فكر وفلسفة

أساطير ولكن لا نعرفهم

الفلاسفة المسلمين في العصر الحديث

“عندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في أمان، بنوا سور الصين العظيم، واعتقدوا بأنه لا يوجد من يستطيع تسلقه لشدة علوه، ولكن خلال المئة سنة الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات، وفى كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية فى حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه، بل كانوا في كل مرة يدفعون للحارس الرشوة ثم يدخلون عبر الباب، لقد انشغل الصينيون ببناء السور ونسوا بناء الحارس”. المهدي المنجرة


  • المنذر بآلام العالم

“الكل هو الأنا، وأنا هو الكل” جملة مشهورة للمفكر والفيلسوف المغربي المهدي المنجرة الذي يوصف بمنذر العالم بآلامه، والمفكر المستقبلي، فكان تركيزه على تعليم الأطفال، وتأسيس الإنسان العربي وتنشأته نشأة صحيحة من البداية، حيث بدأ تلك الفلسفة منذ كان بالثانوية، بعد ملاحظته للضغوطات التي تقولب أفكار الطلبة منذ صغرهم، وخصوصًا تلك الأفكار التي تجبر الطلبة على احترام وحب الاحتلال الأجنبي للبلاد.


تسبب عناده مع الهيئة التعليمية في المغرب في طرده من التعليم، فكان الحل بالنسبة لوالده هو إرساله للولايات المتحدة ليتم تعليمه هناك، فكانت محطة مهمة في حياته، خصوصًا بسبب تأثره بالمفكر المغربي المهدي بن عبود مؤسس الحركة الوطنية للنضال من أجل استقلال المغرب والجزائر من خلال حزب الاستقلال.


  • المنجرة وانشغاله بمصير الأمة العربية

اتهم المنجرة الاحتلال الفرنسي بقولبة عقول الشعب العربي المُحتَل

انشغل المهدي المنجرة بمصير الأمة العربية، ربما بدأ هذا يشكل نقلة جذرية في حياته، حينما أتم دراسة الدكتوراة في العلوم السياسية في محطته التالية لندن، لتكون أطروحته لإتمام تلك الدراسة عن “الجامعة العربية” منذ تأسيسها وبعد مرور عشرة أعوام على ذلك التاريخ، أي حتى عام 1955.


على الرغم من أن وجود المنجرة في الغرب مدة كبيرة من حياته، سمحت له ببناء مفاهيم نقدية تجاه الحضارة الغربية، وعلى الرغم من اعترافه بأن فرنسا كان لها دور أيضًا في تكوين مداركه الفكرية، فإنه لم يغيّر رأيه تجاه الاستعمار الفرنسي، واتهمه اتهامًا واضحًا بأنه الاحتلال الأكثر تأثيرًا على عقول الشعب العربي الذي احتله، والذي نجح كثيرًا في قولبة عقوله كما شاء.


  • الثقافة المُستقلة والاعتماد الذاتي في التنمية

كان المهدي المنجرة واضحًا في موقفه بالنسبة للثقافة الغربية، لم يؤمن قط أنها مناسبة لتكون مادة للمُحاكاة، بل ركز فلسفته على الثقافة المستقلة والاعتماد الذاتي في التنمية وليس التقليد، حيث تبنى فكرة أننا أحرار، ونحن المسؤولون الوحيدون عن مستقبلنا، ولا حق لأي قوة خارجية أن تفرض علينا مستقبلنا.


كان المهدي المنجرة واضحًا في موقفه بالنسبة للثقافة الغربية، لم يؤمن قط أنها مناسبة لتكون مادة للمُحاكاة

  • تنبؤ المهدي المنجرة بحال الدول العربية

في حديث للمهدي منجرة بعنوان “الدراسات المستقبلية” يقول فيه إنه من خلال عمله في الأمم المتحدة، وجد أن القيم الثقافية والاجتماعية داخل تلك المؤسسة هي قيم مبنية على القيم المسيحية واليهودية عن علم ودراية تامة، ولكن تلك لم تكن العراقيل الوحيدة أمامه في أثناء عمله هناك.


بل وجد أن العراقيل الأساسية تأتي من حكومات بلدان العالم الثالث وليس من الأمم المتحدة، حيث إن تلك الحكومات تدري جيدًا بأن الغرب يحميها، وهي دونه تسقط، ولهذا ستطيعه وتخضع له دومًا حتى ولو جاء ذلك بالدمار، وسترون ذلك في المستقبل.


كان للمهدي المنجرة مواقف واضحة مع ما يُسمى بـ”الليبرالية المتوحشة”، وطبيعة التنمية المعتمدة على البنك الدولي، حيث تنبأ بدوره مع الباحثيين المستقبليين صعوبة تسيير حقبة القرن الـ21 بمؤسسات أُنشئت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، حيث آمن المنجرة بأننا نحتاج مؤسسات مختلفة تمامًا تضمن الانسجام والتوافق فيما بينها.



  • الذلقراطية

من خلال ذلك المصطلح استطاع المنجرة التنبؤ بالثورات العربية قبل حدوثها بسنوات من خلال كتابه “انتفاضات في زمن الذلقراطية”

كان للمنجرة أطروحات سبق الفلاسفة والمفكرين إليها، مثل أطروحة “صدام الحضارات” وكذلك ابتكر العديد من المصطلحات في مجال الدراسات المستقبلية منها “الذلقراطية” تلخيصه بـ”الذل”، أنه شر قديم يعود بقوة ليُهيمن على العالم، فقد غدت المهانة شكلًا للحكم ونمطًا لتدبير المجتمعات محليًا وعالميًا.


من خلال ذلك المصطلح استطاع المنجرة التنبؤ باللثورات العربية قبل حدوثها بسنوات من خلال كتابه “انتفاضات في زمن الذلقراطية” الذي يلقي الأضواء الكاشفة على الأوضاع المتردية في الوطن العربي وعن هجمة الاستعمار الجديد عليه.


يقول المنجرة في كتابه “المهانة”:

“يعيش العالم العربي الخوفقراطية، إضافة إلى التفقيرقراطية الذي أصبح نظامًا للتدبير والحكم أيضًا وأولوية الجهلقراطية والكذبوقراطية والشيخوخقراطية”.


من أبرز مؤلفات المنجرة كتاب “نظام الأمم المتحدة” و”من المهد إلى اللحد” و”الحرب الحضارية الأولى” و”حوار التواصل” و”انتفاضات في زمن الذلقراطية” و”الإهانة في عهد الميغا إمبريالية”، وآخرها كتاب “قيمة القيم”

انتهى الحال بالمهدي المنجرة إلى المنع من الخطاب في الساحات الكبيرة، ونقلها إلى البيوت والصالونات التي لا تتسع لعدد كبير من الجمهور، لتنتقل بعدها منتدياته ومحاضراته إلى الفضاءات الإلكترونية، حتى أصيب بوعكة صحية أفقدته القدرة على الحركة والكلام، حتى رحل المفكر العظيم وعالم المستقبليات العربي في صمت.


  • علي شريعتي من النضال إلى الاغتيال

“نحن نعاني من استعمار خارجي واستعمار داخلي، فمشكلتنا في الثورات أننا نطيح بالحاكم ونُبقي من صنع ديكتاتوريته، ولهذا لا تنجح أغلب الثورات، لأننا نغيّر الظالم ولا نغيّر الظلم”.


تغذى علي شريعتي على الفكر، وجعل منه قوت يومه، وعلى قدر إيمانه كانت إبداعاته، فكان المفكر الذي دافع عن الإسلام الثوري والتنويري، فعُرف كشخصية إشكالية، فكان من رواد الثورة الإسلامية في إيران.


وُلد شريعتي في عائلة علمية في خراسان في إيران، وكان والده من أكثر الشخصيات التي شكلت حياته فيما بعد، فكان يؤمن بتعيين القرآن كمرجعية، لذلك نجد له أيضًا مؤلفات كالاقتصاد الإسلامي والولاية والنبوة في القرآن وكتاب التفسير الجديد للقرآن.

اعتُقل “شريعتي” كثيرًا، وحُذر مرارًا من قبل نظام الشاه محمد رضا بهلوي ذلك لانخراطه في حركات ذات طابع سياسي وثوري

فكان لهذا الفكر الملتزم أساسًا محوريًا في حياة علي شريعتي فيما بعد، فكان محبًا للعلم، وسافر في بعثة تعليمية إلى فرنسا نال فيها الدكتوارة في علم الاجتماع وعلم الأديان، يُقال إن تلك البعثة كانت من تدابير الشاه، ليبعده عن البلاد آنذاك عام 1959.


صور لـ “علي شريعتي” في الثورة الإسلامية الإيرانية

اعتُقل شريعتي كثيرًا، وحُذر مرارًا من قبل نظام الشاه محمد رضا بهلوي ذلك لانخراطه في حركات ذات طابع سياسي وثوري، ولكن هذا لم يمنعه من الدفاع عن كل ما آمن به، فكان يقاتل على ثلاث جبهات مختلفة، جبهة الاستبداد السياسي وجبهة اليسار الانتهازي وجبهة الرجعية الدينية أو “الدين التقليدي”، وطرح الإسلام الثوري الأصيل كبديل مطروح.


كان يحلم شريعتي بالوحدة بين السنة والشيعة، ونجح في كونه منبرًا لاستقطاب فئات مختلفة من المجتمع، كان أكثرها الشباب، وهذا أشد ما أقلق السلطات منه، فطاردته، واعتقلته، وأغلقت منابره التي احتضنت فئات الشباب والتي سُميت حينها بـ”الحسينية” التي كانوا يلقبونه فيها بـ”معلم الثورة الإسلامية”.

“عندما يلبس الظلم لباس التقوى، تولد أعظم فاجعة”

بعد اعتقاله مرة أخرى، وبعد الضغط الشعبي للإفراج عنه، سُمح له أن يغادر إيران متجهًا إلى لندن عام 1977، ليوجد مقتولًا في شقته بعد وصوله هناك بثلاثة أسابيع، وتشير الدلائل إلى اتهام نظام استخبارات الشاه في تلك الوقعة.



من أهم مؤلفات “شريعتي” كتاب بناء الذات الثورية، “أن تبقى مخلصًا للثورة هو أن تبني ذاتك وتكافح في سبيل هذا البناء”، هكذا يلخص شريعتي الأمر، كما كان كتاب “مسؤولية المثقف” أحد الركائز الأساسية التي بنى شريعتي مشروعه عليها، أما الكتاب الأشهر فهو “النباهة والاستحمار” يتوسع فيه شريعتي في نسبية القضايا الثقافية.


من أهم مؤلفات شريعتي كتاب بناء الذات الثورية

يذكر ميشيل فوكو المفكر الفرنسي في مقاله “لم يحلم الإيرانيون؟” فقرة عن علي شريعتي يقول فيها إنه الحاضر الغائب، فكان شبحه حاضرًا في الثورة الإيرانية، فكان اسم شريعتي يُذكر في إحدى المظاهرات جنبًا إلى جنب مع اسم الخميني.


من أقوال شريعتي المعروفة: “انظروا إلى أنظمتنا التربوية والاجتماعية، لقد حقّرونا إلى حد أصبحنا لا نؤمن فيه بقابليات قدراتنا، فنحن عاجزون عن الانتقاد وحتى الكلام”، ربما يتفق معه المهدي المنجرة في ذلك النسق، فمنذ كان يحدد الغرب مستقبلنا، أصبحنا بلا هوية، وبلا حق في تحديد المصير.


لا يعني فناء الجسد فناء الروح، ربما ما زال يرحل فلاسفة المسلمين في العصر الحديث في صمت بعد حياة حافلة من المؤلفات التي يمجدها الغرب ويعتبرها مادة للبناء عليها، في حين يلاحقها المسلمون بالتكتم والتستر وأحيانًا الاعتقال والاغتيال، إلا أن الروح باقية، وهذا يعني أن الإصلاح ممكن، وإن تأخر.


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى