فكر وفلسفةمصطلحية ومعجمية

مفهوم اللاهوية وتبعاته الميثودولوجية والسوسيولوجية

Le concept de la non-identité et ses implications méthodologique et sociologique

  • مقدمة

يعتبر أدورنو واحدا من كبار فلاسفة القرن العشرين وأحد الأوجه البارزة لمدرسة فرانكفورت، والذي كان له الفضل في وضع الخطوط العريضة للنظريةِ الاجتماعية النقدية.

ظهرت هذه النظرية النقدية أوائلَ القرن العشرين، وتطورت وراكمت إسهامات مختلف الباحثين من أدورنو (Th. Adorno) وصولا إلى هونيث (A. Honneth). ويشكّل تشخيص الحاضر أو زمنها الراهن قلبَها المفاهيمي، مستفيدة في ذلك من العلوم الاجتماعية والفلسفة (Voirol، 2003).

إذ تُحلّلُ الواقع على ضوء الأفق المعياري لـ”الحياة الجيدة”، وذلك من خلال تعبئة مختلف إسهامات العلوم الإنسانية (البين-تخصصية Interdisciplinarité) من أجل تجنّب التجريد النظري الخالص. كما تدرس الواقع الاجتماعي المعنيّ من أجل البحث على الممارسات التي يمكن أن تندرج في معنى “الحياة الجيدة”.

وبعبارة أخرى، فإنها تسلّط الضوء على المساهمات المعيارية المحركة للتحولات الاجتماعية الدافعة إلى التقدم، والذي يُفهم كانعتاق وبشكل أوسع كاعتراف وكحريات (Pagès، 2014). إن تشخيص زمنها يتناول الواقع الاجتماعي، وذلك من أجل استخراج ليس فقط الممارسات التحررية وإنما أيضا ظواهر فرملة (بلوكاج) التحرر المذكور.

كما يهدف إلى جرد “الذوات الاجتماعية أو المؤسسات القمينة بتشجيع ونشر هذه الممارسات” التحررية (Voirol، 2012).

وككل نظريةِ نقدية، فإن هذه النظرية تبسط مفاهيمها وخطواتها المنهجية في قطيعةٍ مع الإدراكات المُشَرعِنة للوضع القائم، ويُعتبر أدورنو أحد مساهميها البارزين، ويمثل مفهومه “نقد الهوية”، النقطة المركزية في فكره.

يبيّن أدورنو أن نقد الهوية يأخذ شكله في واقعِ الحداثة الرأسمالية، والتي تميل نحو الانغلاق وتحقيق هويتها. ويؤكد أن مبدأ التبادل يوجه العالم نحو منطق الهوية. وهذا المبدأ الأحادي يولّد المعاناة لكل من يفلت من منطق الهوية، ويشوّه أي شخص يقاوم مبدأ الهوية الرأسمالية الحديثة هذا. (Noppen ، 2012).
في هذا النص، سوف نقدم مفهوم أدورنو للهوية ونشرحه في علاقته بالجدل، ثم سنعرض تبعاته الفلسفية والسوسيولوجية.

ولكي نفهم مفهوم الهوية أو بالأحرى اللاهوية (La non-identité)، سوف نتتبع السبيل النظري الذي سلكه أدورنو عندما يستخدم الجدل السالب والذي أحدث به قطيعة مع سابقيه، لا سيما هيجل والماركسيين الأرثوذكسيين المنتصرين للمادية الجدلية.


  • الجدل السالب واللاهوية

في كتابه “الجدل السالب”، الذي صدر سنة 1966، تموضع أدورنو ضمن “المادية الفلسفية” التاريخية والنقدية. وانطلاقا منها انتقد الفلسفة المثالية لكانط وهيجل بهدف “استخدام قوة الذات لكسر خداع الذاتية الجوهرانية”.

انتقد أدورنو كانط (E. Kant) حينما ميّز بين الفينومينات والنومينات. لأن الفئات القبْلية (أو المفاهيم) ستكون غير قابلة للفهم إذا لم تتأسس مسبقا على نقطة لا مفهومية. فالتجربة الأصيلة لا يمكن أن تكون ببساطة “تطبيقا” للمفاهيم القبلية على المخيال، وهذا يَفترض، بالنسبة لأدورنو، أخذ اللامُطابق بعين الاعتبار.

وبالتالي، فأدورنو يرى في المثالية والأنطولوجية أساس أوّلية الفكرة على الواقعي والكائن على الوجود.
ويلوم أدورنو أيضًا الفلسفة المثالية لعدم قدرتها على ترجمة الواقع من خلال المقولات التي تستخدمها. فبالنسبة لهيجل (F. Hegel)، يعتبر الجدل تلك السيرورة التي يمكن من خلالها للوعي أن يتحقق بشكل كامل كوعي.

هناك، بالنسبة له، ظاهرتان متأصلتان في هذا الوعي: أولاهما تتعلق بالإدراك والأخرى تاريخية. الإدراك قبل كل شيء هو فوري؛ ثم فيما بعد، هو بناء مترتب عن روح المقولات. يلاحظ هيجل ثلاث مفارقات في ارتباط بهذه السيرورة: قد لا تتمثل الذاتُ العالم في الوقت الذي هي منخرطة معه، ثم التناقض بين الجسد والروح وأخيرًا مفارقة الاختلاف الذي يشير إلى الوحدة الإنسانية وتعدد الإرادات الفردية.

وليس هناك إلا الحقيقة، ووحدها الحقيقة يمكن أن تحل هذه المفارقات الثلاثة باستبدالها الوعي الساذج بالوعي الفينومينولوجي. تصير الحقيقة روحا في اللحظة التي تكون هناك كفاية بين الذات والموضوع، بين الحياة والمثالي، وتلك اللحظة لا يكون فيها الأفراد دائما واعين بها. الحقيقة إذن هي لحظة جدلية للمصالحة [بين هذه الثنائيات]. وبتعبير أدق، يشير هيجل إلى أن:

– الذات يجب أن تُموضع التمثلات خارج ذاتها؛

– الذات يجب أن تمرّ عبر الهوية التي يجب إعادة تشكيلها مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات قصد إنكارها.

إنها السيرورة الشهيرة الأطروحة-نقيض الأطروحة-التركيب المعروفة بالجدل الهيجيلي.

ويوضّح أدورنو، أن فلسفة هيجل المثالية تدّعي الإمساك بالكُلّية (Totalité) عن طريق قوة الفكر من خلال ممارسة العنف على الواقعي الذي تنوي استيعابه بواسطة ما هو رمزي. إن جدل هيجل هو في نهاية المطاف تأكيدي (إيجابي)، ويروم تحقيق انسجام “كلية” مبرِّرة للنظام الذي تمّت معاينة مظاهره وقبْلياته.

أولوية الفكرة هذه، التي تفضي إلى الكلية، أدت بأدورنو إلى القول بضرورة إعادة التفكير في دور الفلسفة، بل وإعادة تعريفها. إذ يجب عليها حلّ مفاهيم ومقولات الفلسفة المثالية بالشكل الذي تكشف فيه عن القضايا والمشاكل التي حفزت تشكيلها.

إذا كان أدورنو متفقا مع هيجل على أن هناك تطابقا جزافيا بين الفكر والكينونة، وبين الذات والموضوع، وبين العقل والواقع، فإنه يدحض التحقيق الإيجابي (التأكيدي) للهوية المعنية. تحقيق الهوية هذا، في ضوء الجدل الهيجيلي، المفروض على الأشياء، يمحي الاختلافات والتنوع؛ وهذا العنف ملازم للرأسمالية.

وبشكل أدق، إن الهوية (أو التطابق) الجزافية لدى هيجل تُوازن الهوية فيها بين الهوية واللاهوية، بينما لدى أدورنو، فاللاهوية هي التي توازن بين الهوية واللاهوية. ولهذا السبب نعته أدورنو بـ “الجدل السالب” ورفض الطابع التأكيدي لجدل هيجل (أدورنو، 1966).

إن الجدل لدى أدورنو سالبٌ لأنه لا يمكن، بادئ ذي بدء، أن تكون هناك فلسفة إيجابية للإنسان في عالم غير حقيقي. وبعبارة أخرى، لا يمكن أن يتم التفكير في العالم إلا سلبا، وذلك لأسباب منطقية تتعلق بطبيعة المفهوم ذاته.

“وهذا ما يعني، أن المفهوم يتناقض مع الشيء الذي يشير إليه. […] إذا كنتُ أفكر مثلا، وأتحدث عن “الحرية”، فإن هذا المفهوم ليس مجرد وحدةٍ لخصائصَ كلّ الأفراد الذين يمكن تعريفهم كأحرار على أساس حرية رسمية في الدستور.

