جامعة “لايدن”: نهضة في الدراسات العربية
يسلط هذا المقال الضوء على أحدث تطورات البحث العلمي في حقل الدراسات العربية في جامعة لايدن (Leiden) بهدف تعريف القراء والمهتمين العرب بما يُكتَب حول لغتنا وتاريخنا. استهل المقال بموجز حول نشوء الجامعة وقسم الدراسات العربية فيها، ثم أنتقل إلى التفاصيل المتعلقة بمسارات البحث التي شهدتها السنوات الخمس الأخيرة.
تأسست جامعة لايدن، الأقدم بين الجامعات الهولندية، سنة 1575 بأمر من الأمير وليم الأول (يعرف أيضاً بـ وليم الصامت أو وليم أمير أورانيي) الذي قدمّها هدية للمدينة مكافأة على بطولتها في صد الهجوم الإسباني.
وكان الهدف الرئيسي من تأسيسها لاهوتياً، مع بعض التركيز على حقول معرفية أخرى. نمت الجامعة منذ ذلك الوقت وتطورت لتشغل مكاناً مرموقاً؛ إذ تصنف حالياً ضمن أهم مئة جامعة في العالم، وتتصدر بعض أقسامها المقاعد العشرة الأولى.
تتصل بالجامعة دار نشر بريل ذائعة الصيت، التي اختصت منذ نشأتها (سنة 1683) بنشر الدراسات المتعلقة بالشرق الأدنى القديم والعالم الإسلامي والشرق الأقصى، علاوة على كتب العلوم واللاهوت، وتساهم حالياً في إصدار نحو 100 مجلة أكاديمية تخص الحقول المذكورة[1].
أُسِّس كرسي الدراسات العربية في جامعة لايدن سنة 1613 بدافع الاهتمام بالحضارة العربية وتراثها اللغوي وتشجيع الحوار الديني؛ ولا سيما مع نمو العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين هولندا وبعض الدول الإسلامية. ولا شك في أن استعمارها لأندونيسيا لعب دوراً أساسياً في الأمر.
شغل الكرسي آنذاك المستشرق توماس إربنيوس (1584-1624) الذي كان يتقن العربية ولغات شرقية أخرى، كالفارسية والتركية والأثيوبية والعبرية، ونشر كتباً عدة باللاتينية، كانت بمثابة أعمال رائدة في عصره، منها “قواعد اللغة العربية”، “أمثال لقمان وبعض أقوال العرب”، و”منتخبات من حماسة أبي تمام”.
خلف إربنيوس في منصبه تلميذه ياكوبوس خوليوس (1596-1667) الذي نشر “المعجم العربي اللاتيني” و”الأمثال العربية” واعتنى ببعض مؤلفات أحمد بن كثير الفرغاني، عالم الفلك المعروف من العصر العباسي. وقد لعب المستشرق وجامع المخطوطات الألماني ليفينوس فارنر (1618-1665)، الذي عمل دبلوماسياً لدى الحكومة الهولندية في اسطنبول، دوراً جوهرياً في إغناء مكتبة الجامعة بمجموعة من المخطوطات (حوالى الألف)، جاء معظمها من أراضي الدولة المملوكية عن طريق التجار والمهربين.
وهكذا ازدهر قسم الدراسات العربية على يد هؤلاء المؤسسين وتلامذتهم من بعدهم، فأبصرت بعض أمهات الكتب النور في لايدن، مثل “تاريخ الطبري” و”فتوح البلدان” للبلاذري. ويقدر عدد المخطوطات العربية التي تضمها الجامعة حالياً بـ 4000، بالإضافة إلى 2000 أخرى بالفارسية والتركية العثمانية.
احتفلت لايدن سنة 2013 بمرور أربعة قرون على تأسيس الدراسات العربية فيها، حيث تضمن البرنامج أنشطة أكاديمية وفنية متنوعة[2].
تعرفت شخصياً على الجامعة خلال فترة إعداد أطروحتي للدكتوراه فيها، وموضوعها “دراسة لغوية وأنثروبولوجية مقارنة لأسماء الأشخاص المشتقة من أسماء الحيوان في اللغات السامية: الأكّادية، الساميات الشمالية الغربية، والعربية” (نوقشت مطلع 2017).
أتاحت لي الدراسة فرصة الاحتكاك بثلاثة أقسام تخص عالمنا العربي، هي: قسم الدراسات الآشورية، قسم الدراسات الآرامية والعبرية، وقسم الدراسات العربية، وجميعها تتبع ما يعرف بـ “معهد دراسة المناطق”، أي آسيا والشرق الأوسط (يشار إلى هذا المعهد بالاختصار LIAS).
شهدت السنوات الخمس الأخيرة تحولاً نوعياً في حقل الدراسات العربية، اقتبس في توصيفه مصطلح “نهضة” من صديق إيرلندي التحق بالجامعة مؤخراً. ويمكن إيجاز هذه النهضة في أربعة مسارات بحثية:
(1) يمثل المسار الأول السيدة بيترا سايبستاين (Petra Sijpesteijn) التي تشغل كرسي الدراسات العربية. يتسم موقف هذه المؤرخة الهولندية بالاعتدال والموضوعية؛ فهي تؤمن، كما تبرهن كتاباتها، ومن معرفتي الشخصية بها، بجذور مشتركة للحضارتين الأوربية والعربية-الإسلامية وبأهمية الحوار بينهما، وتدافع عن هذا الموقف في لقاءاتها الإعلامية ومقالاتها الموجهة إلى الجمهور العام.
تقوم رؤية سايبستاين البحثية على إعادة استبناء التاريخ الإسلامي المبكر من خلال الوثائق الحية، أي البرديات والنقوش، وعلى ضرورة فهم هذا التاريخ في سياقه المتوسطي. لا تغفل الباحثة المرويات العربية من كتب سيرة وتاريخ وطبقات، لكنها تعدها غير كافية لفهم تفاصيل تلك الحقبة.
ومن هنا تأتي أهمية المصادر الحية؛ إذ تساعد، بما تتضمنه من تقارير ومراسلات وعقود ولوائح إسمية، على ردم الفجوة في معارفنا وبناء تصور أعمق للتاريخ، لا بحيثياته السياسية وحسب، كما عهدنا في المقاربة التقليدية (أي تاريخ أسر حاكمة متصارعة)، بل والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، مع التركيز على دور السكان الأصليين في الأقاليم المفتوحة وطرائق اندماجهم في النظام الجديد الذي طوره المسلمون الأوائل.
صدر لسايبستاين ثمانية كتب، بعضها بالاشتراك مع باحثين آخرين، نذكر منها على سبيسل المثال “من الأندلس إلى خراسان: وثائق من العالم الإسلامي القَرْوَسطي” و”علم البرديات وتاريخ مصر في العصر الإسلامي المبكر”، بالإضافة إلى عشرات المقالات العلمية المهمة، منها “صعود الإمبراطوريات وسقوطها في العالم الإسلامي المتوسطي (600-1000 ميلادي)” ودراسات لبرديات جديدة: “بردية دعوة أموية مبكرة إلى الحج”، وأخرى تتضمن أسماء صحابة، بعضهم غير وارد في كتب السيرة والطبقات.
(2) المسار الثاني يمثله أحمد الجلاد (Ahmad al-Jallad)، أستاذ العربية القديمة (رتبة بروفيسور مساعد)، وهو باحث أميركي الولادة عربي الجذور من ناحية الأب، أنهى أطروحته في هارفرد والتحق بلايدن سنة 2012.
ينصب تركيز الجلاد على إعادة استبناء التاريخ الثقافي واللغوي للجزيرة العربية قبل الإسلام من خلال النقوش المنتشرة في واحاتها (تيماء، العُلا، ومدائن صالح) وبواديها، وصولاً إلى البادية الشامية.
وتعد النقوش العربية المدونة بالخط الصفائي (نسبة إلى تلول الصفا البركانية في جنوب سورية) الأكثر من حيث العدد، وهي تتوزع على مساحة واسعة تمتد من جنوب سورية حتى شمال العربية السعودية، بما في ذلك بوادي الأردن وأجزاء من فلسطين.
وبشكل عام، فإن النقوش القديمة غنية بما فيه الكفاية لدحض الصورة النمطية عن العرب بوصفهم بدواً وغزاة ليس إلا، كما تبين أن تاريخ اللغة العربية أثرى بكثير مما عهدناه في كتب التراث. أصدر الجلاد كتاباً حول قواعد النقوش الصفائية وحرر مجلداً يتضمن مقالات متنوعة حول التطور التاريخي للغة العربية، وهو على وشك إصدار ثلاثة كتب أخرى تخص مواضيع مشابهة.
النقوش القديمة غنية بما فيه الكفاية لدحض الصورة النمطية عن العرب بوصفهم بدواً وغزاة ليس إلا، كما تبين أن تاريخ اللغة العربية أثرى بكثير مما عهدناه في كتب التراث. أصدر الجلاد كتاباً حول قواعد النقوش الصفائية وحرر مجلداً يتضمن مقالات متنوعة حول التطور التاريخي للغة العربية، وهو على وشك إصدار ثلاثة كتب أخرى تخص مواضيع مشابهة
أما المقالات العلمية، فقد نشر منها حوالى العشرين، اكتشف في إحداها، على سبيل المثال، أسماء الأبراج الفلكية وبعض الكواكب في النقوش الصفائية، والتي يختلف معظمها عن تلك الواردة في المصادر العربية الكلاسيكية، ما يدل على انقطاع نسبي في تقاليد التسمية. يقود الجلاد حالياً أعمال التنقيب في موقع ثاج في شرق المملكة العربية السعودية، ويشرف على أطروحة دكتوراه.