فكر وفلسفة

ميلاد ثقافة المشاهير من الفلسفة: بين “هايدجر” و “X Factor”

أنا على وشك طرح وجهة نظر قادرة على إسقاطك في حبائل الحيرة: ثقافة المشاهير هي نتاج للفلسفة.

تمجيد المشاهير المثير للحسرة، شيوع عروض المواهب التلفزيونية مثل X Factor؛ والشعبية الجارفة لبرامج تلفزيون الواقع، ظاهرة أن تصبح مشهورًا لأنك – وفقط لأنك – مشهور، حقيقة أن الأطفال بدأوا في اختيار أبطالهم ليس على أساس مواهبهم بل على أساس شهرتهم المجردة، وإلخ، إلخ… كل هذا نتاج للفلسفة.


فكرة أن لشيء ما قيمة طالما – وطالما فقط – ظل ذا شعبية، هي مغالطة منطقية معروفة تسمى بالحُجة القائمة على الإجماع. مع ذلك تبقى هذه مغالطة مُعدِية. لماذا هي سائدة إلى هذا الحد؟ أود الإجابة على هذا السؤال بالكشف عن جذور هذه الحفاوة غير المنطقية تجاه كل ما هو مشهور، داخل التقليد الفلسفي نفسه، هذا إذا نظرنا إليه على ضوء تحليل مارتن هايدجر لتاريخنا الفكري.


كما آمُل، فقد أدركتم أن هذا التحليل بعيد كل البعد عن تبرئة ثقافة المشاهير. وصف شيء بأنه «نتاجٌ للفلسفة» لا يتضمن بالضرورة إشادة به، بالرغم من أن الفلسفة عادة ما تُعتَبر شيئًا جيدًا. ما زالت الفلسفة تحافظ على بعضٍ من جلالتها القديمة حين كانت «ملكة العلوم» على حد تعبير إيمانويل كانط.


وما زالت هذه الجلالة محافظةً على مكانتها لدرجة أن وصف طريقة ما من طرق التفكير بأنها «غير فلسفية» يُعد إهانة بالغة. على سبيل المثال، بالرغم من أن هنالك العديد من الأسباب التي تدفعنا للقول بأن البوذية ليست فلسفة لكنها نمط خاص من أنماط التفكير؛ إلا أن قول ذلك عادة ما يتبعه اتهامات بالتحيز الثقافي.


لكن النظر إلى الفلسفة باعتبارها ليست شيئًا جيدًا بالضرورة، والمطالبة بمعاملة البوذية باعتبارها «غير فلسفية»، قد ينقذها من براثن سوء التأويل.


  • موقف هايدجر المعادي للفلسفة

وضع هايدجر نفسه – في مراحله الأخيرة – في موقف معارض للفلسفة. يوسع هايدجر المنظور النيتشوي القائل بأن العدمية الأوروبية، معضلة عصرنا، ناشئة من انحسار القيم الأفلاطونية، ويصل إلى أبعد من نيتشه بالقول إن كل الفلسفة عدمية.


وبناءً على ذلك يجب علينا – لتجاوُز العدمية – أن نمارس «تفكيرًا خلاقًا» لا يكون فلسفيًا. لهذا اختار لأطروحته عنوانًا هو «نهاية الفلسفة ومهمة التفكير» (1964).


العديد من قراء هذه الأطروحة وصفوها بالعبثية، لقد اعتقدوا أن هايدجر يتلاعب فيها بالألفاظ والدلالات. ربما لا يود أن يعتبر نفسه فيلسوفًا، لكن ما يفعله هو من قبيل الفلسفة بالتأكيد.


مع ذلك، يتغاضى هذا القول عن حقيقة تخصيصه تعريفًا محددًا لـ «الفلسفة»: الفلسفة هي نمط تفكير ظهر في اليونان القديمة ويتكون حصرًا من محاولات التفكير في وجود الكائنات من حيث هي موجودة أو من ناحية وجودها.


