الاتجاه الفلسفي في فكر طه حسين
تطلّع طه حسين إلى تحرير الفكر بعد اصطدامه المبكر بمفارقات عديدة تمثلت في أسلوب التلقين والتقليد في دراسته التعليمية والأزهرية، وما عاناه من استبعاد للعقل، وحالة التخلف الفكري والجمود في قراءة التراث العربيّ الإسلامي.
وكان يهدف إلى الخروج بالحياة والعقل الإنساني من مرحلة التفكير الساذج المجبول على الفطرة إلى بناء مملكة العقل المرتكزة على ثقافة أساسها العقل تتجاوز التصورات الموروثة، وتسعى إلى التنوير وتتصل بمشكلات واقع له خصوصيته التاريخية، فسبيل النهضة واضح، بين، مستقيم ليس فيه عوج ولا التواء.
وثار طه حسين على الرواسخ الثقافية السائدة، ولجأ إلى نموذج فكري غربي مغاير. وجاء اهتمام طه حسين بالفلسفة، فوجد أنها مظهر الحياة العقلية القوية ووسيلة الإنسان لتصور الحقائق التي يحكم عليها بعقله لا بخياله.
ورأى طه حسين أن الفلسفة هي العامل الثاني من عوامل البناء الفكري عبر العصور بعد الشعر، فقد لعبت دورا مهما في تشكيل العقل الإنساني، وهي مظهر الحياة العقلية القوية ووسيلة الإنسان لتصور الحقائق التي يحكم عليها بعقله لا بخياله؛ فقد كان الإيمان بالعقل هو المحرّك الأساسي لما قدمه من صياغات فكرية، وتصورات منهجية تقوم على أسس فلسفية.
استنكر طه حسين المسلمات المطلقة، واتجه إلى النقد والشك والمعارضة، وكان شديد الإعجاب باليونان وبمذاهبهم الفلسفية التي حاولت فهم الكون وتفسيره وتعليله تفسيرا عقليا، وبحثت فيما بعد الطبيعة، وما نتج عنها من أنواع البحث التي نظمت العقل الإنساني ولازالت تنظمه إلى الآن، ثم نجد عندهم هذه الفلسفة الخلقية التي أنشأت علم الأخلاق، والتي لم يعرفها العالم القديم من قبل.
والعقل الإنساني- فيما يري طه حسين – ظهر في العصر القديم بمظهرين مختلفين؛ أحدهما يوناني خالص، وهو الذي انتصر وسيطر على الحياة الإنسانية إلى اليوم وإلى آخر الدهر، والآخر شرقي انهزم مرات أمام الثقافة اليونانية. ونجد عند اليونان – على حد تعبير طه حسين – أشياء لا يشبهها شيء في الشرق القديم…. فعندهم مذاهب فلسفية مختلفة حاولت فهم الكون وتفسيره وتعليله.
ويعبر طه حسين عن إعجابه بالفلسفة بصفة عامة وبالفلسفة اليونانية بصفة خاصة، فقد أثارت هذه الأخيرة دهشته… كيف نشأت الفلسفة اليونانية، وكيف جاهدت لتنتصر على الشعر والدين، وكيف التمست تفسير هذا الكون في الأرض مرة وفي السماء مرة أخرى، في الماء حينا وفي الجوّ حينا،
وكيف عدلت عن المادة إلى المعنى، وكيف تعمقت في بحثها المعنوي دون أن تنتهي إلى شيء قيم، وكيف كانت قبل وأثناء هذا البحث والاضطراب مصدرا لهذا التطور السياسي الذي أقر النظام الديمقراطي في أثينا وغيرها من المدن اليونانية.
- طه حسين ومنهج الشك
أما عن منهج البحث الذي اصطنعه طه حسين للبحث عن الحقائق، فهو المنهج الفلسفي بمعنى عدم قبول أي أمر أو فكرة قبل التحليل والتدقيق والنقد والتحقق من صحتها والتجرد من كل معارف سابقة، أو مؤثرات.
ولقد استنكر طه حسين التسليم المطلق، ووجه نقده على القديم كله، ودعا إلى البحث والتحرير، بل إلى الشك والمعارضة، واهتم بالمنهج النقدي، فلم يبدأ طه حسين من يقينيات ثابتة، بل بدأ من الإشكاليات وخاطبها أو تخاطب معها بروح الشك التي اعتمدها فكره وتبني منهج الشك الديكارتي، فقد أقام طه حسين صلة معرفية بثقافة الغرب واتخذ منها انطلاقة، لتكوين ثقافة جديدة.[2]
وقبل أن يكون الشك منهجا للبحث استمده طه حسين من كل من ديكارت، والغزالي والجاحظ، وطبقه في كتابيه (في الشعر الجاهلي) و(في الأدب الجاهلي) أثناء بحثه في دراسة الأدب العربي القديم، كان ممارسة فكرية عند كل من لم يقتنع أو يسلم بالأمور دون فحص وتيقن؟
فهو عقل شاك حائر لا يقنع إلا بالدليل، وإذا كان طه حسين استخدم الشك في كتابه الشعر الجاهلي، إلا أن هذا لا يمنع من استخدامه للشك في أغلب دراساته.[3]
لم يبدأ طه حسين من يقينيات ثابتة، بل بدأ من الإشكاليات وخاطبها أو تخاطب معها بروح الشك التي اعتمدها فكره، وتبنى منهج الشك الديكارتي، وأقام صلة معرفية من ثقافة الغرب، واتخذ منها انطلاقة لتكوين ثقافة جديدة.[4]
تأثر عميد الأدب بفكر ديكارت ومنهجه الفلسفي، خاصة في الأخذ بمبدأ الشك وبحثه عن حقائق الأشياء، وعدم قبول شيء إلاّ بعد تحليله وتدقيقه والوقوف على صحته، فديكارت يرفض أن يسلم بوجود كل ما يمكن الشكّ فيه.
فهو يخضع كل ما يظهر لنا في حياة التجربة والفكر على أنه يقيني للنقد المنهجي، وذلك من جهة إمكانات الشك التي يمكن أن يظهرها النقد. ولم يقتصر تأثر طه حسين بمنهج الشك – أو كما سماه المنهج الفلسفي – على ديكارت، بل كان منهجا للجاحظ والغزالي، فطبقه في كتابيه (في الشعر الجاهلي) و(في الأدب الجاهلي) أثناء بحثه في دراسة الأدب العربي القديم.
وأراد طه حسين أن يصطنع المنهج الفلسفي في الأدب، ونادى بالحرية المنهجية التي قصد بها استقلالية الباحث، وحريته في البحث العلمي من ناحية، وحريته في اختيار المنهج الذي يعمل به من ناحية أخرى للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث، والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما.[5]
- طه حسين وفلاسفة اليونان
أكد طه حسين أن سبيلنا لفَهم خصائص ومكوِّنات النهضة هو دراسة الحضارة الغربية، خاصة اليونانية، دراسة عميقة، واستحضار النموذج الغربي القديم والحديث كمنطلق للتطور والتقدم، وتناول طه حسين الحضارة اليونانية بالفحص والتحليل، فرأى أنها خضعت للشعر في أول أمرها، ثم خضعت بعد ذلك للعقل، وكانت أخصب حياة عرفها الإنسان في العالم القديم.[6]
ورأى عميد الأدب العربي بأن المجتمع ينبغي أن تؤول قيادته للعلماء، ولم ينحصر النموذج الغربي عنده في الغرب الحديث، بل رجع به إلى الأصول الأولى التي شكلت الحضارة الغربية، والحضارة الإغريقية، فأصول الغرب الحديث وضعها اليونان، حيث ابتكر هؤلاء العلم كمباحث قائمة على منهج عقلاني وكنظام من المعارف المجردة، وابتكروا السياسة وفصلوها عن الغيب، فجعلوا مصدر السلطة هو الجماعة البشرية المعنية (أي النظام الديمقراطي)، في حين أن الشرق لم يعرف سوى نظام الحكم الاستبدادي الذي يعتمد على قدسية الحاكم وتفرده.
يسلك العقل اليوناني – فيما يرى طه حسين – في فهم الطبيعة وتفسيرها هذا المسلك الفلسفي الخصب الذي نشأت عنه فلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو، ثم فلسفة ديكارت وكانط وكونت وهيجل وسبنسر، بينما نجد العقل الشرقي لم يظهر شخصية فلسفية قوية في فهم العالم وتفسيره.
وإنما خضع للكهان في عصوره الأولى وللديانات السّماوية في عصوره الراقية، وامتاز بالأنبياء، بينما امتاز العالم اليوناني بالفلاسفة. وهناك شيء آخر نجده عند اليونان ولا نجده في الشرق، وهو هذا التطور السياسي الخصب الذي أحدث النظم السياسية المختلفة في المدن اليونانية من ملكية وجمهورية أرستقراطية وديمقراطية معتدلة أو متطرفة.[7]
ويستعرض طه حسين طريق الفلسفة منذ نشأته الحقيقية، فيرى أنها سلكت قبل سقراط مسالك مختلفة شديدة الالتواء، وأفلست فيها واحدة بعد أخرى، وأن هذه الفلسفة التي أفلست في آخر الأمر كانت أيام انتصارها مشرفة على العقل اليوناني تقوده وتدبره وتنتهي به إلى الخير.
وهذا العقل كان شديد التطور والتحرر[8]، وعنى بآراء الفلاسفة السابقين عليه، كما كَلِفَ بآراء السوفسطائيين المعاصرين له. وكانت فلسفة السوفسطائيين- كما رآها طه حسين – صورة صادقة للحياة الاجتماعية.
وكانت هذه الفلسفة تنكر كل شيء ولا تعترف إلا بالمنفعة الفردية التي كان زعماؤها يطوفون الأرض كما كان يفعل الشعراء القدماء يحملون الشك والإنكار، ويخدمون المنفعة الفردية ويعلمون الفرد كيف يلبس الحق بالباطل، ويتلاعب بالألفاظ.
وكيف يعبث بعقول القضاه في المحكمة وبعقول الجماعات في المجالس السياسية العليا، وكيف يعبث بعقول الأفراد ومنافعهم فيما يكون بينهم وبينه من حوار. وهكذا اتخذ السفسطائيون من الفلسفة والدرس وسيلة إلى المجد وكسب المال… أما سقراط، فلم يكن يلتمس مجدا ولا كسبا.[9]
تيقن سقراط – كما عرض طه حسين- أن هناك مفارقات بالغة في تفسير الفلاسفة للكون، فعلم أن هذا المجال فقير، وأن عطاءه ليس مجزياً في عالم الفكر لمن كان له قلب يريد أن يقتنع بالوقوف على مشارف الحقيقة، فانصرف عن الطبيعة إلى الإنسان، ونزل بنظره وفكره من السماء إلى الأرض، واهتم بالنفس الإنسانية.
لقد ابتدأ سقراط سخطه الفكري مؤسساً على قاعدة صلبة لفته إليها عبارة كتبت على معبد “دلف” وهذه العبارة هي (اعرف نفسك بنفسك)، ولقد شكلت هذه العبارة نفسية سقراط كما شكلت منهجه. واعتقد سقراط أن الخطأ الذي وقع فيه القدماء من الفلاسفة هو أنهم لم يتخذوا الاتجاه السليم من الناحية المنهجية.
كما أنهم بدأوا في بحوثهم بداية خاطئة. وكان هذا الخطأ الذي وقع فيه السّابقون على سقراط – من وجهة نظر طه حسين – خطأ منهجي، فلم يتجه هؤلاء في أبحاثهم إلى النفس الإنسانية، يتعرفون عليها ويتفهمون حدودها وما انطوت عليه من المعارف وما يتلاءم معها من السلوك والآداب، وأن يحللوا النفس الإنسانية، لكنهم انصرفوا إلى الكون وعناصر الطبيعة فلم يوفقوا، وجانبهم الصواب فيما راموا الوصول إليه بسبب الخطأ في المنهج والحيدة عن الخط السليم.
ولم يشأ سقراط أن يقع فيما وقع فيه القدماء من المثالب والأخطاء، فقعّد لنفسه هذه القاعدة، وهي أن الفلسفة تبدأ منذ اللحظة الأولى بتحليل النفس الإنسانية، ولذا فإنه يعتقد أنه من لم يعرف نفسه، فلن يتأتى له أن يحصل شيئاً من المعرفة، ومن لم يحلل شخصيته لن يستطيع التقدم خطوة مهما أوتي من أسباب العلم ووسائل الدرس والبحث.[10]
وشهد أفلاطون في شبابه – كما يروي طه حسين – ضعف الأمة اليونانية عامة ومدينة أثينا خاصة؛ وتدخل الأجنبي في أمر هذه الأمة التي كانت شديدة البأس واسعة السلطان؛ فأصبحت أداة تصطنعها الأمة الفارسية لإرضاء مطامعها المختلفة في آسيا وفي أوروبا. وشهد في شيخوخته انحلال هذه الأمة اليونانية وموت الروح الوطنية فيها.
وظلت فلسفة أفلاطون ممثلة لهذا العصر الذي عاش فيه تمثيلًا صحيحًا، فكانت من جهة، كفلسفة سقراط ترمي إلى تقوية الحياة العقلية وتحاول أن تكون وحدها غاية الرجل الحكيم، وكانت من جهة أخرى، كفلسفة سقراط أيضًا تمثل السخط على الحياة السياسية الحاضرة، وتتخذها موضوعًا للعبث والسخرية.
ولكنها لم تكن يائسة من الإصلاح، وإنما كانت تخالف فلسفة سقراط، وترمي إلى وضع نظام جديد للحياة السياسية، ليس يعنينا الآن أكان في نفسه حسنًا أم سيئًا، معقولًا أم غير معقول، ولكن الذي يعنينا أنه كان محاولةً للإصلاح ورغبة في إقامة بناء سياسي جديد، ودليلًا واضحًا على أن البناء السياسي القديم الذي كان قد أخذ يتصدع أيّام سقراط قد أشرف على الانهيار، ولم يبق من الاستعداد بد لإقامة بناء جديد على أنقاضه.[11]
أما بالنسبة إلى أرسطوطاليس، فقد رأى طه حسين أنه ليس فيلسوفا قديما، وإنما الحق أنه فيلسوف خالد ملائم لكل زمان ولكل مكان، وهو – كما سمَّاه الغرب حقًّا – «المعلم الأول»، وهو بحكم هذا الاسم قائد من قادة الفكر، أو قُلْ: أكبر قائد من قادة الفكر، وكيف تريد أن أثبت لك أنه أكبر قائد من قادة الفكر وأنت تعلم معي أن فلسفة أرسطاطاليس سيطرت منذ ظهورها على العقل الإنساني القديم.
كانت لفلسفة أرسطو الأثر الأكبر في تكوين العقل العربي الإسلامي، وفي وجود فلسفة العرب وعلم الكلام، وهي التي تغلغلت في الحياة العربية حتى أثرت في البيان العربي تأثيرًا قويًّا، وهي التي كونت العقل الأوروبي في القرون الوسطى.
وهي التي اتخذها العقل الأوروبي مصدرًا وأساسًا لعلمه وفلسفته في العصر الحديث، بل هناك ميزة يختص بها أرسطوطاليس دون غيره من الفلاسفة القدماء والمحدثين، وهي أن خصومه والمنتمين إلى المذاهب الفلسفية والدينية المناقضة لفلسفته يتخذون فلسفته نفسها وسيلة إلى محاربته.
فالأفلاطونيون ينقضون فلسفة أرسطوطاليس بنفس القواعد التي كشفها أرسطو للبحث والنقض والاستدلال؛ وكذلك يمكن قوله عن المسيحيين والمسلمين والمحدثين من الفلاسفة، فكل أولئك استخدموا وما زالوا يستخدمون منطق أرسطوطاليس لمخاصمة أرسطوطاليس.
ويرى طه حسين أن فلسفة أرسطو خالدة وقد تكون أشدّ من الدهر قدرة على البقاء، إن صح مثل هذا التعبير. ويرى أن من أراد أن يبحث عن قادة الفكر فلن يستطيع أن يوفق لإجادة البحث وإحسانه إلا إذا عُنِيَ بأرسطوطاليس وفلسفته، وأنزلهما منزلتهما الحقيقية، وهي المنزلة الأولى.[12]
اهتم طه حسين إذاً بكل فكر متطور يوناني كان أم فرنسي أو عربي، ولم يستقر على نظرية واحدة من الفكر العربي أو الفكر الفرنسي، ولكنه تأثر بأفكار مختلفة ومتناقضة أحياناً ووضع منهجا خاصا به، فأخذ من التناقضات أفكاراً، ومن التيارات الفكرية آراء، ومن المناهج أساليبا، ليصوغ منهجاً خاصاً به، وفكراً ملائماً لشخصيته التوافقية، لذلك حاول أن يوفقَ بين الاتجاهات المختلفة، ومارس أسلوب العبث في إطار منهج وسطي انتقائي توفيقي بين المذاهب والآراء.
- خاتمة
يقول طه حسين: إنما نحن عبيد اللحظات لانملكها ولانستطيع تصديها ولا ادعاءها ولا ردها عنا حين تقبل علينا[13]، لذلك لابد أن ننتقل من طور إلى طور ….دعوة هي إذن إلى التطور والانتقال من مرحلة أخرى، فلابد من الاستعداد والتهيئة العقلية للعلم، فهذا يأخذنا إلى العقلانية، وهي النزعة الملازمة للحرية، تتبادل معها الوضع والمكانة كما تتبادل معها التأثر والتأثير.
والحرية هي الهدف الأسمى في فكر طه حسين وحضوره، وهي التي ترتبط دائما بالرفض والمعارضة، ولذلك عندما ضاق على طه حسين الأزهر، بحث عن مجال أوسع لممارسة حرية الفكر خارج أسواره إلى الحياة الثقافية الأكثر رحابة، حيث مؤسسات الرأي والمجتمع المدني.
لم يتّفق كثير من الباحثين مع طه حسين في الشك، ولم يتفقوا معه في نسبة الشك التي دعا إليها، ورأوا أن طه حسين قد بالغ في هذا الأمر، فقد رأى محمد عابد الجابري بشأن صحة الأدب الجاهلي من عدم صحته، أن هذه الأمور يجب أن يكون الشك عندها في حدود.
وإلا فقد كل مبرر منهجي؛ ذلك لأنه بإمكان الوضاع أن يضعوا فعلا بعض الأشعار وينسبوها إلى من تقدمهم، لكن من المستبعد تماما أن يتناول الوضع شخصيات الماضي وما ينسب إليها في آن واحد. وبعبارة أخرى، لكي تنسب أشعار إلى شعراء جاهليين يجب أن يكون هناك بالفعل، ليس فقط شعراء جاهليين، بل أيضا شعر جاهلي ينسج على منواله، فالتزوير من غير نموذج سابق غير ممكن.
ويرفض الجابري هنا أن يكون الشك هادما لكل ما هو ثابت وجوده، لكن هذا لا ينفي نقده والطعن فيه… أما أن يكون الأدب الجاهلي قد تعرض للبتر والإهمال فهذا وارد.[14]
إن علاقة الحرية بالسياسة – عند طه حسين – وطيدة بالطبع وقد جاءت السياسة بعد الفلسفة، لتلعب دورها في بناء الفكر الإنساني – كما وضع ترتيبها طه حسين – وفي نظره أكثر وأهم رجال السياسة الذين تركوا أثرا في ذلك هو الإسكندر الأعظم، الذي ترامت مستعمراته من أوروبا إلى آسيا… وكما كان الإسكندر رجل حرب كان رجل فكر أيضا.
والحرية، تلك الممارسة التي أصبح يراها طه حسين ضرورية كالحياة للإبداع حتى ولو انقلبت إلى فوضى؛ فالفوضى في الأدب لا تدل على شيء إلا على أن المواهب تزدهر كلما وجدت في مناخ أكثر حرية. وفي حقيقة الأمر، نحن بحاجة إلى التحرر من المفاهيم الراسخة لدينا، وبخاصة فيما يختص بالتراث، نحن بحاجة إلى قراءة متجددة للتراث الإسلامي العربي.
[1]– ذوات العدد45
[2] راجع …. ماجد السامرائي: الثقافة والحرية – قراءة في فكر طه حسين – الأهالي – الطبعة الأولى – 1996م، ص 20
[3] د فيصل غازي: طه حسين والمسألة الدينية – مجلة كلية الأداب – جامعة بغداد –العدد 101، ص 598
[4] راجع …. ماجد السامرائي: الثقافة والحرية – ص 20
[5] طه حسين: في الأدب الجاهلي ا-لطبعة الخامسة عشرة -دار المعارف- ص، ص 67-68
[6] راجع …طه حسين قادة الفكر – الهلال – مصر 1925م-ص 25
[7] راجع: طه حسين: قادة الفكر، ص 24
[8] راجع: قادة الفكر ص 25
[9] راجع: قادة الفكر، ص، ص 31 – 32
[10] قادة الفكر، ص 33
[11] قادة الفكر، ص 34
[12] راجع: قادة الفكر، ص 34 وما بعدها.
[13] راجع: قادة الفكر، ص 40 وما بعدها.
[14] طه حسين: مع المتنبي – لجنة التأليف والترجمة والنشر –القاهرة – 1936، ص 710.