النقد الثقافي والفحولة الحيوانية
كل من قرأ ألف ليلة وليلة يتذكر جيدا قصة الحمار والثور. إنها قصة ـ إطار تدور بين شهرزاد وأبيها. كان الحمار مرتاحا، والثور يتعرض لكل الأشغال المرهقة. شكا للحمار، فقال له: تظاهر بالمرض، وسيريحونك. وفعلا، أراحه صاحب المزرعة الذي كان يعرف لسان الحيوانات، وحمَّل الحمار كل الأتعاب التي كان يضطلع بها الثور.
ندم الحمار على نصيحته، وقدم نصيحة مضادة مفادها أنه سمع صاحب المزرعة يقول للعامل: إذا ظل الثور مريضا احمله للجزار. دفع الخوفُ الثورَ إلى إعلان أنه تعافى، فأكل علفه، وبذلك عادت الأمور إلى سابق عهدها. انفجر صاحب المزرعة من الضحك، صباحا، وهو يرى الثور قويا ومستعدا للعمل، بحضرة زوجته التي طلبت منه سر ضحكه. أبى إخبارها لأن البوح بالسر يعني موته.
لكنها ألحت على إفشاء السر، ولو كان في ذلك موته؟ وأخيرا هيأ نفسه للوصية والوضوء ليقول السر ويموت رغم كل التدخلات التي طلبت من الزوجة التنازل عن طلبها. في الحظيرة سمع الكلبَ والديكَ يتحدثان عما سيؤول إليه مالكهم. فقال الديك: «والله إن صاحبنا قليل العقل.
أنا لي خمسون زوجة أرضي هذه، وأغضب هذه. وهو ما له إلا زوجة واحدة، ولا يعرف صلاح أمره معها. فما له لا يأخذ لها بعضاً من عيدان التوت ثم يدخل إلى حجرتها ويضربها حتى تموت أو تتوب؟». نفذ المالك ما قال الديك، فتابت ونجا من الموت.
يتكلف النقد الثقافي الذي يبحث عن الأنساق «المضمرة» في ادعاء أن قصة الحمار والثور، وما تتضمنه من حكايات بلسان الحيوان، تعبير عن الفحولة التي تمثل النسق العربي المضمر المهيمن في كل التاريخ. إن النقد الثقافي يستكشف الأنساق المضمرة لتجاوز الدراسات الأدبية التي تقف على «الجمالية» التي تخفي ما يضطلع بالكشف عنه: «حقيقة» النص، وليس «زيفه» الفني؟
إن البحث في الأنساق بدون الانطلاق من نظرية علمية للأنساق ليس سوى تأولات مسبقة في ذهن الناقد وهي لا تختلف إلا في لغتها عن الدراسات الإيديولوجية السابقة. لقد تشكل علم الأنساق في نطاق البيولوجيا، وانتهى إلى تفسير ظواهر طبيعية. إن الفحولة باعتبارها مقولة تستدعي، شأنها في ذلك شأن المقولات، مراعاة مقوماتها المختلفة.
تتصل هذه المقومات بما هو إيجابي ( +… ) أو سلبي أو محايد أو مختلط، بحسب السياق الذي توجد فيه، وليس في ضوء المعجم، وكذلك الأنوثة. وبدون وضع هذه المقومات في نطاق السياق النصي، وفي إطار العلاقات بين مختلف البنيات سيكون الاختزال والتبسيط، حيث تصير الفحولة متصلة بالذكورة، وما خلاها أنوثة؟ فهل الزوج الذي أحب زوجته إلى حد التضحية بحياته بسبب السر كان مثالا للفحولة؟ وما الذي تغير بين وضعه في البداية والنهاية؟
ويمكننا قول الشيء نفسه عن زوجته، ومسألة الأنوثة؟ فهل عندما كانت تصر على سماع السر، في بداية القصة، كانت تحمل مقومات الذكورة أو الأنوثة؟ وتغيرها في النهاية، بسبب تغير الزوج، هل صارت ذات مقومات ذكورية أم أنثوية؟ ونلاحظ الشيء نفسه بخصوص ذكورة الثور أو الحمار، ونحن نجد الحمار يوجه الثور كما يريد في كل مرحلة من مراحل تطور المادة الحكائية.
وماذا نقول عن الديك ذي الخمسين دجاجة؟ هذه الأسئلة لا يطرحها النقد الثقافي لأن الذكورة فحولة، والأنوثة لا فحولة. وهو ينتصر لهذه ضد تلك.
نلاحظ من خلال التحليل المحايث، المؤسس على النص، وليس على ما يمكن أن ندعي أنه «ما وراءه» أن علينا، نسقيا، أن نستخرج البنيات النصية ثم ننظر في العلاقات. هذه هي النسقية العلمية التي تجعلنا نرى من خلال بنيات الشخصيات وعلاقتها بتطور الأحداث، أن الثور شخصية ثابتة: فقبول الانخداع جعله ينتقل من التعب إلى الراحة بسبب قبول النصيحة، ثم العودة إلى التعب بعد سماع كلام الحمار.
وأن الحمار شخصية متحولة أي لها القدرة على الإقناع عبر ممارسة النصيحة أولا، ثم إنقاذ النفس بالكذب على الثور ثانيا. أما شخصية التاجر فمتغيرة. لقد كان ضعيفا أمام زوجته أولا وتغير جذريا بعد سماع كلام الديك. ويمكن قول الشيء نفسه عن الزوجة. وبينما نجد الكلب منفعلا بسبب ما آلت إليه العلاقة بين الزوجين، نرى الديك غير آبه بسلبية الزوج.
إنه الشخصية الثابتة القادرة على ممارسة التوازن بين الدجاجات بحنكته وتجربته، وليس بسبب فحولته كما يدعي النقد الثقافي الذي يرى فيه «تعبيرا» لا شعوريا عن الدفاع عن تعدد الزوجات في النسق العربي المضمر.
عندما نتأمل هذه البنيات وعلاقاتها نجد أن كل الشخصيات إما ثابتة أو متحولة أو متغيرة حسب التطور والسياق. وأن التقابل يحصل بين شخصيتين ثابتتين هما: الثور (الانخداع)، والديك (القدرة على التوازن). لقد انتقلت كل الشخصيات الذكورية على مستوى المحور الدلالي من وضع إلى آخر نقيض، مما يعني أن الذكورة هنا ليست سمة معجمية، ولكن فعلية (تتصل بالأفعال) التي تقوم بها.
فالحمار ليس كما يصوره لنا النقد الثقافي بليدا، ورمزا للأنوثة. إنه صادق في النصيحة، ولكنه كاذب لينجو من التعب الذي سببته له النصيحة. إنه يحسن التصرف لفائدته الخاصة، والثور لا شخصية له، والتاجر وزوجته متغيران حسب تطور الأفعال. أما الديك فبالسياسة والكياسة كسب الرئاسة على خمسين دجاجة.
حين نربط القصص المضمنة بالقصة الإطار، نجد أن الأب يحاول إقناع ابنته شهرزاد وهو يسرد تلك الحكايات. لكنها في النهاية لم تقتنع ليس لأنها أنثى، بل لأنها ليست مثل الثور الشخصية الثابتة السلبية. إنها ثابتة مثل الديك العارفة بكيفية التصرف لأنها قادرة على إحداث التغيير في الملك لوضع حد لمأساة مجتمع تقتل بناته بسبب «عقدة» بينت للملك أنه ليس فحلا، وأن انتقامه دليل على ضعف. تلتقي شخصية شهرزاد بالديك لأنها قادرة على حفظ التوازن، وضمان الحياة.
وبواسطة السرد الجميل، نجحت في معالجة الملك من ضعفه، كما نجحت قصة الديك في إنقاذ حياة التاجر. وهذه من الوظائف الدلالية للسرد.
إن الناقد الثقافوي لا ينتبه إلى أن قصة «الديك والدجاجات» تعبير عن حقيقة أزلية (نسق طبيعي) في عالم الحيوان. وأن علاقة الإنسان بالحيوان متعددة الأبعاد، ومنها التعلم. فالحيوان يتعلم منه الإنسان، كما أن الحيوان يتفاعل مع الإنسان ويتعلم منه (الترويض). هذه العلاقة الجدلية بينهما لا علاقة لها بتعدد الزوجات التي كانت ظاهرة اجتماعية في مراحل من تاريخ تطور الإنسان، ولا بهيمنة الذكورة أو الفحولة.
لقد أنتجت شهرزاد نصا، ليس لأنها أنثى، بل لأنها تمتلك ذخيرة نصية جعلتها تميز وتعرف وأخيرا تفرض خيارها، تماما مثل الديك الذي يعرف، أي يحسن التصرف.
لقد أنقذ التاجرَ من الموت، كما أنقذت شهرزاد البنات. لا تتعلق المسألة هنا بالذكورة ولا بالأنوثة، ولا بالجندرية أو الخنوثة. إنها تتصل بالتمايز بين المعرفة والجهل. وهما معا يتصلان بالذكر أو الأنثى.
عندما كان النقد يواكب المعارضة السياسية في الوطن العربي كان يميز في النص بين التقدمي والرجعي. وعندما أصبح يتدثر وراء ما وراء الحداثة، أمسى لا يرى في النص سوى التمايز بين الفحولة والأنوثة، منحازا ضد الفحولة التي يراها سبب كل كوارثنا.