قد يبدو هذا تعريفًا مغرقًا في التجريد، لكن هذا فقط لأنها مقولة تأسيسية. الكائن هو شيء موجود. يفكر علم الاجتماع في الأشياء من ناحية وجودها في المجتمع. والفيزياء تفكر في الأشياء من حيث هي محكومة بقوانين الفيزياء، وعلى نفس المنوال تفكر في الأشياء من حيث هي موجودة.


لذا سيجيب عالم الاجتماع عن سؤال «ما هو الكائن البشري؟» من حيث دوره في منظومة العلاقات الاجتماعية. سيجيب الفيزيائي على السؤال، إما بالتفكير في الانسان باعتباره جسدًا يتحرك حركة نسبية في حدود الزمان والمكان، أو باعتباره تجمعًا من الذرات، والموجات والكواركات، والأوتار. يجيب الفيلسوف على السؤال بالتركيز على وجود أو جوهر الكائن البشري.


  • الإنسانية الجوهرية

إذن ما هو ما جوهر الكائن البشري؟ التعريف الكلاسيكي الذي يقدمه لنا أرسطوطاليس هو «zoon logon echon» أي «الحيوان العاقل»؛ بعبارة أخرى: الإنسان هو حيوان يستخدم اللغة. سواءً اتفقنا مع هذا التعريف أم لا، لا يمكننا أن ننكر أنه محاولة لوضع تعريف جوهري.


يعرّف الإنسان عبر تحديد السمة التي ترافق كل كائن بشري، والتي لا يمكن للكائن البشري أن يوجد دونها. على حد التعريف الأرسطي ليس هناك إنسان لا يحوز صلاحية استخدام اللغة أو المعنى.


النقد الواضح الموجه لأرسطو في هذه النقطة، هو أن هناك بشرًا لا يستطيعون الحديث، لكن المسألة الجوهرية هنا ليست إن كان أرسطو محقًا في تعريفه للكائن البشري على هذا النحو أم لا، وإنما في محاولته ذلك عبر تحديد سمة لا يمكن انتزاعها من الكائن البشري ثم يبقى بعدها إنسانًا.


يرى هايدجر بناءً على هذا الاتجاه السائد على مر تاريخ الفلسفة بأنها؛ أي الفلسفة، لطالما فهمت الوجود الكائن من حيث السمة الحاضرة التي لا تنفصل عنه طالما ظل موجودًا.


يسير التعريف الحديث المساوي لتعريف أرسطو والذي يقضي بأن «الإنسان حيوان عقلاني» على نفس النهج، حيث يؤول إلى القول بأن العقل موجود طالما وجد الكائن البشري (ليس الأمر كما لو أن هناك أدلة علمية على هذا التعريف، فليس هناك مثل هذه الأدلة.


لكن لأننا ورثنا فهمًا للكائنات البشرية باعتبارها عقلانية في جوهرها). أو يمكننا القول إنه طالما وُجد كائن بشري فهو يفكر، ونهاية التفكير هي نهاية الإنسان، بما أن الفهم الشائع للموت هو أنه نهاية الوعي ونهاية العقل ونهاية الإنسان.


على هذا النحو، يعني الكائن البشري في جوهره، الحضور الدائم عبر التفكير. تُعَدّ هذه لمحة مختصرة عما استغرق هايدجر العديد من السنوات والعديد من المجلدات لإثباته والمنافحة عنه.


  • لاهوت هايدجر الأنطولوجي

يؤصل هذا التعريف لنقطة أخرى: لا تنظر الفلسفة إلى الكينونة العاقلة باعتبارها حضورًا دائمًا فحسب، بل تفترض أنها كينونة عليا؛ أي أكثر الكائنات وجودًا. بالرغم من أننا نميل للتفكير في الوجود باعتباره متغيرًا ثنائيًا – الشيء إما أن يكون أو لا يكون – إلا أن الوجود كمفهوم يعترف بتعدد الدرجات.


هذه نقطة صعبة، لكن نأمل أن يسلط المثال التالي مزيدًا من الضوء عليها. خذ على سبيل المثال العبارة التالية: «جيمي هندريكس يكون عازف جيتار أكثر من إد شيران». تقول هذه العبارة إن هندريكس وشيران كليهما يحوزان صفة «عازف جيتار» كجزء من كينونتهما، لكن هيندركس لديه كينونة جيتارية أكثر من شيران.


ينطوي فعل الكينونة في العبارة «هندريكس عازف جيتار» على ثقل أكبر من ناحية الوجود من نظيره في عبارة «إد شيران عازف جيتار». وبالمقابل، قد يود أحدهم القول بأن عبارة «أكثر جيتارية» هي كناية عن كونه «عازف جيتار أعظم».


لكن حتى هذه العبارة الأخيرة تعني أن هيندريكس يمثل جوهر «عازف الجيتار» بطريقة أنقى وأكثر كمالاً من إد شيران. في النهاية مهما كانت الطريقة التي نعقد بها المقارنة، ما نقوله حقًا إن كينونة عازف الجيتار موجودة في هيندريكس أكثر من شيران، والتي بالإمكان ترجمتها إلى: «الجيتاريّة» أكثر حضورًا في هيندريكس عنها في شيران.


في هذه الحالة إذن، يقبل الوجود بتعدد درجاته. طريقة قياس هذه الدرجات هي الحضور. يكون الشيء أكثر وجودًا إذا كان أكثر حضورًا، وأقل وجودًا إذا كان أقل حضورًا. على هذا النحو لا يكون الوجود الحقيقي أي نوع من الحضور، بل أعلى درجات الحضور الممكنة، الحضور المستمر.


وكما ذكرنا آنفًا، تفترض فلسفة هايدجر أن أعلى درجات الحضور الممكنة، أكثر الكائنات حضورًا، هو أعلى الكائنات وجودًا، وأكثرها انوجادًا. هذا باختصار ما يسميه هايدجر «اللاهوت الأنطولوجي onto-theology».


تفكر الفلسفة دائمًا في الكينونة باعتبارها حضورًا دائمًا (الأنطولوجيا اليونانية المرتبطة بالوجود)، وتنسجم مع الكائن الذي يحقق أقصى درجات الحضور، الكيان الحاضر بشكل مطلق ومستمر أكثر الموجودات وجودًا.


بحسب الثيولوجيا اليونانية لطالما كان هذا الكائن الأكثر حضورًا هو الله نفسه، الذي فُهم باعتباره الكيان الأبدي دائم الحضور للأبد في كل العوالم الممكنة. بالنسبة لهايدجر، ووفقًا للحداثة ما بعد ديكارت، انتقل لقب «أكثر الكائنات وجودًا» من الله إلى الذات الإنسانية، الكائن البشري: الإنسان هو الكائن الأكثر وجودًا والأكثر حضورًا. لهذا السبب بزغت الإنسانوية كدين علماني في ظل موت الإله.


  • الشهرة القديمة في مقابل الشهرة الحديثة

عودًا إلى ثقافة المشاهير: المشاهير هم أكثر الكائنات وجودًا في مجتمعنا. الشهرة هي ما تحدد المشاهير. أن تكون مشهورًا يعني أن يعرفك كثير من الناس. أن تعرف من قبل أحد يعني أن تكون حاضرًا بالنسبة له. أن تكون مشهورًا إذن، يعني أن تكون حاضرًا بالنسبة لكثير من الناس، ومقياس الشهرة هو مدى حضور الشخص الشهير بالنسبة للناس.


وهو المقياس الذي يمكن فهمه إما عبر عدد الناس الذين يعرفون هذا الشخص الشهير أو مدى حضوره في الأخبار والتلفاز أو عدد متابعيه على وسائل التواصل الإجتماعي. أشهر الأشخاص هم أكثرهم حضورًا بالنسبة للناس، وعلى هذا النحو تردد ثقافة تمجيد المشاهير أصداء التقليد الفلسفي.


