سرديات

السرد الطبيعي وغير الطبيعي

إن ما قاد اتجاه «السرديات غير الطبيعية» إلى اختيار مصطلح «غير الطبيعي» لتمييزهم عن غيرهم من اتجاهات السرديات ما بعد الكلاسيكية هو ركوبهم على كتاب مونيكا فلوديرينك (1996) الذي جعلته تحت عنوان: «نحو سرديات الطبيعي»، منطلقة في ذلك من عمل ليكوف (1973) حول السرد المباشر، أو ما أسماه «السرد الطبيعي»، تماما كما نقول «اللغة الطبيعية». هادفة إلى تقديم دراسة معرفية.


لقد جعل هذا الركوب الجماعة، وكأنها تميز بين سرد طبيعي وآخر غير طبيعي. لقد ربطوا غير الطبيعي بالسرد الذي يبرز فيه الخارق والمستحيل الذي لا يمكن أن يوجد في العالم الطبيعي. ولقد وجدوا هذا السرد المضاد في الرواية التجريبية والأعمال ما بعد الحداثية.


إلى الآن لا يمكننا أن نعترض على الاختيار، ولا عبرة بالمصطلح لأنه سيتطلب النقاش والتدقيق. لكن الأدهى هو زعمهم بأن السرديات الكلاسيكية درست السرد الذي يتطابق مع الواقع، وبذلك ظلت حبيسة نظرية المحاكاة، ولم تهتم بما لا علاقة لها به، وبذلك تكتسب السرديات غير الطبيعية «شرعيتها» في تجاوز السرديات، وتقديمها نفسها بديلا يتعداها، ويعمل على تطوير إجراءاتها ومصطلحيتها، وموضوع بحثها.


فما هي العلاقة بين الطبيعي، والواقعي والمحاكاة؟ لا نجد جوابا عن هذا السؤال. فالتركيز منصب على السرد المستحيل ضد السرد القائم على المحاكاة والواقعية. لقد عملت مختلف اتجاهات ما بعد الكلاسيكية وهي تروم توسيع مجال السرديات الكلاسيكية، وتطويره من تدقيق موضوع بحثها، وتجديد النظر في المصطلحات الكلاسيكية.


لكن السرديات غير الكلاسيكية، وهي منبهرة باكتشافها «اللاطبيعي»، لم توضح لنا معنى المحاكاة، ولا ما هو الواقع؟ ولا ما هي الواقعية؟ إنها تنطلق في كل هذه المفاهيم من تصور بسيط وتجزيئي ومختزل، من جهة. ومن جهة أخرى تنطلق من مغالطة معرفية كبرى، وهي أن السرديات ظلت أسيرة نظرية المحاكاة، ومطابقة الواقع، والواقعية.


وظل هذا هو المبرر الذي اتخذته منطلقا لدعوى ابتكارها بويطيقا جديدة. وحتى هذه البويطيقا لم يقدموا لها أي تعريف، ولا تحديد، ولكنهم يدرجونها باستمرار كلمة بلا معنى ولا دلالة.


يبدو الخلل في هذه السرديات غير الطبيعية في أن أعضاءها غير متفقين على تحديد السرد غير الطبيعي. كما أنها أثارت نقاشات كثيرة من لدن من لهم دراية دقيقة بالسرديات، وأخص بالذكر مونيكا فلوديرنيك، وأن ماري لور.


تصدت فلوديرنيك لمفهوم «غير الطبيعي»، متسائلة: كيف هو طبيعيّ السرديات غير الطبيعية أو ما غير الطبيعي حول السرديات غير الطبيعية؟ بينما قدمت أن ماري لور ملاحظات وجيهة حول الإبدال المزعوم لهذا الاتجاه. لا أريد عرض هذه الانتقادات التي أتفق مع أغلبها، ويمكن للقارئ الرجوع إليها، وهي متوفرة في الفضاء الشبكي.


كما يمكنه أيضا التعرف على ردود الجماعة على هذه الانتقادات، أملا في أن نتعرف على طريقة وطبيعة النقاش العلمي الذي يعرفه العالم الآخر. ولكني سأخوض نقاشا آخر، يكشف زيف ادعاءات الجماعة حول السرديات الكلاسيكية بخصوص المحاكاة، والواقعية، ومطابقة الواقع.


إن المفاهيم الثلاثة أعيد النظر فيها في المرحلة البنيوية من لدن الروائيين الجدد، من جهة، والباحثين في الأدب من جهة ثانية. وكان هذا من بين أهم عناصر التجديد نظريا وعمليا الذي تحقق فعلا مع الإبدال العلمي الحقيقي، وليس المزيف.


ويكفي الرجوع إلى كتاب روب غرييه «من أجل رواية جديدة» (1963)، وخاصة الفصل الذي جعله تحت عنوان من الواقعية إلى الواقع، وكتاب «الأدب والواقع» (1971)، الذي شارك فيه بارت بدراسة حول «أثر الواقع»، وميكائيل رفاتير حول «الوهم المرجعي»، وفيليب هامون حول «الخطاب المقيد أو المحدود».


كما يمكننا النظر فيما كتبه دوميزيل حول «المحاكاة والعوالم الممكنة» (1988)، وهناك عشرات الكتب والدراسات التي تسير في اتجاه تجديد النظر في تلك المصطلحات من منظور بنيوي، ولا علاقة له بالتصور المختزل لدى الجماعة.


فمن أرسطو إلى أويرباخ ظل مفهوم المحاكاة والواقع ملتبسا وغير محدد، وكل الباحثين يؤكدون ذلك. وتذهب روزماري جاكسون في كتابها «حول الفانطازيا» (1981) إلى القول لقد نجح تودوروف في تحديد الفانطاستيك، وقدم تصنيفا له لا نجد من قام بمثله بخصوص «الواقع» الذي ما يزال يستدعي النظر والتدقيق.


قبيل نهاية الحرب الثانية، أي قبل ظهور البنيوية كان الحديث عن الواقعية والانعكاس، وتمثيل الواقع مهيمنا. هذه الهيمنة امتداد وتطوير لواقعية وطبيعية القرن التاسع عشر. كانت الواقعية تجسيدا لتصورات إيديولوجية عن الواقع والصراع الذي كان يدور فيه.


ولقد وصل ابتذال الواقعية مع الواقعية الاشتراكية التي جعلت الأدب تمثيلا للواقع وتعبيرا عنه من وجهة نظر خاصة. وحاولت البنيوية التكوينية تجاوز الهاوية التي وصل إليها تصور الأدب مع تلك الواقعية. وكانت الحرب الثانية إعلانا لميلاد تصورات جديدة عن الواقع والأدب والمعنى وغيرها.


وكانت الرواية الجديدة الفرنسية إعلانا لنهاية تلك التصورات التي تكرست حول الواقع منذ القرن التاسع عشر. وجاءت البنيوية لتدعم ذاك الإعلان بارتباطها باللغة، وقصر اهتمامها على دراسة الأدب والسرد من الداخل، رفضا لكل أوهام الواقعية والمرجعية الخارجية.


لا علاقة للسرديات الكلاسيكية بالمحاكاة، ولا بمطابقة الواقع، ولا للخضوع للتوافقات مع العالم الخارجي. إنها اهتمت بكل سرد، «طبيعيا»، كان أو «غير طبيعي» وفق إجراءات البحث العلمي، وكان الاستنباط منطلقها للدراسة والبحث، وليس الاستقراء الذي جعل غير الطبيعيين يصطادون الشواهد من النصوص السردية بحثا عما هو خارق فيها ومستحيل، وسيظلون يتعقبون النصوص أبد الدهر.


إن كل الانتقادات التي وجهت إلى السرديات الكلاسيكية، قديما وحديثا، تتلخص في أنها أقصت التاريخ، والواقع، والمرجع، واقتصرت على نص معزول عن «الواقع». ماذا يفهم أتباع السرديات غير الطبيعية من مقولة الشخصيات الورقية، وحضور الراوي، وتغييب المؤلف، وعدم الاهتمام بما هو خارج النص؟ أين المحاكاة؟ وأين التوافقات التي تدعيها الجماعة؟


لقد كان تودوروف في الحقبة البنيوية أول من نظّر للسرد الفانطاستيكي. فهل قاموا هم بهذا العمل فيما يخص السرد غير الطبيعي؟ ما هي أنواع هذا السرد؟ ما هي نصوصه؟ متى ظهر هذا السرد؟ وما هي الحاجة التي جاء ليلبيها؟ هذه الأسئلة لا يقدرون على طرحها.


لقد انطلقوا من أن السرد غير الطبيعي ظهر مع الرواية الجديدة، وما بعد الحداثية. ثم وسعوا دائرة البحث ليشمل كل الزمان والمكان، وكل الوسائط، وحيثما وجد السرد في الرواية والمسرح والسينما، وهلم جرا. وبذلك ستصبح السرديات غير الطبيعية متجاوزة ليس فقط الكلاسيكية ولكن كل الاتجاهات ما بعد الكلاسيكية لأن كل اتجاه صاروا يسطون على اختصاصه.


إن السرد التجريبي الذي انطلقوا منه هو الذي انطلقت منه البنيوية. وعلى أساسه تم التنظير للخطاب السردي، ومصطلحية السرديات الكلاسيكية هي التي يستعملها غير الطبيعيين.


كان تحديد «السرد غير الطبيعي» غير دقيق ولا ملائم، وهم يربطونه بالمحاكاة والواقعية. ولو انطلقوا من نوع سردي هو «السرد فوق الطبيعي» الذي له تاريخ وجغرافيا وأدبيات غزيرة إلى اليوم، وحاولوا تطويره في ضوء السرديات الكلاسيكية باعتماد تودوروف، لقدموا فعلا اتجاها ذا موقع وخصوصية.


اشتغلت في «القراءة والتجربة» (1985) بالتجريب في الرواية المغربية، فاستخلصت فيه كل ما يقدمونه على أنه «سرديات غير طبيعية»، ولو اطلع عليه ريتشاردسن لأضافه إلى قائمة منجزات «سردياته» العالمية.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى