فكر وفلسفة

جان دانيال ونهاية المثقف العمومي

د. السيد ولد أباه

أُعلن في باريس يوم 19 فبراير عن رحيل الصحافي والكاتب الفيلسوف الفرنسي جان دانيال عن عمر ناهز القرن، وقد ارتبط مساره الشخصي والمهني بالمسار السياسي والفكري في بلاده منذ ثلاثينيات القرن الماضي.

كان دانيال الذي ولد في الجزائر لأسرة يهودية وعاش فيها سنوات شبابه الأولى ودرس الفلسفة في ثانوياتها، وفياً لذاكرته المزدوجة، وكان يحلو له أن يقول إنه فرنسي من شمال أفريقيا ويهودي على طريقته الخاصة.

وقد دافع عن استقلال بلدان المغرب العربي وارتبط بزعامات الحركة الوطنية في هذه البلدان وكانت له علاقات خاصة بالملك الحسن الثاني والرئيس الحبيب بورقيبة.


ومع أنه كان يقدم نفسه كمجرد صحفي وكاتب، وهي المهنة التي خصص لها حياته المهنية الطويلة في مجلتي «الاكسبرس» و«نوفل اوبسرفاتور»، فإنه في الحقيقة كان آخر جيل المثقفين الذين مارسوا مسؤولية «الاستخدام العمومي للعقل» (حسب عبارة كانط) من خلال الكتابة الصحافية.

ليس من الصدفة أن يكون ميلاد صحافة الرأي قد واكب نشأة المثقف نفسه، أي نمط من المفكر يمارس نشاطه النظري من خلال أدوات ومسالك التعبير العمومي وفق أخلاقية ملتزمة ترى في الفكر مسؤولية كونية وواجباً قيمياً.

بدأ هذا المسار من كانط نفسه الذي كتب مقاله الشهير: «ما هو التنوير؟» عام 1784 في صحيفة برلينية، وقد اعتبر ميشال فوكو هذه المقالة مظهراً لتحول جوهري في الكتابة الفلسفية بل وفي دلالة الفلسفة نفسها التي تحولت من البحث الميتافيزيقي إلى عملية التأريخ للحاضر وفهمه.


وعُرف أيضاً عن الفيلسوف الألماني الأشهر هيغل قوله إن قراءة الصحف هي بمثابة «الصلاة الصباحية» للفيلسوف، وتعني هذه العبارة أن عملية التفلسف أصبحت بحاجة إلى الارتباط بالحدث اليومي ومتابعته.

بيد أن المسألة الأخلاقية الكبرى التي شغلت مثقفي أوروبا هي ما اصطُلح على تسميته ب«المسألة اليهودية» التي استأثرت باهتمام النخبة الفكرية منذ محاكمة «درايفوس» الشهيرة في نهاية القرن التاسع عشر وما تلاها بعد عقود من أحداث المحرقة اليهودية في العصر النازي.


لقد طرحت المسألة اليهودية على المفكرين ذوي الأصول اليهودية نفسهم، مثل ماركس وفرويد وحنة ارندت وسارتر.. إشكالا نظرياً وقيمياً معقداً باعتبار نقدهم الجذري لفكرة التميز اليهودي في خلفياته الدينية والقومية، في الوقت الذي رأوا فيه أن سياسات العداء لليهود تصدر عن مقاربة الخصوصية اليهودية ذاتها لتبرير إقصاء وتهجير وإبادة اليهود بنفي الطابع الإنساني الكوني عن قضيتهم.

وفي تأملاته حول المسألة اليهودية الصادر 1946 يذهب سارتر إلى أن اليهودي هو من يعتبره الآخر يهودياً، ويعني هنا مصاعب اندماج اليهود في هوياتهم الوطنية والمجتمعية.

ومن الجلي أن الأيديولوجيا الصهيونية استخدمت هذه الأزمة الاندماجية في خلق هوية قومية للجاليات اليهودية التي تنتمي لسياقات قومية ووطنية شديدة التنافر والتمايز.


ويذكر جان دانيال أنه سأل في الخمسينيات مؤسس دولة إسرائيل بن غوريون هل يؤمن بالوعد الإلهي لليهود من منظور عقدي ديني، فأجابه، متهكماً، بأن النبي موسى (عليه السلام) لم ير «أرض الميعاد»، أما هو فقد أسسها! لكنه أضاف بجدية أنه لو خُيّر بين الأرض والسلام لاختار السلام، لأنه يدرك صعوبة اندماج الدولة الجديدة في محيطها الشرق أوسطي.


تلك هي أيضاً قناعة جان دانيال الذي دعم مسار التفاوض بين العرب وإسرائيل، وكان في سنواته الأخيرة يعتبر أن أخطر ما تواجهه إسرائيل هو تحول النزعة الصهيونية من أيديولوجيا علمانية اشتراكية إلى نزعة أصولية دينية تعيد إنتاج «المسألة اليهودية» في الوعي الأوروبي من منظور عدائي لليهودي المحتل الذي يمارس الاضطهاد والإبادة التي مورست ضده.

وكان دانيال في هذه المقاربة قريباً من صديقه جاك دريدا، فيلسوف التفكيكية ذي الأصول اليهودية، المولود مثله في الجزائر «الفرنسية»، والذي ذهب في مساءلته النقدية لمقولة «الهوية اليهودية» إلى أن الحالة الإسرائيلية الراهنة ألغمت التركيبة اليهودية المعقدة وحولتها إلى حالة استعمار استيطاني تقليدية، ومن هنا خطرها الفعلي على مستقبل الإنسان اليهودي الذي كان يجلب تعاطف الوعي الإنساني الحديث من خلال صورة الضحية الاستثنائية.


قبل سنتين كتب دانيال أحد نصوصه الأخيرة بمناسبة الذكرى السبعين لقيام إسرائيل، وكان محبطاً يائساً من الوضع الذي وصل إليه الشرق الأوسط وقد تزايدت فيه النكبات وأصبح فيه السلم بعيد المنال. ما أثار ذعر دانيال هو غياب المثقفين اليهود عن الاهتمام بالوضع المأساوي للفلسطينيين وانجراف العديد منهم لأطروحات اليمين المتشدد والنزعات الأصولية المتطرفة.

وما أراد دانيال قوله هو أن نموذج المثقف في أوروبا واكب المسألة اليهودية ونهاية المثقف اليوم لا تنفصل عن تنصل وجوه الفكر والثقافة عن المسؤوليات الأخلاقية للمفكر التي تقتضي اليوم الوقوف مع الضحية الفلسطينية. 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى

You cannot copy content of this page