ما بين الخصب والحرث، وردة
في ضوء قراءة المجموعة القصصية مقارنة بالرواية من حيث عدد صفحاتها، وتعدد شخصياتها، فإن تقديم نقد متكامل لهذا الجنس الأدبي يبدو أصعب مما نواجهه مع الرواية، فهي حكاية واحدة لفكرة أساسية، أما المجموعة القصصية فهي نثار من حكايات وشخصيات وعوالم وقضايا وأفكار ورؤى ومسارات، تتعدد فيه الأمكنة والأزمنة.
وقد تتباين الأساليب من قصة إلى أخرى، فيظهر الكاتب فنونه وثقافته ويطرح أفكاره، علما أن ثمة كتاباً أنجزوا مجموعات قصصية تدور حول ثيمة واحدة، واعتبرت نقديا أشبه بالروايات، ومن هؤلاء بعض أعمال مجيب محفوظ القصصية وأعمال منصورة عز الدين ورضوى عاشور.
وإن لم يكن الكاتب قد قصد دوران قصص مجموعته حول موضوع أو مضمون واحد، وهو يجري أحياناً وليسَ عادةً، فإننا نكون في أغلب الأوقات أمام تنوع العناصر والعوامل والأسباب التي تجعل من الضروري أن نبحث عن عنصر رئيسي أو مسار واحد لقراءة مجموعة قصصية ونقدها يصلنا بالتعدد الموضوعي والنوعي.
عندَ تداول عنوان المجموعة على مسامعي، وقبل أن أقرأها، شرعتُ كعادتي بفلسفة الأشياء والأسماء، تركتُ كلمة حبوب جانباً وولجتُ إلى الأزرق، تماهيتُ مع هذا اللون وتساءلتُ: لماذا الأزرق تحديداً؟ هل هو مجرد لون، حالة؟ كلا، هو ليس كذلك أبداً.
الأزرق لون الروح، الحرية، التخيل، وكل تلك الميزات اكتسبها من الحالة التي يخلقها في النفس من تأثيرات، فيغير من حالة السكون البارد الى حالة التماهي والتجلي الى الاسترخاء اللذيذ إلى الصفاء الى التوازن والاعتدال.
ولعل القارىء الذي يشرع بقراءة هذه المجموعة من أول قصة فيها حتى آخرها سيجد أن تلك الحالات والميزات موجودة فعلا في مسامات كل قصة على حدة.
في حبوب زرقاء كتب القاص نصر أيوب القصة القصيرة بأشكالها المتعددة، فلم يعتمد على نمط واحد وشكل واحد، وهذا يحسب للكاتب من باب التجديد، فمثلاً اعتمد الشكل الكلاسيكي الذي تمثل بقصة حبوب زرقاء والتي تصدرت المجموعة حيث الحدث والحبكة والشخصيات ونقاط الصراع والبداية والنهاية.
كذلك القصة الحداثية التي تمثلت أبرزها بقصتي “كأس العصير” ص 78 و”بتلة المحبة” ص 83 ، كذلك تنوعت الضمائر ما بين المتكلم والغائب مما أضفى على المجموعة المرونة التي تخلق شكلاً من أشكال التجديد والمتعة للقارىء فلايجد نفسه واقفاً على سلم واحد له وجهتان فقط إما صعوداً أو نزولاً إنما أكثر من ذلك.
تمتعت المجموعة بأصوات سردية مختلفة ومتنوعة، صور فيها الكاتب الحالة الاجتماعية السائدة بكل تفاصيلها تمثلت بقصة “حبوب زرقاء” و”دروس خصوصية”، ولم يخلُ طرحه من الطابع الكوميدي أو المضحك أو على أدق تعبير الطريف تمثل ذلك في قصتي “قطط عيد الحب” و”مخدرات وحشيش” آخذاً بعين الاعتبار النقد المبطن للأشياء لإيصال رسالة ما إلى القارىء التي لن تخفى عليه في نهاية القصة، فمن النقد الجاد إلى الساخر من عادات فجة وتقاليد ممجوجة بأسلوب ذكي تنوع ما بين الوضوح والغموض والرمزية.
اختزل الكاتب في نصوصه الواقع ما بين التصوير الذكي للمشهد فتجد نفسك أمام صورة تصلح لأن تكون مشهداً في فيلم أو في مخيلتك ابتداءً، يكون هو المؤلف والمخرج والممثل، فمزج خياله وتجاربه مع ثقافته التي لا تخفى من لغته ورصانة تعابيره، فتجد شخصيات قصصه متلونة حسب وجهتها ولغتها وثقافتها ومستواها على كل الاصعدة، فراعى بذلك مصداقية طرح أفكار الشخصية متبنيا رأيها وثقافتها دون أن يخلو الأمر من تدخله كتدخل مشرط الجراح في علاج الفكرة ليعطي النص توازنه الطبيعي دون إسفاف.
وإذا ما اختزلنا نظرتنا تلك، نجد القاص نصر أيوب يعود إلى المرحلة الأساسية المكوّنة لشخصية الإنسان العربي تحديداً، ليقدّم لنا صورة إنسانيّة مؤلمة فينقل صورة الشابة الطموحة التي تتنازل عن عنفوانها وشبابها وطموحاتها لأجل دين في رقبة والدها فيُظهر لنا أن المرأة هي عادة ما تقع في فخ التنازلات بينما شقيقها سافر إلى أمريكا من أجل الدراسة والعمل دون أن يظهر أي نوع من المسؤولية فيما بعد وتمثل ذلك بانقطاع أخباره عن عائلته التي لم تمل من لهفة الانتظار.
وهنا رسم صورة العلاقات المجتمعية بوجهها الحقيقي من المداهنة والنفاق الاجتماعي لأجل المصالح الشخصية وتمثل ذلك في قصة حبوب زرقاء؛ في شخصية البقال سويلم الذي وشى برأس المختار ليتزوج بشابة أصغر من أولاده مقابل دين في رقبة والدها.
وتمتعت هذه القصة- كما مثيلاتها- بلغة رشيقة وحبكة متينة الا أنها على غير بقية القصص فإن لغة الحوار كانت مكثفة بين الشخصيات مما جعلها حية في السرد والمخيلة، كما تمتعت المجموعة أيضاً بعنصري الدهشة والتشويق فخلق بذلك نسيجاً جميلاً يمتع القارئ ويشعره بجمالية الفكرة.
في الختام أستطيع أن أقول إن الكاتب زرع وردة بيضاء في تربة الكلام، فكانت خصبة في أيام عجاف، فما بين خصب وحرث نبتت وردة، هي “حبوب زرقاء”.