بل على العكس من ذلك، ففي وضعيةٍ يكونُ فيها للناسِ ضمانةٌ لحرية ممارسة مهنة أو التمتع بحقوقهم الأساسية أو أي شيء كيفما كان، فإن مفهوم الحرية يحتوي على مؤشر لشيء يتجاوز هذه الحريات المحددة، دون أن نفهم بالضرورة ما ينمّ عنه هذا العنصر الإضافي”.

يتضمّن المفهوم ما هو غير متجانس ويبقى الفكر مخترقا من طرف التوتر بين المطابق واللامطابق، وبين الهوية واللاهوية. لهذا وجب على النظرية النقدية لأدورنو أن تبدأ من “المعاناة والشقاء للنظر في إمكانية تحقيق السعادة، ليس عن طريق تسميتها، وإنما بالأخذ بعين الاعتبار تحديدا لـ”ما هو ليس كذلك”. إنها تنوي فتح أفقٍ لـ”اللامُطابق” في عهدٍ كله تطابق، ومَعيَرة وكلية قاهرة (Voirol, 2003)..

إن مفهوم الهوية، حسب أدورنو، مفهوم إطلاقي: حيث يُنظر إلى الفرد كمطلق وخارجي عن العلاقات الاجتماعية، “ففيه يمكن التعبير عن هذا الخيال الذي بموجبه يجب أن يكون، منطقيا، كلُّ ما هو واحد بيولوجياً، سابقا على كلِّ كلية اجتماعية”.

إن الهوية تجمع ما بين الوحدة والصرامة: فـ”الأصالة ليست سوى ذلك الإصرار العنيد والمتعنّت على الشكل الجوهراني الذي يبدو عليه الضغط الاجتماعي المفروض على الناس”.

في إرادة التسمية، هناك إرادة الإقصاء والوضع خارج الفهم. ولهذا المنطق أثرٌ على الطريقة التي يتم بها تصور المجتمع الرأسمالي. إن التحديد عبر المفهوم يُذنب بتجاهل ما ينفلت من المفهوم، وما ينفلت منه هو ببساطة ذلك اللامتطابق حيث تكمن المعاناة والحياة المشوّهة بشكل عام.

إن المعرفة، حسب أدورنو، “تُصنّف المواضيع حسب سيرورة تستوعب المنتشر، والمفرد، والاستثنائي، ضمن مصفوفة موحِّدة ومختزِلة تَهدِمُ الخاص والفريد. فهوية الذات المفكرة تُخضِع الهوية الفعلية للموضوع: حين يعتبِر نفسه مجسّدا لتجربة الموضوعية، فرؤاه تحيل بالفعل إلى العالم الوحيد للذات العارفة. ومع ذلك، فإن هذه الذات، المأخوذة داخل تحصيل حاصل، تتعرف على نفسها فقط في الموضوع في الوقت الذي تعتقد فيه معرفتها للموضوع” (Voirol, 2003)..

إذا كان الجدل قد استُلهم من هيجل وأعاد ماركس (K. Marx) تفسيره وأوصى بجعله جدلا مادياَ، أي غير مثاليٍّ، فإن تجارب جمهورية ألمانيا الديمقراطية تدعنا (تجعلنا) نفكر في كون هذا الجدل يخشى أيضا مبدأه ألا وهو الهوية: إنه ميل نحو براكسيس سيّئ ونظرية معطوبة؛ وفي هذا الصدد يقول إن “تصفية النظرية عن طريق الدوغمائية وحظر التفكير أسهم في إنشاء براكسيس سيّء؛ فمصلحة البراكسيس تكمن في استعادة النظرية لاستقلالها”.

وبالتالي، يجب على الجدل أن يأخذ مسافة عن الإيجابية للتوجه نحو السلبية: فهو جدل سالب. لهذا السبب، فقد أسند أدورنو للفلسفة مهمة النقد، في هذه الحالة نقد الهوية، سواء أكانت ميتافيزيقية أو أنطولوجية. وهذا النقد موجه أساسا ضد الهيجلية أكثر من الماركسية وتعبيراتها التاريخية.

وإذا كان هناك، حسب أدورنو، تحديدٌ مفاهيميٌّ، فهناك في المقابل فجوة بين ما يُعرّفه الفكر وما يثيره أو يعلنه وبين ما يقدمه بالفعل. لا نستطيع إذن، حسبه، الوصول إلا للأفكار اللامتطابقة عبر نقد التحديدات الخاطئة؛ انتقاداتٌ تريد أن تكون “سلبا محددا”. السلب المحدد هو اللامتطابق انطلاقا من المطابق.

فالنقد هو البحث عن ما ينزلق وينفلت من المفهوم، وما يتجاوزه، وما يعاني بسببه. هذا الجدل هو “معارضٌ بشكل مفاجئ للنسبية أكثر من الإطلاقية؛ إنه ليس البحث عن موقع وسطٍ بين الاثنين، بل هو على النقيض من ذلك، أي العبور إلى الحدود القصوى، بدءا من فكرتهما الخاصة التي يسعيان لإثبات لا-حقيقتهما”.

هنا، يمكن ملاحظة أن الفكر يجب أن يدرك الواقع من خلال تحديده وكسر هذه الهوية بانتقاد ما تجمّده.
تحسم فعالية الجدل السالب مع الطابع المجرد والكوني. إنها تكمن في تحديدانيتها، أي في التاريخانية التي لا تتجاهل السياق الاجتماعي والسياسي. إذ لا ينبغي أن تؤدي إلى تركيب بسيط وإنما إلى تحليلٍ هو واجبها.

وبالمقارنة مع الأطروحة الهيجيلية، فأدورنو يستبدل مصفوفة الأطروحة -نقيض الأطروحة- التركيب بـ الأطروحة -نقيض الأطروحة –الكوكبة (Constellation). ويمكن أن نشرحها بـ المطابقة-اللامطابقة-الكوكبة؛ هذه الأخيرة، هي اتحاد الحقائق المفردة ضمن مجموعة عامة ضمن معنى “التقطع، والاقتلاع، وتفكيكٌ لوحدةٍ كُلّية” والتي لا تستوعب اللامتطابق بالمتطابق وذلك بالولوج إلى الكوكبة (Constellation).

لهذا إذن، وجب علينا، في الفلسفة، أن نأخذ بعين الاعتبار التفاعل بين الصرامة المنطقية والمرونة التعبيرية من أجل كشف جزءٍ من الدينامية التاريخية المخبأة في المواضيع التي تتجاوز هويتها التصنيفات المفروضة عليها.

  • II – التبعات الميثودولوجية والسوسيولوجية للاهوية

الجدل السالب، وانتقاد الهوية عن طريق اللامطابق والدخول في الكوكبة، كما تطوّرت عند أدورنو، لها تبعات مختلفة لا يمكننا أخذها بكامل الاعتبار في هذا المقال. وفي المقابل، يمكننا أن نحيط بتطبيقاتها في إطار التصميم الميثودولوجي والسوسيولوجي. وهذا ما يعود إلى الإجابة على الأسئلة التالية: ما هي منهجية البحث المناسبة التي تدعو إليها المفهمة الأدورنوية؟ ما السوسيولوجيا أو العلم الاجتماعي الذي ينبغي علينا ممارسته من أجل الأخذ بعين الاعتبار للامُطابق؟

وكما ذكرنا أعلاه، فأدورنو يرفض أوّلية الفكرة على الواقعي، وبعبارة أخرى، يرى أن النظرية المبنية على هذا النحو لا يمكن إلا أن تكون توليفة (نسق) فارغة من حيث قيمتها المفاهيمية. النظري والتجريبي ليس لهما نفس الامتداد ومن الصعب على النظري أن يخترق الواقعي الذي ينفلت من المَسك (قبضة) النظري.

وقد سلّط أدورنو الضوء، في مقاله المشهور “السوسيولوجيا والبحث الإمبريقي” سنة 1957، على ما يسميه “تضاد السوسيولوجيا” ويشير إلى أن “العلاقة بين الكوني والخاص تختفي، وهي التي تجعل حياة المجتمع، بغتة، تُخفي الموضوع الوحيد للكائنات البشرية والذي يمكن للسوسيولوجيا الاشتغال عليه”.

نعثر هنا على اعتمال عمل جدلية التجريبي والنظري، الخاص والكوني. وللتطابق مع فكرة الكوكبة، يقترح أدورنو التوفيق بطريقة نقدية بين ثراء النظرية السوسيولوجية الجازمة والمحتوى الامبريقي الوضعي.
كما دخل أدورنو (1969) في جدال مع كارل بوبر (K. Popper)، حين وجّه له جوابا بشأن موضوع النقد.

بالنسبة لبوبر، تتأسّس النظرية على فرضية أن الملاحظة يجب أن تؤكد أو تفنّد. النقد يدعم هذا عندما يُطبّق على الشيء أمّا أدورنو فيعتبر أن النقد هو جزء من تنظيرٍ عام للمجتمع وليس مجرد ملاحظة بسيطة للوقائع.

برفضه للعقل الأداتي، يدعو أدورنو إلى بذل جهد في معرفة تمثّل الكلية الاجتماعية التي تمّ اختزالها من طرف الوضعية. ذلك أن البحث الاجتماعي، بالنسبة له، هو المكان الذي تُصَحّح فيه التجريبية والشكلية بشكل متبادل؛ “فما يهم، يقول أدورنو، ليس هو تنعيم وتوليف هذا النوع من الاختلافات: وحدها الرؤية المتناغمة للمجتمع هي التي تتيح التوجه لهذا النوع من الانحرافات.

فالمهم هو قيادة المعركة بشكل مثمر حول هذه التوترات”. من الضروري إذن تحقيق أجرأة لغنى الوقائع التجريبية والخيال النظري. إذا تم بناء الوقائع، فإن إسقاط الذات القادرة على التنبّؤ والتنظير النقدي يجعل من السوسيولوجيا إيديولوجيا. إذا كان لابد أيضا أن يكون للإمبريقي مكانه في البحث السوسيولوجي، فلا يمكن لنا تجنب النظرية، لأن “العلم يجب أن يأتيَ من خلال الوعي، وبالضرورة، باستدامة ما هو كائن”.

نتعرّف مرة أخرى من خلال هذا المنطق على آثار الجدل السالب كنقد وكقاعدة لنظرية اجتماعية نقدية، والتي يجب أن تكون عاكسة ومنفتحة على الممكنات التي يمكن أن تؤدي لمعالجة انعكاسية من أدوات القياس الكمي والخصوبة النظرية.

يهاجم أدورنو وضعية دوركهايم: “إن الطرق التجريبية، والتي تنبع من المطالبة بالموضوعية، تُظهر (…) تفضيلا مفارقا للذاتي”. وبالتالي فإن الموضوعية التي يصدح بها هذا البحث التجريبي الاجتماعي هي موضوعية بالنسبة للطرق وليس بالنسبة لموضوع البحث.

وتعتبر الدراسات المنجزة عن السوق مثالا ودليلا على ذلك: فالموضوع هو دراسة تمثلات المستهلكين (الذاتية) في حين أن العملية الإحصائية والقائمة على القياس، تقدم كبروتوكول موضوعي، والذي يشير إلى العقل الأداتي للمفاهيم.


يعتبر أدورنو أن المجتمع هو مكان للتناقض والتفاعل بين الكوني والخاص، إن “العالم يجد وحدته في عدم التطابق”. فالتعميم يعمل على إخفاء الخصوصيات والتعددية ويستند إلى افتراض أن الأفراد متطابقين لأنه عن طريق التجريد الخاضع لإملاءات التعميم والشمولية؛ هذه الأخيرة ليست أكثر من إيديولوجيا خالصة تخفي مجتمعاً غير محرر.

ففي سياق المجتمع الرأسمالي، الذي يهيمن عليه السوق وحيث يتعلق كل شيء بالتبادل، فإن الأيديولوجيا تسيطر على الوعي، بما في ذلك وعي الباحث (السوسيولوجيا كذلك) الذي يسعى إلى “البحث عن الخيبة”. العلم الفرح بالبرودة المنهجية، والذي يتهرّب من ما هو مثالي، لا يؤيد إلا الايديولوجيا.

السوسيولوجيا تدرس حقا الوقائع ولكن يجب ألا ننسى، كما يقول أدورنو، وعلى أساس مخطط ابيستيمولوجي، أن هذه الوقائع لا تسترجع العلاقات الاجتماعية، وإنما تضع نوعا من الحجاب الذي يطمس هذه العلاقات الاجتماعية.

خلاصة لما سبق، يمكن القول إن أدورنو، عبر الجدل السالب، قد وضع ركائزَ لنظريةٍ اجتماعية جديدة والتي يجب أن تتجاوز المظاهر وتعمل على فهم الوقائع الاجتماعية في كليتها. إنها تضع لنفسها هدفًا، وليس هو إنتاج المعرفة لذاتها، وإنما المعرفة التي لها هدف تحرري.

ولذلك، فإنه ينتقد علاقة المعارف مع العلاقة الموضوعية الباردة وينافح من أجل التقدم. يدعو إلى الذهاب والإياب بين النظرية والتجريبي من أجل مواجهة الذاتيات المختلفة مع الواقع الموضوعي. هذا هو منظور الكوكبة.


  • خلاصة

أدورنو هو أحد ركائز مدرسة فرانكفورت ونظريتها الاجتماعية النقدية. يتموقع مفهومه عن الجدل السالب ضد كانط وهيجل، كما وضع الأسس لطريقة مُغايرة لممارسة العلوم الاجتماعية بشكل عام والسوسيولوجيا بشكل خاص. لهذا فاللاهوية يشكل ما يفرّ وما ينفلت من المفهوم ومن النظرية أثناء إمساكها للواقع؛ ولذلك فمن الضروري صياغة منهجية مغايرة للاشتغال بالسوسيولوجيا أو العلوم الاجتماعية.

بالنسبة لمدرسة فرانكفورت، وهذا لم يعد في حاجة إلى إثبات، فانتشار الإنتاجات والأبحاث يُظهر أن لها علاقة مع النظرية الاجتماعية النقدية، وأن كونها عبر-تخصصية مكّنت من حشد مختلف التخصصات ضمن همّ تغطية الظواهر المدروسة ولإعطاء دفعة لتشخيص الزمن الراهن والتحرر [أو الانعتاق].

وفيما يتعلق بموضوعنا، يمكن لمسارات أخرى أن تُفتح لمواجهة أو مقارنة مفهوم اللامطابق مع تلك المفاهيم التي طوّرها فلاسفة آخرون، مثل مفهوم “التذويت” عند حانّا أرندت (H. Arendt) أو نزع التطابق أو نزع التماهي عند جاك رانسيير (J. Rancière)، وهي من المواضيع التي يمكننا تطويرها في أعمال أخرى.


  • Bibliographie

Adorno, T.(1969) Sur la logique des sciences sociales, in Adorno T., Popper, K, De Vienne à Francfort, La querelle allemande des sciences sociales, 1969, trad. Bruxelles, ed. Complexe, 1979.
Adorno, T., (1991) Minima moralia, Réflexions sur la vie mutilée .Paris, Payot, 1991.
Adorno, T., (1992) Dialectique négative, Paris, Payot, 1992,
Noppen, P-F., (2012) « L’objet de la théorie dialectique. Le débat entre Max Horkheimer et Theodor W. Adorno », Archives de Philosophie 2012/3 (Tome 75), p. 449-470.
Pagès, C., (2017) Adorno contre son temps (conférence) | « L’usage de la langue. Quelques réflexions sur la relation entre forme et contenu chez Adorno ». URL : https://webtv.u-paris10.fr/videos/adorno-contre-son-temps-langue-et-dialectique-christian-berner-claire-pages/
Pagès, C., (2014) « La reconnaissance comme paradigme », La Vie des idées , 6 février 2014. ISSN : 2105-3030.URL : http://www.laviedesidees.fr/La-reconnaissance-comme-paradigme.html
Trenkle, N., (2003) « Negativite brisée. Remarques sur la critique de l’Aufklärung chez
Adorno et Horkheimer », Lignes 2003/2 (n° 11), p. 170-207.DOI 10.3917/lignes1.011.0170
Voirol, O., (2003) « Emmanuel Renault, Yves Sintomer, dirs, Où en est la théorie critique ? », Questions de communication, 4 | 2003, 480-482.
Voirol, O., (2012) « Quel est l’avenir de la théorie critique ? », Questions de communication [En ligne], 21 | 2012, mis en ligne le 01 septembre 2014, consulté le 01 janvier 2016. URL : http:// questionsdecommunication.revues.org/6601


إعداد: ذ- محمد توالي: أستاذ الاقتصاد والحقوق في كانتون دوفو canton de Vaud، وباحث في السوسيولوجيا، سويسرا.

ترجمة: سعيد بلعضيش: أستاذ الفلسفة وباحث في السوسيولوجيا، جامعة القاضي عياض (مراكش)، المغرب.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى