نظرة على مناهج تدريس الفلسفة في الخليج
منذ سنوات والجدل حول إبقاء مقرر الفلسفة في مناهج التعليم الكويتية قائم، فعلى الرغم من أن مادة الفلسفة لا تُدرس إلا لطلبة الصف الثاني عشر لمنتسبي القسم الأدبي في المدارس الكويتية، فإن اللجنة الاستشارية لاستكمال تطبيق أحكام الشريعة في مجلس الأمة كانت قد قدمت في أكثر من مناسبة، منها دورة عام 2008، مشروعًا لإلغاء المقرر من المرحلة الثانوية، وذلك لأن الفلسفة تتعارض مع الإيمان والدين.
ومع أن المادة لم تُلغى حتى يومنا هذا، فإن مجموعة من الممارسات التي اتخذتها وزارة التربية والتعليم في الكويت قلصت من أدوات هذا المقرر، وحجمت من فرصة تحقيقه للأهداف التي تكرسها الفلسفة.
في المقابل، أقرت السعودية تدريس منهاج الفلسفة العام الماضي لأهداف منها نبذ التعصب وتعزيز التعددية في المجتمع، إلا أن المجتمع الأكاديمي في السعودية فوجئ بأن مادة التفكير الناقد وهي مادة فلسفية أُسندت إلى معلمين غير متخصصين.
وبحسب تصريح د. مها العجمي المستشارة بمركز تطوير المناهج، فإن التفكير الناقد ليس قادمًا من تخصص معين، لذلك «قد يستطيع معلمو الدراسات الإسلامية والدراسات الاجتماعية واللغة العربية تدريس هذه المادة».
وبدوره، يعقب الدكتور حسن الشريف أستاذ الفلسفة بجامعة طيبة، في لقاء أجري معه عبر إذاعة سلطنة عمان، عن أن التفكير الناقد حقل ضمن تخصص الفلسفة، ومن يدرسه عالميًا هم المتخصصون في الفلسفة، مشيرًا إلى أن الدراسات والتجارب تثبت محدودية النجاح إذا ما درسه غير المتخصصين.
وقد أقرت الإمارات تدريس الفلسفة وضمها إلى حزمة المواد الدراسية بداية من العام الدراسي 2021/2020، فيما تطرح البحرين مقرر «مشكلات فلسفية» لطلبة الثانوية في المدارس الحكومية، إلا أنها مادة اختيارية. بينما يغيب مقرر الفلسفة في المدارس عن كل من سلطنة عمان وقطر.
فما حاجتنا للفلسفة؟ وما الذي حدث لمنهج الفلسفة في الكويت، باعتبارها التجربة الأقدم في تدريس الفلسفة في الخليج؟
- لماذا على الطلاب أن يدرسوا الفلسفة في الواقع؟
بحسب جامعة نورث كارولينا في شارلوت، يعتبر تخصص الفلسفة مهمًا لأنه يعلم مهارات التفكير النقدي، والتفكير في الأسئلة الكبيرة في الحياة، في الأخلاق والدين والسياسة وغيرها، وتاريخ الفلسفة هو سجل لمحاولات الناس في تأمل إجابات لهذه الموضوعات.
ويعرض تجارب لطلاب من تخصصات علمية مختلفة مثل الأمن الجنائي وتاريخ الفنون وإدارة الأعمال والمحاسبة ممن جمعوا بين تخصصاتهم والفلسفة، وكيف أسهمت هذه الأخيرة في تطور مهنهم المختلفة.
يبدو حزينًا بعض الشيء استخدام هذه اللغة الاعتذارية في إبراز قيمة الفلسفة، ودخول هذا الصراع المتوهم حول أهميتها إزاء العلوم البحتة، إذ يبدو أن قدرة الفلسفة على تنبيه الإنسان لأسئلته وذاته والتزاماته تجاه الآخر غير كافية، لذا نحن بحاجة لاستخدام المعايير نفسها التي يعتمدها هذا العالم المادي في قراءة أهميتها.
تعرضت فصول المنطق للحذف تمامًا من مقرر الفلسفة الكويتي.
يقول أستاذ الفلسفة الكويتي محمد عبد الله (اسم مستعار) لمنشور، إن منهج الفلسفة بصورته الحالية في الكويت لا يعكس طبيعة هذا العلم: «نحن لا ندرس الفلسفة، بل هو منهج سطحي وناقص ومختصر بشكل مخل للفكرة، وعندما أشعر بأنني مضطر للاسترسال حتى تتضح الفكرة للطلبة، فإن هذا ممنوع،
إذ يُمنع المعلم من مشاركة الطلبة معلومات خارج المنهج الدراسي، مما يضطرني لتقديم استعارات بسيطة ومخلة أيضًا لتقريب معنى الكلام المكتوب في المنهج للطلبة»، موضحًا أن إلغاء المقرر بصورته الحالية أفضل من الاستمرار في تدريسه.
إن تراجع الإيمان بقيمة الفلسفة هو دون شك علامة على فقدان الأثر الذي يجب أن يمنحه وجودها في نظامنا التعليمي، فالمسألة ليست أكثر من حلقة ندور فيها، والحديث اليوم عن التخصصات الإنسانية العابرة للحدود يبدو متقدمًا بالنسبة لمجتمعات ما زالت ترى أن مناهج التفكير في العلم لا علاقة لها بالفلسفة، وأن التفكير النقدي ليس عتبة أساسية نحو التفكير في كل شيء من حولنا.
يخبرنا عبد الله أن مشرط الحذف طال منهج الفلسفة، إذ تعرضت فصول المنطق للحذف تمامًا من مقرر الفلسفة الكويتي، وأن سياسة الوزارة هي «سهِّل المناهج».
ويؤكد أن المنهج القديم من إعداد إمام عبد الفتاح الذي دُرس للطلبة منذ التسعينيات وحتى عام 2015 أفضل من المنهج الحديث، إذ يتعرض المنهج القديم لتفصيل مباحث الفلسفة، وكان الربع الأخير منه مخصصًا للمنطق.
وفي البحرين، يقول د. محمد المطوع المتخصص في التربية لمنشور: «يعتبر منهج تعليم الفلسفة في مملكة البحرين شبه غائب عن المناهج التعليمية الرسمية في مدارسها، ما عدا مقررين يتيمين في المرحلة الثانوية، هما مقرر مشكلات فلسفية والتفكير العلمي.
وبإلقاء نظرة على المقررين يمكن ملاحظة بعض أوجه القصور فيهما. أول هذه الأوجه هو مرور تسع سنوات تقريبًا على آخر تحديث لهذين الكتابين.
ثانيًا، وجود حشو للكثير من النظريات الفلسفية بشكل مبالغ فيه، مما يُفقد الطالب المتعة في قراءته بشكل خاص وفي تعلم الفلسفة بشكل عام.
هناك أيضًا غياب واضح للأنشطة والتمارين التحفيزية للطلاب، مثل عرض أمثلة واقعية أو سيناريوهات من الحياة اليومية، والتي يمكن من خلالها إيصال مفهوم نظرية فلسفية ما للطلاب.
- هل يحب الطلبة دراسة الفلسفة؟
غالبًا ما يرى طلبة المدارس أن الفلسفة غير مفيدة، أو معقدة على نحو لا يسمح لهم بالتطور داخل تخصصاتهم العلمية. هنالك جدل مستمر حول ما إذا كانت هناك أي فرصة للنجاح في التخصصات التقنية على سبيل المثال، دون امتلاك الأدوات والمهارات التي تتيحها المناهج الفلسفية المختلفة.
يقول محمد عبد الله إن مشكلة الطلبة ليست مع مادة الفلسفة فحسب، بل إن المستوى متردٍّ في كل المواد، وبعض طلاب السنة الأخيرة من المرحلة الدراسية لا يتقنون حتى القراءة. المشكلة ليست في قبول هذه المادة والتشابك معها في منظومة التعليم، التي يطلق عليها عبد الله صفة «الأمية» بكل عناصرها وأدواتها.
توضح سوبرينا إي سميث، وهي معلمة فلسفة علوم، أن العلم لم يكن ليوجد كما نعرفه اليوم دون الفلسفة. ولأنها تعرف أن الطلبة لا يعرفون لماذا يدرسون الفلسفة في العادة، خصوصًا طلبة التخصصات الأخرى.
فإنها تبدأ بإخبارهم كيف أن العلم يتقدم عن طريق «الاستقراء» وتعلم مهارات البحث العلمي وهي أشياء فلسفية، وكيف يمكن أن ننطلق من الأدبيات والتجارب السابقة لتقديم فروض حول ما لم يلاحظه الآخرون بعد.
وأن الطريقة العلمية ليست مفردة ومباشرة، بل هنالك خلافات جوهرية حول الشكل الذي يجب أن تظهر عليه المنهجية العلمية، وهذه القضية فلسفية ولها عواقب حقيقية على كيفية عمل العلم.
يعتقد الكثير من الطلبة الذين يحضرون دروس سميث أن الفلسفة غامضة، وتهتم بمسائل صناعة الرأي، في مقابل العلم الذي يعمل على اكتشاف الحقائق وتقديم البراهين الموضوعية.
من جهة نظر سميث، هناك مجموعة من الأسباب التي تجعل تعامل الطلبة مع الفلسفة على هذا النحو:
- نقص الوعي التاريخي، إذ يميل الطلبة للاعتقاد بأن التقسيمات الإدارية للتخصصات المختلفة تعكس الانقسامات الفعلية الحادة في العالم، فلا يمكنهم إدراك أن انقسام الفلسفة عن العلوم ما هو إلا إبداع بشري ديناميكي. لقد قُسمت العلوم اعتمادًا على الزمان والمكان والسياقات الثقافية التي مورست فيها.
- وجود النتائج الملموسة، إذ يحل العلم مشاكل العالم الحقيقي، فهو يمنح التكنولوجيا على سبيل المثال أشياءَ يمكن لمسها ورؤيتها واستخدامها. يمنحنا العلم اللقاحات والمحاصيل المعدلة والمسكنات، ولا يبدو أن الفلسفة تمنح الشيء نفسه، متجاهلين أن الملموسات الفلسفية موجودة بالفعل، فقد جعلت تجارب ألبرت أينشتاين تتحقق، كما أن أساس علوم الكمبيوتر ينطلق من منطق أرسطو، وقد مهد عمل الفلاسفة حول مشكلة العقل والجسد الطريق لظهور علم النفس العصبي، وبالتالي تكنولوجيا تخيل الدماغ. لطالما كانت الفلسفة تعمل بهدوء في خلفية العلم.
- يتعلق السبب الثالث بمخاوف الطلبة بشأن الحقيقة والموضوعية والتحيز، إذ يصرون على أن العلم موضوعي، وهذا الرأي مضلل، فجميعنا منحازون، وتحيزاتنا تغذي العمل الإبداعي للعلم.
قد يكون من الصعب معالجة هذه المسألة، لأن المفهوم الساذج للموضوعية متأصل جدًا في الصورة الشعبية لماهية العلم. وللاقتراب منه، تقول سميث: «أدعو الطلاب إلى النظر إلى شيء قريب دون أي افتراضات مسبقة، ثم أطلب منهم أن يخبروني بما يرونه.
يتوقفون مؤقتًا … ثم يدركون أنهم لا يستطيعون تفسير تجاربهم دون الاعتماد على الأفكار السابقة. بمجرد أن يلاحظوا ذلك، فإن فكرة أنه قد يكون من المناسب طرح أسئلة حول الموضوعية في العلم قد لا تعود غريبة للغاية».
- متى يجب أن تُدرس الفلسفة؟
بدأت حركة الفلسفة للأطفال (P4C) من البروفيسور ماثيو ليبمان، الذي أسس معهد النهوض بالفلسفة للأطفال في جامعة مونتكلير بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1974. يعتقد ليبمان أن الأطفال الصغار يمتلكون الأدوات اللازمة للتفكير العقلاني، وقد افتتح حركته بـ«اكتشاف هاري ستوتلمير»، وهي رواية ليبمان الأولى وأول رواية فلسفية للأطفال.
وجد هاري نفسه يعطي إجابة خاطئة في صف العلوم ويبدأ في التساؤل عن الخطأ، وسرعان ما تشمل تساؤلاته زملاءه في الفصل، الذين يفكرون معًا في طبيعة التفكير والاستفسار والمعرفة.
بمساعدة معلمهم، اكتشف هاري وزملاؤه قواعد المنطق كأدوات لمساعدتهم على فهم أنفسهم وعالمهم، وبمساعدة هذه الأدوات صاروا يتطرقون لمواضيع في التعليم، والعقل، والحقوق، والدين، والفن.
الجدل حول أهمية تدريس الفلسفة ومهارات التفكير الناقد في مدارسنا في الخليج ما زال في مراحله الأولى.
تقول سارة ستانلي، المعلمة المتدربة على طريقة P4C: «الفلسفة طريقة ومدخل للعلم والتعليم، وليست درسًا عابرًا». وتُعرف P4C على أنها طريقة لتحفيز الأطفال على مشاركة آرائهم وتحليلها بتفكير نقدي.
ننشر حساب بصيرة السعودي المهتم بالريادة في تعليم الفكر الفلسفي في العالم العربي، عبر إنستغرام فعاليات ورشة عمل أقيمت في معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام بعنوان «أفكار كبيرة» بقيادة داليا تونسي، أول معلمة سعودية متخصصة في فلسفة للأطفال.
يرى دكتور محمد المطوع أن مقررات الفلسفة يجب ألا تكون منفصلة وحدها، بل علينا دمجها ضمن المقررات الدراسية الأخرى، وخصوصًا مهارات التفكير الناقد.
هناك الكثير من التجارب الغربية الناجحة في تدريس الفلسفة حتى لأطفال الروضة، ويمكن الاستعانة بها وتحويرها لتلائم البيئة المحلية، وبعد ذلك تطبيقها على مناهجنا.
الخلاصة التي يمكن الوصول إليها هي أن الجدل حول أهمية تدريس الفلسفة ومهارات التفكير الناقد في مدارسنا في الخليج ما زال في مراحله الأولى.
فبدلًا من الحديث المعمق حول الاتجاهات الفلسفية وآلية تدريسها، وماهية الفلسفة وإمكاناتها في حياتنا اليومية، وإسهامات الفلسفة والفلاسفة في ترسيخ سياقات سياسية واجتماعية عبر التاريخ، ومركزية الفلسفة الغربية وطغيانها، ما زلنا نناقش ما إذا كان من المهم أن تدخل مقررات الفلسفة مناهجنا التعليمية، وحتى وإن حدث أن دخلت بالفعل، فنحن نتعامل معها بإهمال وتهميش مقصودين.
لعل آخر ما يمكن أن نقوله في نهاية هذا التقرير ما قاله لنا أستاذ الفلسفة الكويتي محمد عبد الله: «الطاقم التعليمي والجهات المسؤولة عن التعليم هي أيضًا بحاجة ماسة لتعلم مهارات التفكير الناقد».