيمة وجوده، يحاول مقاربة ثيمة المنفى والهوية، في نص كثيف ومتوتر وصادق إلى أبعد الحدود.


في موضوع علاقة اللغة بالفكر والناس والواقع يقول سعيد: “”الناس لا يعيشون في العالم الموضوعي فقط، ولا في عالم النشاط الاجتماعي، بل إنهم واقعون تحت رحمة اللغة التي أصبحت وسطاً للتعبير فيالمجتمع، فواقع الأمر أن العالم الواقعي مبني إلى أقصى مدى بناء لا شعورياً على العادات اللغويةللجماعة” إذاً يولي سعيد أهمية كبرى للغة بكونها ملتصقة بعالم الأفكار.


وهي المشترك العام الذي يحضن جماعة ما ويمكنها من التأثر والتأثير. فما هي الخصائص الأسلوبية التي شاعت في اللغة التي استخدمها إدوارد سعيد في سيرته خارج المكان؟ وما هي دلالاته التي تعبر بنا إلى كنه النص؟


       يرى تشتشرين أنه “يمكن التعبير عن الأشياء المقعدة بجمل بسيطة، ويصح العكس، وليس ثمة ضرورة منطقية بينهما، ولكنّ هناك اتجاهاً سيكولوجياً يخلق ظواهر محددة من الأساليب” إن النظر إلى السيرة الذاتية، بكونها صدى لحياة الكاتب واعترافات وإقراراً بكثير من المخبوء في تلك الحياة، يمكن من استجلاء قدرته على توظيف ما يتيحه النظام اللغوي من إمكانات،


تسمح للذات وقد طفقت تسجل ما آلت إليه، ضمن سياق كتابي يزخر بالكثير من المعطيات التي تحتاج إلى قدرة عالية على التوظيف، كي تتمكن من المواءمة بين ما يقتضيه الحكي المرتبط بالحقيقي، وبين ما تقتضيه الأدبية من تحكم في تقنيات البناء السير ذاتي، ومعرفة لأشكال توظيف الضمائر والأفعال، يسمح باستجلاء بريق الدلالة وقد غاص بعيداً في الأنا.


الناظر إلى كثافة الجملة ومضامين المعنى عند إدوارد سعيد يمكنه أن يعي أن الذات المفكرة لم تغب عن أي من محطات السيرة. وقد تجلت قدرة سعيد على الاستدلال المنطقي والبرهان والتحليل والربط السببي من خلال الجمل والتراكيب وطبيعة الأفعال وتوظيفها.


يعي سعيد بشدة ما للغة من ارتباط بعالم الذات ومن أثر في تشكيل المعنى، فيقول في المقدمة: “والأكثر إثارة بالنسبة إلي ككاتب هو إحساسي بأني أحاول دائماً ترجمة التجارب التي عشتها لا في بيئة نائية فحسب وإنما في لغة مختلفة. إن كلاً منا يعيش حياته في لغة معينة، ومن هنا فإن الكل يختبر تجاربه ويستوعبها ويستعيدها في تلك اللغة بالذات.


والانفصام الكبير في حياتي هو ذلك الانفصام بين اللغة العربية، لغتي الأم، وبين اللغة الإنجليزية، وهي اللغة التي بها تعلمتُ وعبرتُ تالياً بما أنا باحث ومعلم. لذا كانت محاولاتي سرد التجارب التي عشتها في اللغة الأولى بواسطة اللغة الأخرى مهمة معقدة”.


يضعنا هذا الكلام في سباق لالتقاط المعنى عند سعيد، فأسلوبه المتقن يكثف اللغة ويقدمها بما في عالمه الداخلي من قدرات ومعارف، وتناقضات واشتعال النبوغ وعميق فهم للتجربة. يقول فواز طرابلسي في معرض حديثه عن كتاب الاستشراق: “الاستشراق مؤلف كبير مكتوب بأسلوب حصيف ومعقد.


يتبين أن الحيز الأكبر منه مخصص لتأريخ نقدي دقيق وبطيء وعاجٍ بالأسماء والمراجع لمدرسة أكاديمية وفكرية وثقافية هي مدرسة المستشرقين.


لكنّ مسحاً ثانياً أعمق وأدق، يستظهر الوميض الذي يشع من البناء المحكم والجهد التوثيقي والدأب البحثي والموهبة التحليلية والذوق الأدبي والثراء الثقافي، قبل أن يطلق سعيد شرارات الخيال والجمال والمحاججات الذكية ونفاذ النقد وعمق التطلب الفكري”.


ليس بعيداً من هذا الوصف للغة والأسلوب، ما يظهر في السيرة. فالأسلوب هو الرجل، وعليه فإن سعيد قد اتبع في هذه السيرة الأسلوب الحصيف والموثق ذاته، القائم على سرد أحداث والزج بالتفاصيل حتى أقصى الحدود، تفاصيل الأمكنة والأزمنة والناس والعالم والمدارس والثقافة الموسيقية والأدبية والمسرحية، ثم المحاججة ممزوج ذلك كله بكثير من التأملات وشذرات الخيال، ليصل من خلال ذلك إلى البنية الكلية الجامعة.


بالعودة إلى صيغ الأفعال ودلالة تمظهرها، استناداً إلى ما قاله سعيد في مقدمته، سنجد أن الماضي “يأخذ له صيغة نحوية تناسب طبيعته؛ من حيث هو زمن كان، وأضحى بفضل لحظة الكتابة الآن.


 يحاول سعيد من خلال الصيغ الماضية أن يستعيد حياته لحظة الكتابة، وقد يكون لاستعمال الأفعال الناقصة مع المضارع إشارة إلى ذلك أيضاً، كأنما لحظة الاسترجاع هي لحظة للقبض على الزمن، والاستحواذ على مقدراته وإعادة بناء هيكل الأنا، كما ترى نفسها لحظة الكتابة في الحاضر،


أيمكن أن يكون ذلك دليلاً عاماً على معنى دخول النواسخ على جملة وصفية كالجملة الاسمية؟ هل يحتاج من يضع كان قبل المضارع إلى نسخه، لأن في الماضي حياة يريد استرجاعها؟ “هكذا كان يلزمني قرابة خمسين سنة لكي أعتاد على إدوارد”.


ينفتح زمن السيرة على الماضي والحاضر، في رحلة بحث الكاتب عبر التذكر عن الصور والأحداث والمحطات التي عبرتها الأنا، ولا يمكن أحياناً الفصل الكلي بين الخيال والحقيقة لحظة الاستعادة، لأنها تحدث في لحظة وعي لا في لحظة معيشة، أي بعد اختمارها في نفس صاحبها.


فهي قد تحمل وهي تدلف إلى الحياة عبر النص، قدرته على تصوير ما حدث بعد تأمله وسكبه في قالب الوعي للأنا وللحظة وجودها في التاريخ ومحيطها الاجتماعي.


هذا يجعل تلك اللحظات المنتقاة كثيفة، ويجعل كاتب السيرة أكثر حرصاً على قتل النسيان الذي قد يشوب الذاكرة، لأنه حريص على تقديم الذات في أبهى أشكالها، وقد عبرت رحلتها بين الماضي والحاضر، وخرجت أكثر بهاء واقتداراً.


نحن أمام لغة تستعين بما في النظام اللغوي من مساحات إبداع وحرية ممكنة، لأن الذات تسعى إلى الإشراق عبر بعث الماضي من جديد، ولأنه يأتي مكسواً بحلة الوعي. يعزز هذا حقيقة أن السيرة، هي صوت صاحبها وحده، وأن كل ما عداه يموت فيها، لذا فإن استعادة الماضي وزج الحاضر فيه،


ليس من باب ما تمنحه اللغة من حرية في الانتقال عبر الزمن فقط، إنما هو من باب الاستعادة الواعية لكل ما يريد سعيد أن ينتقيه من متحف الذاكرة “ازداد اتكالي على هذا الكتاب وسيلة أبتني بها لنفسي شيئاً ما بواسطة النثر”. 


كلام سعيد يؤكد ارتداد الذات إلى الماضي كصيغة يبتني به عالمه، ويفسر لجوءه إلى هذه الصيغة فيما هو يحكي قصة حياته، أو يقتطع من ذاكرته محطات يشاركها القارئ.


يستخدم سعيد الحاضر صريحاً في نهايات سيرته، بعد أن كان الماضي مسيطراً تماماً على مجريات السرد، هذا ما يؤكد ما يذهب إليه البحث من أنه تطهر من رواسب الماضي عبر فعل الكتابة، حتى إذا غدا الزمن الذي ينبني عبر صيغ الأفعال زمناً ماضياً لكنه حاضر؛ إذ تسير فيه الذات نحو خلاصها وصورتها الأخيرة التي تريد أن تثبتها، وغدا المضارع ماضياً؛


إذ هو يوازي فعل حركة الذات إلى جوهرها وقيمتها الخبيئة، بكونه يسير معها نحوه لحظة فعل الكتابة. كأن الماضي سائر نحو الحاضر والحاضر سائر نحو الماضي، بحركة متوازية وسريعة وواعية، حتى التقيا فالتمع الجوهر وعاد إلى الحياة بريقها، ولم يعد الموت فكرة مخيفة وقاتمة، بل إنه بذلك قد أصبح من ضمن ما يراه فعل صيرورة دائمة الحركة في واقع ستبقى فيه الذات في غير مكانها، لكنها غدت سعيدة.


 نحن إذاً أمام نص يقوم على الاسترجاع، يستدعي الماضي بمحطاته، ويوظفها في الحاضر، عبر تقنيات تشكل نسيج النص الكلي، وتمكن الكاتب من استحضار طاقاته النفسية والفكرية والاجتماعية، فيسترجع سعيد لحظة الولادة، يؤصل لاسمه.


يحكي تاريخ أبويه وتعارفهما، يشرح كلاً منهما كما مكنته الأعوام والتجارب والعلم من الغوص في فهمهما، كي يفهم ذاته، يحكي عن الطفولة الأولى والقاهرة والانتقال إليها، عن علاقاته بأخواته عن مربينه، عن معلميه، عن عمل الوالد وإمكاناته المادية، عن تعلقه بالموسيقى والمسرح.


عن الشهوات الأولى والنزوات الصبيانية، عن شعوره بالعار بسبب جسمه وشكله الخارجي، عن القلق الدائم وعدم الشعور بالرضى في أي مكان، عن السياسة والتدريس في الجامعة.


وأخيراً عن عدم التمكن مطلقاً من النوم وهناءة تلك الفكرة التي تجعله دائم الحركة والوعي حتى لحظة الكتابة… هكذا يصبح الزمن دائرياً كأنما لحظة الموت، التي استدعاها المرض، هي لحظة الولادة الجديدة وهي لحظة الوعي القصوى.


لا يكتفي سعيد بالماضي وحده كي يسبق الزمن إلى ذاته، بل هو يستعمل المضارع مقروناً بـ(كان) فينتقل بهما إليه، ومرات مقترناً بـ”لم” الجازمة والتي يفيد اقترانها بالمضارع معنى الماضي.


نلاحظ أيضاً صيغة الضمير في الأمثلة. فهو بضمير المتكلم الأنا، مقترناً بالكلمة من نحو (كنتُ، كنا، تنبهني). وهذا الضمير يستخدم منفصلاً عن الكلمة كضمير شأن كذلك من نحو” وأنا في السادسة عشرة/ وأنا في طور متقدم من حياتي” لم يتكلم سعيد عن ذاته بضمير الغائب الـ”هو” إلا نادراً،


رغم أنه عبر عن غربة عميقة عن محيطه وفي هذا مفارقة عجيبة، أو دليل آخر على تصالح الذات مع عالمها الداخلي وإدراكها له لحظة الكتابة “ومع الوقت صار إدوارد وكيل أعمال متطلباً يسجل لوائح من النواقص والإخفاقات”.


عاد الضمير الغائب بصيغة الجميع إلى الآخر الذي هو الجماعة المغيبة عن صورة الأحداث بالقمع والظلم من نحو قوله عن الفلسطينيين: “كانت مأهولة بالفلسطينيين دون سواهم، وينتمي معظمهم إلى عائلات نعرفها ولا يزال لأسمائها وقع أليف في أذني… وقد أمسوا جميعهم لاجئين”. [9] 


يقابل هذا الضمير بالصيغة نفسها ضمير الجمع الغائب الذي يعود إلى العدو أو إلى من يجد سعيد مشكلة في تقبل توجههم السياسي وهم معسكر الدول الكولونيالية كبريطانيا وأمريكا وإسرائيل “ولا يزال يصعب علي أن أتقبل حقيقة أن أحياء المدينة تلك.


حيث ولدتُ وعشتُ وشعرتُ بأني بين أهلي، قد احتلها مهاجرون بولونيون وألمان وأمريكيون غزوا المدينة وحولوها رمزاً أوحد لسيادتهم”.


هكذا ينوب الضمير عن الأسماء الحقيقية للمتصارعين، فيضع سعيد العالم من خلاله في معسكرين: أحدهما تمثله الأنا وجماعتها الغائبة، والآخر يمثله الهم وحضورهم المزعج.


وهكذا تتموضع الأنا في الوسط، وجهها لعدوها وظهرها يحاول الاستناد إلى شعبها، فيصبح استعمال الضمير إشارة إلى الصراع ودليلاً على حقيقة الانتماء الأخلاقي والوطني.


لا يستخدم سعيد كما بسيسو ودرويش ضمير المخاطب للنيابة عن الأنا، إنما يتوجه فيه بالكلام إلى القارئ “وقد تطالعكَ بالمصادفة في القاهرة مسيرة جنود هنا أو استعراض عسكري هناك”.


يظهر من خلال النماذج المقدمة أن الجُمل بين اسمية وفعلية في الأغلب كانت مثبتة، وإخبارية اعتمدت الماضي، وهي طويلة مسهبة، شارحة أحياناً كثيرة كقوله: “خلال صيف 1953، أي بعد عام على تعلمي لعب البول في المدرسة الأمريكية الداخلية، ظننتني قادراً على استدراجه بخبث للعب مباراة الكرة رقم 8.


في مقهى صغير في ضهور الشوير، قبالة مقهى السيرك/ أما جذعي فلم يثر أي تعليق إلى أن بلغتُ الثالثة عشرة، أي قبل سنة من انتسابي إلى فيكتوريا كوليدج عام 1949″.


لم يقدم المسند على المسند إليه، إنما حافظ على التركيب الأصلي للجملة العربية، سواء أفعلية كانت أم اسمية، إن أشار هذا إلى شيء ما، فهو يشير إلى أن سعيد وإن كان تحت وطأة المرض، فهو لم يكتب تحت وطأة الانفعال، ولم تغلبه مشاعر الرفض والنقمة والألم بقدر ما كان سعيه حثيثاً نحو الإمساك بلحظة الحقيقة التي ينشدها في الماضي.


سعيد أستاذ جامعي ومحاضر كرس حياته لمناقشة قضايا الإنسان والحضارة ودور المثقف في التغيير وعلاقته بالسلطة، وكتب الكثير من الكتب والمقالات التي أثرت في الرأي العام العالمي وكانت مثار بحث وجدل كبيرين، لذلك من الطبيعي أن تكون لغته حاضرة، قريبة سهلة، كثيفة فيها من الموسيقى التي عشقها الصوت والسكوت معاً.


فهو كان يدوّن كلامه على إيقاع يناسب حاجته إلى البوح حين يقتضي المقام بوحاً، كما إلى الإمساك حين تكتفي الدلالة بالقليل كي تشع في ذهن القارئ، وهناك تجد طريقها إلى أن تصير أغنية تقوم على وحدة عناصر ثلاثة: الصوت والنغم والكلمة.


الصوت= الأنا، النغم= الأسلوب، والكلمة= الحقيقة. لقد قال سعيد في سيرته الحقيقة بأسلوب المثقف المبدع والموسيقي المرهف والأكاديمي الرصين. فجاءت عبارته لينة قوية.


عوداً على ذي بدء، فإن اللغة بوصفها “نشاطاً للكائن الإنساني وحقيقة اجتماعية، وملكة ترتكز على قوة الطاقة الكامنة في الذات الإنسانية” فهي توفر للكاتب أن يعبر عن ذاته وتشير إلى ملكة الإبداع لديه، وإلى طاقاته الفكرية وتجاربه المؤثرة وما انزوى في نفسه من خفايا يمكن أن تكون قد تاهت عنه هو.


ويفشيها النص، وبهذا يصبح للمعطى الأسلوبي دلالة على الكينونة/ الذات في المستوى الخاص وعلى الأمة في المستوى العام.


يمكن أن نستنتج أن سعيد قد وظف النص السير ذاتي لهدف أسمى من الذات، هو تكريس فلسطين في وعي العالم، كوطن وحيد قومي للفلسطينيين. فشرح قضايا النفس وعقدها أمام ذاتها، وقدرتها على الانفلات من رسن الحاضر بالعودة إلى جذورها وأصولها الفلسطينية.


كدليل مؤكد أن الفلسطيني في الشتات لا يريد غير الرجوع إلى ملاذ أوحد هو فلسطين وإلا لبقي خارج المكان.


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى