مخاض الإبداع في عتمة الزَّنازين .. “الكتابة على ضوء شمعة”
قبل الغوص في تفاصيل “الكتابة على ضوء شمعة” لا بدَّ من كلمة موجزة عن المحامي حسن عبَّادي، الَّذي قام بمهمّة إعداد وتحرير الكتاب، مع زميله الأديب فراس حج محمد، وقد بدأ مشروعه التَّواصلي باسم “لكل أسير كتاب” مع سجناء الحريّة قبل سنوات، جاب السجون المنتشرة في انحاء الوطن طولًا وعرضًا بهدف التَّعرف إليهم، والتَّقرّب منهم، دعم انتاجهم الادبي ومن ثم ايصال الادب المحلي إليهم باذلًا جهدًا كبيرًا في ذلك.
ما ربطني بحسن من علاقة مودَّة وصداقة الَّا من باب هذا المشروع، إذ رأيت بمشروعه التواصلي مع السُّجناء خلف أقبية الظَّلام، مُحاولة جادَّة لإخراج النُّصوص الأدبيَّة مِن الظُّلمات إلى النور، ومن عتمة السّجن إلى نور الحرية، وهذا بحد ذاته عمل وطنيّ، انسانيّ أخلاقيّ وأدبيّ، يستحقه هؤلاء القابعين خلف القُضبان، الّذين دفعوا من حياتهم ثمنًا الحريَّة.
ومن خلاله قمت بالتَّعرف على ادب السجون، والاطلاع على كتاباتهم، ومتابعة اخبارهم، من خلال البرنامج التواصلي ” لكل اسير كتاب ومن كل اسير كتاب” في عمليَّة تبادلية لأدبهم في زمنين متوازيين ومختلفين خارج السجن وداخله، وكنت قد كتبت مراجعات نقديَّة لستة كتب من اصداراتهم، وهم من الأسماء التي وردت في الكتاب،” الكتابة على ضوء شمعة” بالإضافة إلى بعض القصص القصيرة التي كتبتها بإيحاء من معاناتهم داخل السجن كما عرفتها من حسن، ولا انسى الاسيرة اماني حشيم التي كانت امنيتها ، اهداء ولديها احمد وآدم كتابها في يوم ميلادهم، وقد تركتهم في المهد حين اعتقلت.
وبالمقابل كتب أيضًا ثلاثة منهم مداخلات عن كتبي وهم كميل أبو حنيش، حسام شاهين، وسعيد نفاع الأمين العام للاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين الكرمل 48، ولا انس ما كتبه الأسير حسام شاهين، فقد دخل إلى تفاصيل تفكيري حتى قبل أن اكتب الفكرة، فقرأت ما كتب أكثر من مرة.
أملي أن يستمر هذا البرنامج وأن يلقى الدَّعم والتَّأييد من كل الجهات ومن كلّ من يستطيع الدَّعم كي تبقى الشَّمعة مُضيئة في آخر النَّفق، وكي يستمر السجناء في الكتابة والعطاء، فهم بأدبهم حرَّاس الذَّاكرة، وحماة الرواية من التَّزوير والطَّمس، وبأقلامهم ومعاناتهم يحوّلون الثّقافة إلى مقاومة تحمي الوعي، وتمنع السَّطو والهيمنة والتزوير.
في “الكتابة على ضوء شمعة “لا شك اننا أمام وثيقة أدبية تاريخية، تحمل في طياتها قصَّة الألم والأمل، قصَّة المُعجزات الَّتي تتولَّد منها البطولات، قصّة رحلة الكلمة مِن ظلمات السجن إلى نور الحرية. مِن الصَّعب جدًا استعراض الكتاب بمداخلة أو مقالة أو نقد، هو بمثابة ستٌ وثلاثون وثيقة لِسِتٍ وثلاثين اسيرًا، وكلَّ وثيقة بحاجة إلى مُداخلة أو مقالة، كل وثيقة هي عالم قائم بذاته، وهي طقس كتابة اجترحه الأسير كي ينتصر لذاته المقهورة، كي يثبت للسَّجان أنَّه أقوى من كلّ المُعجزات والمُستحيلات.
الكتاب حسب تصوري أولًا وقبل كلّ شيء هو شمعة لكل مَن يحمل حسًا وطنيًا وانسانيًا، تضيء له عتمة السجن كي يرى على الأقل اخًا له أو صديقًا أو ابن شعبه أو مناضلًا يُكافح ويدفع حياته ثمنًا لحريَّته، ينتصر بقلمه لذاته المنفيَّة، ولحريَّة الآخرين بصورة حيَّة، يبحث في غياهب السّجن عن لحظة خصوصيَّة، لحظة “حريّة ولو مؤقّتة”، من أجل أن يأتيه مخاض ولادة الكلمة تحت نور شمعة، يُحاول الزَّميل والصَّديق حسن عبَّادي إخراجها مِن رحم المُعاناة، وإبقائها مُتوهّجة بنورها، يحاول أن لا يخبو نورها أبدًا حتّى يدخل النّور إلى كلّ سجون الاحتلال بدون ساكنيه.
يُجمِع الاسرى، دون أن يعرف أحدهم ما يكتبه الآخر، أنَّ جُل معاناتهم، وبذل طاقاتهم في نضالهم اليومي هو من أجل لحظة صفاء، يستطيع فيها الأسير أن يكتب ما فاضت بها روحه، وما حمل في جعبته من افكار، وبعدها عليه أن يحافظ على ما يكتب حتى يرى النور في آخر النَّفق، والكتابة على ضوء شمعة، يلقي الضَّوء على مكان الكتابة، زمن الكتابة، وكيفية اقتناص لحظة الكتابة في السجن لدى أسرى ولدوا كُتَّابًا وهم ذوي احكام عالية وقاسية ومروا في ظروف غير اعتيادية.
الكاتب داخل السجن يبحث لنفسه عن لحظة الحرية، او زمن الحرية إن أراد الكتابة، فالسّجن والحرية نقيضان لا يلتقيان، فإن وجدها عليه أن يبحث عن اربعة ابعاد لا يمكنه الكتابة بدونها، وهي الزمان والمكان، والظرف الملائم للزمان والمكان، ويكاد الجمع بينهما أن يكون مستحيلًا.
يصف الاديب الأسير وليد دقة المشهد بكلمات دقيقة معبّرة عن واقع يعيشه الأسير بكل دقائقها اذ يقول ” اننا نكتب عن السجن لننفيه، في الأسر؛ الأسير هو الرسالة ولا تميز بين ذاتك والزمن، أنت وحدات زمنك وأنت النصّ والنّاص والمنصوص، المعذّب والمُبَلّغ عن التعذيب، المَشهَد والمُشاهِد، والكتابة تجريد يستدعي تباعدًا بينك وبين الزَّمان والمكان الأمر الذي يحولها لمهمة مستحيلة “ص 86”. هذا الوصف الذي يقدمه وليد دقة قد ينطبق بشكل او باخر على جميع السجناء.
ومفهوم الزمن عندهم ليس كمفهوم الزمن عندنا، نحن الذين نعيش في عالم الحاسوب وزمن الرفاهية، زمن السجن ليس زمننا ولا يقترب منه، انه الزَّمن الموازي، زمن السجن المحكوم بقوانينه، وادواته، والالتزام فيه ليس خيارًا، واقتناص الدَّقائق قد يكون من المستحيلات أو يكاد، وفي وصفه يقول السجين الاديب احمد العارضة “سرعان ما تدرك أنَّ الليل وحده مأواك الكتابي.
وقد نام كلُّ نزلاء مهجعك الضيّق، لعلك تظفر بنزرٍ شحيحٍ من الخصوصية التي يجوع إليها الأسير جوعَه لحريته ذاتها. وحينها تكون قد انغلَقَتْ قريحتك الكتابية ونام وحيُك وأخذَتكَ سِنَةٌ لذيذةٌ لنوم، أو هوجمت بتفتيشٍ ليليّ، أو حتى تفحّصٍ روتينيّ مقيت، يُسلط به سجّانٌ يتبرمج على إيذائك -ضوءه في وجهك، لتنكشف أمامه انفعالاتك، وينفضح نصُّك البكر فيذوي قبل نضجه”. ص 16-17.
اما حدود المكان فهي أدهى وامر، الأسير يقبع بين أربعة جدران، يحاول أن يكيِّف نفسه في احدى الزوايا الهادئة نسبيًا، قد تصل إلى الحمَّام او إلى أيّ زاوية أخرى، لا تخطر ابدًا على بال انسان عادي، عالمه مُنتهك، وخصوصيَّته معدومة، وإمكانية الكتابة تكاد أن تكون مستحيلة بمفاهيم الانسان العادي، يقول الأسير أسامة الأشقر :”السَّيل الجارف من التكتيكات الاحتلالية المضبوطة بعناية فائقة لاستهداف نفسيَّة وعقل الأسير “الذَّات الأسيرة”، ولهذا فالأسير الَّذي يستطيع أن يجد زاويته الخاصَّة النفسية أولا قبل المكانيَّة يستطيع لاحقًا أن يحصّن ذاته بجدار من الحماية الفكرية” ص 20-21 .
فالتجربة وطقس الكتابة بحاجة الى معرفة ووعي القارئ حتى يفهم البُعد الإنساني العميق الذي يعاني منه السَّجين عندما يكتب. الأسير سائد سلامة يقول: “يتحول السجن إلى مكان لإعادة إنتاج التجارب والأفكار، بل ومن الممكن أن يتحول إلى مكانٍ للإبداع. وأنا لست إلا ذاك الشخص الذي وُضِعَ في ظروف استثنائية ويحاول أن يبتكر حالةً طبيعية ضمن الشروط غير طبيعية.” ص 44،
اذن من خلال الزَّمن الذي يعيشه السجين واقعًا يحاول أن يفك القيد وينطلق حرًا في الفضاء الرَّحب نحو زمن آخر ومكان آخر يعيشه ويكتب له وفيه متجاوزًا ومتجاهلًا حدود السّجن وزمانه، بل هي تصفية حساب معه، وفي هذا يقول الأسير راتب حريبات: “الكتابة بالنسبة للأسير تشكل الجسر الوحيد بين الحلم والواقع وما بين الروح والجسد، وما بين الأسير نفسه وعائلته والعالم الخارجي التي لا يمكن للأسير التخلّي عنها؛ لأنها مثل الدم بالشريان” ص 35.
يمكننا ان نلخص الصورة التي ارتسمت عن واقع الاسرى بكلمات الأسير وليد دقة ص 85 “الابداع هو تلك اللحظة التي يستطيع من خلالها العقل أن يقدّم لنا نصًا يتحدى محددات الزَّمان والمكان، او ربما يخترقها أو يروّضهما كمعطيين وجوديين”.
مهما كُتب لن نف الاسرى حقهم ولن نستطيع الدخول إلى اعماقهم التي استطاعت التحليق في عالمنا والعيش في واقعنا، فشكرًا لهم على بوحهم الذي اضاء لنا عالمهم، وشكرًا لمن اضاء لهم الشموع في عتمة السجن.
نص المداخلة التي القيت يوم 13.10.2022 ـ في حفل إشهار كتاب “الكتابة على ضوء شمعة”، مكتبة مجد الكروم العامة