وبالتالي لا تعد فكرة أن تكون مشهورًا لأنك مشهور انتقاصًا من جوهر الشهرة بل مكملاً أصيلاً لها. تحقق الشهرة نفسها على نحو تام حين تكون مشهورًا لكونك مشهورًا؛ لأن الشهرة ببساطة هي أن تكون حاضرًا بالنسبة لعدد كبير من الناس.


وأصبح في حكم المعروف أن المرء يحققها عبر عرض نفسه أمام أعين الجماهير، الوسائل التي يستخدمها المرء لفعل ذلك عشوائية واعتباطية. الحضور الدائم هو الهدف، ولا تهم الوسيلة التي يتحقق بها هذا الهدف.


لذا إن كان هناك من عطب في هذا النهج شديد العدمية، فلن يكون في مفهوم الشهرة نفسه، بل في مفهوم الكائن البشري. بعد موت الإله، سعت رغبة الإنسان المستمرة في الحياة الأبدية، ليس إلى التحلي بصفات الحضور الدائم للإله في السماوات، بل إلى نسخة منزوعة القيمة من الحضور الدائم، طالما كان بالإمكان تحقيقها في عالم زائل كعالمنا: وبهذا كانت الشهرة.


من ناحية، يردد هذا المنظور للشهرة أصداء السياسة اليونانية القديمة التي تمحورت حول الأعمال الصالحة العظيمة وبقاء الذكرى، وبالتالي اكتساب الخلود. في كتابها «الوضع البشري» (1958)، ترسم حنة أرندت بدقة الطريق الذي اتخذته هذه الرغبة في الخلود، لتصل إلى أقصى حدود لها وهي الرغبة في الحياة الآخرة.


وذلك عبر ميلاد الفلسفة نفسها. يعني الخلود أن تبقى عالقًا في هذا العالم للأبد، في حين تعني الحياة الأخرى أن تتسامى على هذا العالم مرتقيًا إلى الحياة التالية.


لكن لا تعني محاولة ثقافة المشاهير تحقيق الحضور الدائم في العالم المادي أنها عودة مظفرة لسيادة للعالم الحقيقي بعد آلاف السنوات من الهيمنة المطلقة للتفكير الديني. هناك اختلاف جوهري بين التوق للشهرة من المنظور المعاصر وتحقيق الخلود عبر الشهرة.


يكمن الاختلاف في أن اليونانيين أرادوا أن يتم تذكرهم إلى الأبد، بينما يسعى مشاهير اليوم لأن تتم مشاهدتهم بشكل دائم إلى الأبد. أن يتم تذكرك يعني اعترافًا فعليًا منك بالموت. بإمكاننا فقط أن نتذكر ما لم يعد حاضرًا.


على النقيض من ذلك تطمح الرغبة المعاصرة في الشهرة لجعل المرء حاضرًا بلا حدود، رهنًا دائمًا للإدراك العام القائم والحاضر.


تسعى الثقافة اليونانية إذن إلى أن تصبح ماضيًا لمن يليها، بينما تسعى ثقافة المشاهير لأن تظل باقية في حاضر من يليها؛ أن تبقى حاضرة دائمًا إلى الأبد.


الأولى تؤكد راهنية هذا العالم عبر سعيها لدخول التاريخ، بينما تسعى الأخرى للهروب من التاريخ عبر البقاء في الحاضر. لهذا تعد ثقافة المشاهير ثقافة عدمية وفلسفية بالمعنى الهايدجري التحقيري، ويجب الإطاحة بها.


باختصار، أنا لا أحب برنامج X Factor حقًا.

عصام حمزة

عصام حمزة؛ مهندس وكاتب وباحث مصري، مهتم بالفكر والفلسفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى