فكر وفلسفة

جلال أمين.. المزاوجة بين الشرق والغرب

هل كان جلال أمين (1935- 2018م) يعيش أزمة المزاوجة بين الشرق والغرب؟ لعل هذا السؤال أكثر ما يشغلنا ونحن نطالع مسيرته الطويلة، تلك المسيرة التي انطلقت من بيت والده المفكر الكبير أحمد أمين، الذي استحوذت أعماله «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» وسيرته الذاتية «حياتي» على اهتمام الكثيرين في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد ولد جلال عام 1935م ضمن ثمانية من الأشقاء، وحصل عام 1955م على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة.

لكنه سرعان ما تجاوز هذه البداية الشرقية المرتبطة بفجر الإسلام وضحاه لينتقل إلى الغرب، حيث أقام مدة عشر سنوات كاملة في عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، حيث لندن عاصمة الضباب، وحيث حصل من مدرسة اقتصادها الشهيرة على شهادتي الماجستير والدكتوراه، وزاد في توثيق علاقته بها إلى حد المزاوجة فتزوج من إحدى فتياتها، ليعود بها فيما بعد إلى الشرق، متوقعًا أن يكون ذلك الجسر الرابط بين الشرق والغرب.

لكنه عام 1965م يعود إلى القاهرة، ليصبح مدرسًا للاقتصاد في كلية الحقوق بجامعة عين شمس، وسرعان ما حلق نحو الشرق أكثر، فكان مستشارًا للصندوق الكويتي للتنمية عام 1974م، ويظل هناك حتى يناديه الغرب من جديد عام 1978م، فيسافر إلى ولاية كاليفورنيا الأميركية ليعمل أستاذًا زائرًا في جامعتها، إلا أنه في العام التالي يعود لكن ليصبح أستاذًا للاقتصاد بالجامعة الأميركية في القاهرة، ويظل في هذا الموقع حتى رحيله في 25 سبتمبر الماضي.

هذه المسيرة التي امتدت ثلاثة وثمانين عامًا شهدت العديد من المحطات، وقدمت الكثير من المنجزات، لكنها قامت على ركيزة أساسية هي العلاقة التي تجمع بين الشرق والغرب، فتعددت الكتب التي انطلقت من هذا المرتكز، وسعت لفهم وتحليل هذه العلاقة، ومن بينها (وصف مصر في نهاية القرن العشرين، وعولمة الفقر، وعصر الجماهير الغفيرة، وعصر التشهير بالعرب والمسلمين، وخرافة التقدم والتأخر، وماذا حدث للمصريين، وفلسفة الاقتصاد، ومصر والمصريون في عهد مبارك، والمثقفون العرب وإسرائيل، وثلاث سير ذاتية (ماذا علمتني الحياة- رحيق العمر- مكتوب على الجبين).

هذه الأعمال التي شغلت بمعرفة ما حدث لمصر تحديدًا، مصر التي سعى الخديو إسماعيل لجعلها قطعة من أوربا، ودرج خلفاؤه من بعده على هذا النهج، حتى وهي بلد محتل من الإنجليز، فما الذي حدث لها ولأهلها من تغيرات اجتماعية واقتصادية أثرت فيهم وأخرجتها وأخرجتهم من المضمار الذي كانت وكانوا يسيرون فيه.

لم يتوقف سؤال جلال أمين عما حدث للمصريين فقط، لكنه امتد للشرق ككل، الشرق المسلم العربي، الذي كان من الصعب السؤال عما حدث له، ولكن ما الذي يمكنه الدفاع به عنه، فجلال أمين لم يكن غربيًّا بامتياز، فقد جذبته أصوله المحافظة، وجعلته في مواجهة الغرب حين أعلن حربه على الإسلام، فكتب «عصر التشهير بالعرب والمسلمين»، وسعى لإنهاء أسطورة التقدم والتأخر من جذورها، فرفض أن يكون هناك أمة متأخرة وأخرى متقدمة، فلكل أمة مقاييسها في التقدم والتأخر، ومن ثم فكل ما يدور عن التقدم والتأخر بين الأمم هو خرافة.

ظل جلال أمين يراوح طيلة مسيرته بين الجذور والآفاق، وبين الأب المثقف الشهير برؤيته الإسلامية والعروبية، وبين الابن الساعي للخروج من هذه العباءة، الذي اتصل بالغرب وتعلم على أيديهم وتزوج من بينهم، ومارَس دوره بوصفه الجسر الرابط بين الشرق والغرب في الاقتصاد والاجتماع، هذا المأزق الذي كشف عنه جلال أمين نفسه في سيرته التي تعددت إلى ثلاث سير، والتي أعلن فيها أنه لم تعجبه سيرة والده «حياتي»، وفضل عليها سيرة طه حسين «الأيام».

وأن والده كان يمليها عليه بعدما ضعف بصره، والده الذي مثل له فكرة الدكتاتور، والذي لم يحب أمه، أمه التي لم تحب والده بقدر ما أحبت ابن خالها، أمه ووالده اللذان لم يحب أحدهما الآخر وفقًا للمقاييس الغربية لكنهما أنجبا عشرة أولاد، عاش منهم ثمانية، كان من بينهم جلال، جلال الذي لم يرث والده في الأدب، لكنه سعى للتوفيق بين ما تعلمه في علم الاقتصاد وبين رغبته في أن يكون مفكرًا كوالده، فأنتج نموذجًا جديدًا في علم الاقتصاد، هو علم الاقتصاد الاجتماعي أو علم الاجتماع الاقتصادي، فلم يقدم لنا عالم الأرقام الجافة الميتة بحسب تعبيره، لكنه قدم أثر الاقتصاد في البشر، وكان معنيًّا بالتغير البشري الاجتماعي عبر خلفية اقتصادية.

لكن ذلك كله لم يكن كافيًا ليكون هرمًا موازيًا لأحمد أمين، فعالم الأدب أكثر إغراء؛ لذا كان لا بد أن يكتب في الأدب، يكتب عن الأعمال التي أحبها، واتفقت مع ذائقته وروحه، وتغازله جائزة البوكر العربية وتأتي به رئيسًا للجنة تحكيمها عام 2013م، ويزداد ولع المفكر الاقتصادي الكبير بالأدب، ويروج لكتابات عادية وربما سطحية، ويسعى لأن يكون ناقدًا أدبيًّا إلى جانب كونه عالمًا في الاقتصاد، ليكشف عن ذوقه الإسلامي المحافظ في الأدب، وهو ما جعله في مواجهة المثقفين.

في حواره مع الفيصل تراجع عما كتبه في مذكراته، وتفضيله «الأيام» لطه حسين على «حياتي» لأحمد أمين، وبرّر ذلك بأن هذه كانت وجهة نظره وهو شاب، وزاد في الأمر أن قال: إن طه حسين كان عميدًا للأدب في زمن كان فيه الاهتمام باللفظ أكثر من المعنى، ورفض أن يقال عنه مفكر لأن الجميع يفكر. حاز الراحل جلال أمين في عام 2013م جائزةَ الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، ومنحه مبارك وسام الاستحقاق في العلوم والفنون، كما فاز بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب عام 2017م، وجائزة سلطان العويس عام 2010م.


مجلة الفيصل

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى