دون الحديث عن مفهوم الحقيقة عند صاحب نظرية المثل الذي يعتبرها موجودة في العالم العلوي وأنها أزلية ، ودون الحديث عن نفس المفهوم عند فلاسفة وعلماء العصر الحديث الذين يعتبرونها من المطلقات.
بل سنتناول نفس المفهوم عند غاستون باشلار صاحب فلسفة الرفض في إطار التحولات التي طرأت في العلوم المعاصرة ، وعلى ضوء الثورات العلمية التي ظهرت في علم الهندسة مع ريمان ولوبياتشوفسكي، وفي ثورة ماكس بلانك التي ظهرت في عالم الذرة ، ومع نظرية النسبية مع اينشتين بدءا من 1905 .
فباشلار المتشيع بالقيم الإبستمولوجية التي أفرزتها الثورات العلمية ، يعتبر الحقيقة خطأ متجاوزا أو مصححا. وبالتالي لا يمكن الحديث عن مفهوم الحقيقة دون الحديث عن مفهوم اللاحقيقة ، ذلك لأن ما يميز الفكر العلمي وتقدمه هو تصحيح أخطائه LEsERREURS RECTIFIEES.
ففي كتابه “العقل العلمي الجديد ” يؤكد باشلار أن الحقيقة العلمية هي تصحيح الوهم الأولي المشترك (ص 33 ). وعبر عن ذلك في تكوين العقل العلمي بقوله المعرفة الموضوعية الأولى هي خطأ أولي (ص45). فالحقيقة عند باشلار لا يمكن تحديدها إلا من خلال النظر لعلاقتها باللاحقيقة.
و ما دامت الحقيقة هي خطأ مصحح ، فإن اللاحقيقة (موضع الخطأ) تكون في طريق واحد معها. فهي الشرط الآخر للحقيقة على أساس أنه لا توجد حقيقية بدون خطأ مصحح.
هذه اللاحقيقة أو الخطأ يعتبر باشلار أن له دور إيجابي في المعرفة العلمية على نحو ما عبر عنه في كتابه “العقلانية التطبيقية“. إن الخطأ يأتي ليلعب دوره المفيد في تقدم المعرفة.
فالحقيقة ليست ثابتة أو مطلقة ، والعلم بدوره ليس ثابتا وأزليا ، بل هو مقال ظرفي يعاد النظر فيه باستمرار .فالبحث العلمي أصبح يرفض تلك المطلقات التي بني عليها العلم الحديث من ديكارتية ونيوتونية (كانطية) أسسه ودعائمه مثل الحتمية واليقين والمطلق… ،
بل أصبح يتأسس على دعائم ومرتكزات أخرى كمفهوم اللاحتمية واللايقين والحقيقة النسبية ومفهوم الزمكان ومفهوم التحدب.
- أسبقية الخطأ عن الحقيقة عند باشلار
فالعلم لم يصل إلى الحقيقة إلا من خلال تجاوز تصحيح الخطأ (اللاحقيقة ) ، وبالتالي يكون الخطأ أولا ثم يأتي التصحيح ثانيا أي تأتي الحقيقة العلمية ((1).
فالحقيقة واللاحقيقة (الخطأ وتصحيحه) متصاحبان في رحلة الاكتشافات العلمية (2). ففي فلسفة “اللا” لباشلار يقول فيه : إن الحقيقة بنت المحاورة وليست بنت التعاطف ، يعني أن السير على درب الحقيقة يتحقق من خلال الحوار مع الآخر المختلف عنه.
وبالتالي أن العلاقة بين الحقيقة واللاحقيقة ليست علاقة تناقض بل هي علاقة جدلية يكملان بعضهما البعض . فكل منهما يحتاج إلى ألآخر في درب رحلة الاكتشافات العلمية (3). فالتفكير العلمي، هو تفكير جدلي يدمر قبل أن يبدع (4).
هذه المرحلة التي يمر فيها الانتقال من التدمير إلى الإبداع يطبعها الطابع الثوري للتقدم العلمي . فالخطأ أساسي وأولي في كل مسيرة علمية . وسيظل مسيطرا على العقل البشري ما لم يعمل هذا العقل على إزاحته (5).
فالتقدم العلمي يتم من خلال الصراع بين القديم والجديد (بين الخطأ والصواب ) يتبلور هذا الصراع على السلب وعلى “اللا” التي أصبحت تعبر عن لا حتمية (اللاحتمية )، ولا يقين (اللاييقين ) (هيزنبيرغ) ، وميكانيكا لانيوتونية (اللانيوتونية ) وهندسة لا أقليدية ( اللاأوقليدية ) وفيزياء لاماكسويلية (اللاماكسويلية ) وابستمولوجيا اللاديكارتية …
فالفكر الغربي لم يكن يستطيع الوصول إلى ما وصل إليه حاليا بدون المرور بحالة السلب وبحالة النفي . ففي الفلسفة اليونانية لم يكن بارميندس يتحدث عن الوجود إلا من خلال اللاوجود، ويبني فكرة المنتهي إلا من خلال اللامنتهي .
وعندما حاول زينون الدفاع عن أطروحة معلمه بارميندس ، قام ببناء نظرية تقوم على مقولة “إن كل تأكيد هو نفي ” ، وجاء سبينوزا في العصر الحديث ليقول العكس “كل نفي هو تأكيد”.
أما هيغل فلم يعمل إلا على جمع محصلة أفكار بارميندس وسبينوزا ليؤسس للجدلية أو الديالكتيك التي تتلخص في ما يلي : ” كل تأكيد فهو نفي ، وكل نفي هو تأكيد” ومن هنا أهمية النفي (أو السلب) خصوصا عند هيغل و داخل النسق الفلسفي الأوربي عموما ( 6 ).
وهكذا لن تكون الحقيقة ، حقيقة بالمفهوم العلمي إلا إذا تجادل فيها الإيجاب والسلب ، أي تكاملت فيها الحقيقة واللاحقيقة . فقبل الإبداع والاكتشاف لابد من التدمير أولا.
- هوامش
(1) غادة الإمام . باشلار وجماليات الصورة . دار التنوير . لبنان . ط1 2010 ص53
(2) ن. م. ص53
(3)ن. م. ص54
(4) ن. م. ص103
(5) ن. م. ص107
(6) جريدة المساء المغربية . الملحق الثقافي . تاريخ 21 ماي 2010 . مقال بعنوان القيمة اللإستمولوجية لفهم
العقل الأوربي للدكتور الجابري بمعهد العالم العربي . ترجمة يونس وا نعين .