اقتباساتفكر وفلسفة

الأصولية في التاريخ العربي الإسلامي

ظهرت بوادر الأصولية، في التاريخ العربي الإسلامي، في النصف الأول من القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)، إذ اتسعت رقعة الدولة العربية الإسلامية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، فشملت العراق وجزءاً من بلاد فارس وسوريا وفلسطين ومصر وجزءاً من شمالي أفريقيا.


ثم امتدت، في أواخر القرن الأول الهجري وأوائل الثاني فشملت أجزاء واسعة من آسيا وأفريقيا وجزءاً من أوروبا. ودخلت في ولايتها وعهدها أو ذمتها شعوب وأقوام مختلفة لكل منها تراثه الثقافي وأعرافه وعاداته وتقاليده. وبرزت من جراء ذلك مشكلات اقتصادية وإدارية وتنظيمية جديدة كان لابد معها من مرونة حاذقة في التشريع وفق الأسس التي أرساها الإسلام.


كما أخذت بوادر الترف تظهر في الحواضر العربية، ورافقها فساد تسرب إلى تصرفات بعض الولاة وقادة الجند الذين مكنتهم الدعة والمسالمة من الترخص في المتاجرة وتثمير الأموال وتملّك المزارع، وبرزت مسألة الأراضي الزراعية وفيئها مما استثار العصبيات التي قاومها الإسلام، فنهض بعض الصحابة والتابعين يبينون مفارقة تلك التصرفات للمثل الأعلى الإسلامي.


وكان من أبرز هؤلاء الصحابي أبو ذر الغفاري رضي الله عنه (ت 32 هـ/652م) الذي اشتهر بدعوته إلى التقى والتقشف مبتدئاً بنفسه. لذلك برزت الحاجة إلى الاجتهاد في المسائل التي لم يرد فيها حكم شرعي في القرآن الكريم والسنة النبوية.


ويمكن القول إن الأصولية ارتبطت منذ بداياتها الأولى بالتقوى والاجتهاد، فالإيمان معرفة وطاعة، والمعرفة هي الأصل، والطاعة هي الفرع. وانطوت الأصولية كذلك على تواتر دائم بين النقل والعقل. وإذا كان أهل الرأي وأهل الحديث متفقين على أولوية النص الديني، فإن خلافهم تركز على قضية العقل وحرية الإنسان ومسؤوليته عن أعماله.


ولم يبق الاجتهاد محصوراً في مجال التشريع بل تعداه إلى المسائل الفكرية والاعتقادية فظهر مجتهدون في الفكر والعقيدة من أمثال الحسن البصري وواصل بن عطاء وغيرهما، ونشأت بعد ذلك فرق اعتقادية كالمعتزلة الذين يسمون أصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية والعدلية.


وظهرت بإزائهم فرق تقول بنفي الفعل عن العبد وإضافته إلى الله، وهو ما ذهب إليه الخلفاء الأمويون، وكذلك الأشعرية والمرجئة وفرق الخوارج وفرق الشيعة ولاسيم الإسماعيلية وفيهم القرامطة وإخوان الصفا.

وتظهر في هذه الفرق، على اختلافها، آثار انفتاح الثقافة العربية الإسلامية على الثقافات الأخرى ولاسيما الفلسفة الهلينية عامة والمنطق الأرسطي خاصة.


ويظهر مصطلح الأصول و«أهل الأصول» (الأصوليين) بوضوح عند الشهرستاني في الملل والنحل الذي صنفهم فرقاً ومذاهب متقابلة تَقَابُل التضاد. ولم يخلُ هذا الاختلاف في العقائد والأفكار من وظيفة اجتماعية سياسية أو توظيف سياسي مقترن بالتعارضات الاجتماعية والنزاعات السياسية التي وسمت مرحلة طويلة من التاريخ العربي الإسلامي.

بيد أن «علم الأصول» تأسس بصفته علماً على يد الإمام الشافعي (150-204 هـ/767-820 م) وذلك في رسالته الشهيرة باسم «رسالة في الأصول»، وكذلك أحمد بن حنبل (160-214 هـ/ 780-855 م) أشهر من ناهض المعتزلة حين غدا الاعتزال المذهب الرسمي للدولة العباسية في عهدي المأمون والمعتصم.

وفي العصور المتأخرة من التاريخ العربي الإسلامي ظهر فقهاء ومجتهدون مقلِّدون تبَّنْوا مذاهب السلف فكثرت الشروح والشروح على الشروح، وباتت السلفية صفة فارقة تميز الأصولية المجتهدة والمبدعة من الأصولية السلفية التي نشأت إلى جوارها مذاهب التزهد والطرق الصوفية.

أما في العصر الحديث فتعد الدعوة الوهابية التي ظهرت في الجزيرة العربية ونسبت إلى محمد بن عبد الوهاب (1115-1206 هـ/ 1703 -1792 م) أول حركة سلفية حاربت البدع وتصدت للطُرقية الصوفية. وكان لها تأثير في المغرب العربي في عهد السلطان محمد بن عبد الله (1757-1790 م).


وكذلك في عهد ابنه السلطان سليمان (1792-1822 م). وقد تطورت أفكار هذه الدعوة في المغرب على أيدي الشيخ أبي شعيب الدكالي (1878-1937 م) ومحمد بن العرب العلوي (1880-1964 م) إلى أصولية اجتهادية وطنية نشأ في كنفها الجيل الأول من رجال الحركة الوطنية هناك.

وقدمت الأساس الفكري العربي الإسلامي للتطلعات الوطنية والنزعة الإصلاحية. ولعل من أهم حركات الإصلاح الحديثة أيضاً الدعوة التي قادها جمال الدين الأفغاني (1838-1897 م) ومحمد عبده (1849-1905 م).


ومن أعلامها عبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا وشكيب أرسلان وغيرهم. وقد حاربت هذه الدعوة البدع والخرافات والأوهام، وعملت على التوفيق بين النقل والعقل وبين الدين والعلم الحديث، ورأت أن الحياة الدستورية والتمثيل النيابي والحقوق المدنية والحريات السياسية والنزعة الوطنية القومية المعادية للاستعمار والاستبداد كلها لاتخالف الشرع الإسلامي.


وكان لهذه الدعوة أثر بارز في الفكر العربي الحديث بوجه عام وفي الفكر السياسي بوجه خاص في العراق وبلاد الشام والمغرب العربي، وفي مركز الدولة العثمانية أيضاً. وتأثر بها المصلحون وأنصار الدستور (1908-1909).

واستمر تأثيرها حتى خمسينات القرن العشرين في فكر أحمد أمين ومحمد حسين هيكل وعلي عبد الرازق وطه حسين وخالد محمد خالد، وغيرهم من رموز الثقافة العربية المعاصرة. وتأثرت بها الأصولية الشيعية في العراق، إذ أفتى مجتهدوها بوجوب محاربة الإنجليز الذين احتلوا العراق في بداية الحرب العالمية الأولى.


ودعوا إلى وحدة المسلمين السنة والشيعة لمواجهة الخطر الغربي وإقامة دولة إسلامية دستورية حديثة. كما كان لها تأثير بارز في المغرب العربي تجلى في أفكار خير الدين التونسي الإصلاحية وفي جمعية العلماء في الجزائر.وتعد الحركة المهدية في السودان وموريتانيا، والسنوسية في ليبيا، من الحركات الأصولية الحديثة.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى