في العلاقات الفرنسية الجزائرية: أسئلة ثقافية وتأريخية معلّقة؟
رياح جديدة تهب على العلاقات الفرنسية الجزائرية حاملة معها الكثير من الآمال، لكن أيضا الكثير من الأسئلة المهمة المعقدة، وتلك التي ظلت زمنا معلّقة، على المستوى التأريخي والاستراتيجي.
فرنسا قوة عالمية، ولها مصالحها الكبرى في المنطقة المغاربية وفي غيرها. ليست بعيدة عن الجزائر إلا على مسافة أقل من ساعة طيران. ثم إن الجزائر هي الواجهة الجنوبية لأوروبا، حائطها البحري الذي لا يمكن التنكر له.
واجهة التأريخ الذي لا يمكن التنكر له، ولا السقوط في مداراته الأيديولوجية في شكل ردات فعل ثقافية تحتاج إلى مساحات تأملية أكثر وإلى بعض الموضوعية التشريحية الباردة. أسست فرنسا في البلدان المغاربية الواقعة في فضائها الثقافي، وفي الجزائر تحديدا، شبكة ثقافية شديدة الأهمية بعد الاستقلال للحفاظ على الروابط العميقة حية من خلال اللغة،
ومن خلال معاهدها التي تشكل اليوم هيكلا تنظيميا ثقافيا مهما تتقاسمه المدن الأساسية في الجزائر: الجزائر العاصمة، تلمسان، عنابة، وهران. المدرسة الدُّولية ألكسندر دوما. بينما تشكل اللغة الفرنسية حضورا متزايدا مهما.
الفرنسية في المدرسة الجزائرية، أكثر من لغة أجنبية. وضعها الرسمي نعم، لكن مكانتها الفعلية في المجتمع الثقافي الجزائري هي أكثر من ذلك. لغة التبادلات الثقافية والتجارية. لغة اليومي خارج بعض المدارس والثانويات والجامعات، برفقة العامية الجزائرية التي نحتت من اللغة الفرنسية الكثير من قواعدها.
لغة التعاملات البنكية والمؤسسات التجارية، والتعاملات الدُّولية، هي جزء مهم من لغة العمل الجامعي بمختلف مراكزه ومخابره. من المؤكد أن الجزائريين استفادوا من هذه اللغة من خلال الشراكات الثقافية الثنائية، في إطار تكوينات الدكتوراة في فرنسا والاستفادة من المكاسب العلمية الفرنسية.
الأمر شديد الأهمية لكن من دون أن يعني ذلك أن العلاقات الثنائية الجامعية وصلت إلى مستواها العالي. فالأولويات التي كانت تعطى للجزائريين، المرسّمة في وثائق اتفاقيات إفيان، تم قضمها منذ الرئيس ساركوزي، لدرجة أنها فقدت كل حضور اليوم.
أضف إلى هذا كله، فرنسا أيضا مستفيدة جدا من الهجرة المنتقاة. الطلبة الذين يذهبون الى فرنسا، ويعدّون بالآلاف، لا يعودون في أغلبهم إلى أرضهم الأولى، وكأن الجزائر تكوّن لفرنسا إطارات ذكية منتقاة بلا مقابل، وهذا تفريغ كلي للجزائر من المادة الرمادية العاقلة التي تحتاجها من أجل التنمية؟ إطارات لم يخسر عليها بلد التكوين مليما واحدا، ويستفيد بها جاهزة.
الجزائر لا سياسة لها في هذا المجال، والجهالة السياسية المستشرية تلغي أي تفكير عاقل في جزائر المستقبل القريب والبعيد. تكوّن وترمي للشارع. تختار هذه الإطارات فرنسا أولا بسبب اللغة من أجل تحسين وضعها الثقافي والإنساني.
اللغة حاسمة. لهذا تسخّر الفرانكفونية ميزانية مالية ضخمة ومهمة من أجل هذا الاستقطاب. لهذا، على الجزائر وفرنسا القيام بصياغة سياسة مشتركة تحافظ فيها على التوازنات الداخلية لكل بلد. تحتاج الجزائر أيضا، في هذا السياق، إلى ترك سياسة الأبارتيد ضد مزدوجي الجنسية.
ليسوا أعداء افتراضيين. روابطهم بالوطن الأم كبيرة. هم محصلة تأريخية في النهاية لمسارات معقدة لهذه العلاقات. رأينا هذا في عز الحرب الأهلية كيف لعبوا دورا إيجابيا وشكلوا دياسبوراة حقيقية متضامنة مع الأرض الأم، في مارسيليا وباريس وليون وغيرها من المدن الفرنسية الأخرى.
لم تحافظ هذه الدياسبوراة العفوية للأسف، على استمرارها بعد نهاية الحرب الأهلية في التسعينيات، التي أكلت الأخضر واليابس. مزدوجو الجنسية خسارة وطنية حقيقية. فهم في النهاية ليسوا حالة واحدة، عقدتها الوطنيات الزائفة التي مست مؤخرا بشكل مكارثي حتى فيديرالية كرة القدم الجزائرية.
إذ أصبحت مساهمة المغتربين في الفريق الوطني مشكوكا فيها نظرا لضعف المواطنة. ونسيت فيديرالية بشكل أمي وجاهل، وشديد التخلف، أن الذي أهل الجزائر لنهائيات كأس العالم في أم درمان هو عنتر. وهو شاب جزائري مهاجر.
فقد وجدت الجزائر الرياضية فيهم فريقا جاهزا لم تخسر عليه شيئا هذه الثقافة العنصرية التي يتم من خلالها إخفاء المشاكل الحقيقية التي هي ثمرة للإخفاقات الوطنية، مست كل القطاعات منذ أن قنّن الدستور الجديد لهذه التفرقة البائسة. على الجزائر أن تكون أذكى من هذه السطحية، للإستفادة من هذه المادة الرمادية المنجزة والجاهزة ولها حبها الكبير للزائر من خلال روابطها العميقة.
هناك مشكلة في التعامل مع الدياسبوراة الوطنية. الدولة الجزائرية تعيد إنتاج طروحات الخمسينيات نفسها في التعامل بشكوك مسبقة في وطنيتها. دياسبوراة الجيل الأول من الجزائريين المسلمين أو الأوروبيين، تضاءلت كثيرا أو هي في طريقها إلى الزوال من دون أن تخلف وراءها دياسبوراة حقيقية منظمة ومتوغلة في الدوائر السياسية والثقافية، قادرة على التأثير.
بعد سنوات قليلة سينتهي هذا الرابط الذي يحمل للجزائر ليس حنينا استعماريا، ولكن رغبة كبيرة في العمل بالاتجاه الصحيح. يكفي أن نذكر أسماء دريدا، آركون، بورديو، ابن الشيخ، جون عمروش، جاك بيرك، فيتوسي، الفكاهي إسماعيل، وغيرهم من الذين ظلت الجزائر فيهم جزءا حيويا من ذاكرتهم، لندرك أن الحاجة لهذه الدياسبوراة مهمة وأن التخلص من قوانين التفرقة أكثر من ضرورة. فهذه الدياسبوراة الثقافية رابط قوي بين الشعبين الفرنسي والجزائري.
ندرك سلفا أن الطريق لايزال طويلا. وأن الخطاب العنصري التأريخي، في فرنسا أيضا، لايزال يسمم العلاقات بين البلدين، ويحمّل المهاجر كل ويلات إخفاقات السياسات الأوروبية المتطرفة. وينسى هذا اليمين المتطرف الأعمى، أن ما يقوله ويظنه مستقلا، هو في الجوهر مشحون بتأريخ الاستعمار الذي لم يصفّ نهائيا.
وهذا لن ينتهي إلا بإنشاء تأريخ آخر متصالح مع الذات، المشكلة ليست فقط مشكلة اعتراف واعتذار عن جرائم الاستعمار ولكن خلق مساحات مشتركة للتأمل يستعيد فيها المجني عليه جزءا من تأريخه الذي لا يزال ملكية فرنسية وحدها، وهي استعادة أرشيف الحرب الجزائرية الفرنسية. يمكن للرئيس الفرنسي ماكرون أن يفعل الكثير بهذا الاتجاه بوصفه شابا لا علاقة مباشرة له بهذا التأريخ.
ويريد تغيير العادات السياسية الثقيلة الميتة. للأسف، المسألة لا تخضع لمجرد الرغبة والمسؤولية التأريخية لإنهاء ألم كبير وقاس لايزال مستمرا في الذاكرة الجمعية الجريحة حتى اليوم، ولكن للوقت أيضا في ظل الفاعلين الأحياء.
وقد رأينا عن قرب كيف اضطر ماكرون أن يغير من خطابيه، خطاب الجزائر العاصمة الذي أدان فيه الاستعمار بوضوح، في سياق حملته الانتخابية، وخطاب باريس الذي اضطر فيه إلى التراجع بشكل واضح. الأغرب من هذا، هذه الزيارة المعول عليها كثيرا لتصحيح المسارات، اختصرت قبل لساعات فقط، إذ اشترطت فيها فرنسا عدم مناقشة المسألة التأريخية، وحولت الزيارة إلى لقاء تحضيري لما هو أوسع وقابل.
وهذه ثقافة تحتاج إلى أجيال جريئة قادرة على مواجهة المصائر الجديدة والرهانات الكبيرة. يجب على فرنسا أن تتنبه لمسألة مهمة، قد لا تهمها مباشرة ولكنها استراتيجية، إذ يمكنها أن تضرب صفحا عنها إذا أرادت تجديد العلاقات. الجزائر سوق كبير بأكثر من أربعين مليون نسمة نشيط استهلاكيا نظرا للمستوى المعيشي المقبول، وتشكل مع المغرب وتونس سوقا أوسع، من مئة مليون تقريبا.
الأكثر فائدة بالنسبة لفرنسا هو أن تضع المصلحة في أعلى مراتب النقاش. لا أن تلعب هنا وهناك ضمن حسابات ضيقة. قضية الصحراء الغربية مثلا، لا تمنع الجزائر والمغرب من التواصل الاقتصادي المصلحي. في ظل غياب الحلول الحاسمة، يمكن أن بوضع هذا المشكل مؤقتا في البراد ويتم التركيز على المصلحة المشتركة حتى إيجاد الحل المرضي لكل الأطراف المتصارعة في المنطقة.
هناك مشكلات كثيرة بين المغرب والجزائر، يمكن لفرنسا أن تلعب دورا مهما في تذليلها. غلق الحدود بالمزيد من الأسلاك الشائكة، والحواجز الترابية والخنادق العميقة، لا يحل أي مشكل بل يعقده. لا حل إلا بالحوار المصيري الموسع بين الطرفين.
بين المغرب والجزائر أكثر. هناك أكثر من قناة تواصل يمكن استغلالها. مصير البلدين الطبيعي أن يلتقيا، ولا خيار لهما، أو تضمحلا معا في زمن شديد الخطورة، وتتحولا الى مساحات للاقتتال البائس، والتمزقات الترابية، والمصلحية الصغيرة، وتكون المسؤولية جماعية، لا علاقة للشعبين الشقيقين بها.
يمكن لفرنسا أن تلعب دورا إيجابيا. جاذبيات الحروب خطيرة. لهذا، عليها أن تسعى، وهي الدولة القوية، تجاه التقارب لأن المصلحة الفرنسية، ومصلحة السوق المغربية الجزائرية، تقتضي حل هذه المعطلة لأية دينامية. الى اليوم، السياسات الميتة نفسها التي تعمق العداوات من جهة بين فرنسا والبلدان المغاربية وبين البلدان المغاربية نفسها.
وهذا يعمل على تعميق الخطابات العنصرية المغلقة والخطابات الوطنياتية التي توقف التأريخ في لحظة واحدة، لحظة الحرب، بعيدا عن أية براغماتية، وكأن البلدين تجمدا في لحظة تأريخية مفردة، لم تتطور مطلقا تجاه أفق آخر يسمح لهما بالتقدم في علاقاتهما، بشكل أكثر فاعلية.
يبقى التأريخ حاضرا وتجب مناقشته، ولكنه ليس كل شيء، هناك ضرورة لإخراجه من الأدلجة والسياسوية وتحويله كما تشترط الحاجة الثقافية والعلمية إلى جهد يقوم به به أصحابه من المختصين، المؤرخين. هناك حاجة تنويرية للأجيال القادمة، بالنأي بالتأريخ عن ردود الفعل المرحلية، وعدم القبول بسجن التأريخ من طرف المجموعات سدنة الوطنيات المغلقة والزائفة. للأسف، أمر مثل هذا تنقصه الشجاعة والصدق. لنقلب الصفحة لا نمزقها، ولننظر إلى المصلحة المشتركة.
هذا هو الحل البراغماتي الممكن تحقيقه اليوم. فشحنة je t’aime moi non plus، والجراحات لا تزال حية مشكلة عائقا كبيرا في توسع هذه العلاقات المفيدة للطرفين، ربما احتاجت هذه العلاقات إلى زمن آخر الكثير من شجاعة الفاعلين السياسيين في فرنسا والجزائر، وعلى الرئيس ماكرون الشاب أن يتخلص من بقايا تأريخ فرنسي كولونيالي مظلم، أصبح جزءا من اللاوعي الذي يمارَس أحيانا بشكل لا إرادي، برغم توفر النوايا الحسنة.
حادثة خطاب الرئيس ماكرون في البوركينا فاسو عندما رأى الرئيس البوركينابي روك كابوري، يغادر الندوة الطلابية احتجاجا على تدخل الرئيس الفرنسي، قال إنه ذهب ليصلح أجهزة التكييف؟ بعد أن كان الطلبة قد اشتكوا من ذلك.
انفعالات وسائل التواصل الفرنسية والأفريقية، لم تكن ظالمة في ردة فعلها القاسية، ولكنها وضعت برودة الموسى الحادة على الجرح. فقد وصفت النكتة الخائبة بأنها من بقايا لاوعي استعماري يجب ان ينتهي ويتوقف. العلاقات الأفريقية ـ الفرنسية ـ المغاربية، يجب أن تكبر لتصبح شراكة لا تبعية.