سرديات

السرد غير الواقعي .. أقْلَمة نظرية عربية

تقترح الناقدة العراقية نادية هناوي رؤى نظرية عربية للسرد العربي القديم لا ترتكن للدرس الغربي، بل تُعنى باستعادة خصائص جرى تغييبها، وصودرت فاعليتها البنائية، وتَحَدَّد مجالها في الخرافة.


في الندوة التي أقامها افتراضياً، السبت الماضي، “مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية” في “جامعة قطر” بعنوان “أقْلَمة نظرية عربية… السرد غير الواقعي في المرويات التراثية”، طرحت هناوي ما يمكن عدّهُ خريطة طريق، تلَتها ردودٌ نقدية، وحتى سجالات ركّز جُلّها على إشكاليات اصطلاحية تتعلّق بالأقْلَمة والسرد غير الواقعي.


وفي المفتتح، عرضَت هناوي مرئياتها الأولية لهذا المشروع، مفيدةً بأن الأقلمة التي تريدها ليست منهجية مقارَنة، ولا مضاهاة وتشبيهاً لشيء بشيء، بل تعني مرْكَزة ما هو مهمّش وربط الأطراف بالأقطاب، بما يعطينا هوية سردية تدلّ على إنجازات أسلافنا، وتصبّ بدورها في صالح السردية العالمية، على حدّ قولها.

فالخرافة العربية، كما تتبنّى، هي ممّا امتاز به السرد العربي القديم في سِمة فنية تأسيسية أرست تقاليدَ وتركت أثرها عالمياً، وما زالت آثارها بيّنة في السرد عموماً.


  • تمثيل سردنا القديم

ووفق ورقتها، فإن غالبية الباحثين والدارسين الغربيين المعنيين بالسرديات ما بعد الكلاسيكية والمهتمّين بنظرية السرد يتجنّبون في تنظيراتهم تمثيل سردنا القديم، فتجدهم يعودون إلى القرون الوسطى وإلى نماذج روائية أوروبية بعينها، مثل سرفانتس (دون كيخوته)، وبوكاتشيو (الديكاميرون)، ومنهما ينطلقون إلى الرواية الأوروبية اللاحقة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بل حين يعودون إلى العصور القديمة لا يجدون سوى الملاحم والأساطير الإغريقية والرومانية.


وعليه، تستند “الوقفة الجادّة” عندها إلى استعادة المصنّفات التي تشكّل مكتبة ضخمة وذخيرة نفائس حكائية وتاريخية أثّرت في الأمم المجاورة وتسرّبت إلى أوروبا، وفي هذا نستفيد من ثورة تواصلية راهنة تقوم على الانفتاح واللاقطبية، لنعطي لسردنا مكانته ونستعيد ما فيه من تقاليد وبناء نظرية نقدية عربية.

غالبية منظّري السرد الغربيين يتجنبون سردنا القديم

وفي هذا الاستثمار تنظر هناوي إلى نظرية السرد غير الطبيعي التي قطعت أشواطاً في الغرب على يد ديفيد هيرمان وجان ألبر وبراين ريتشاردسون وغيرهم، ولم توطَّد مفاهيمها توطيداً تاماً، وما زال الباب مفتوحاً للاجتراح والتنظير، ما فتح الباب أمام الصينيين مثلاً لبدء مساعٍ نحو أقلمة سردهم ووضع نظرية له، فلماذا لا يكون الأمر كذلك لدى العرب ومنجزُهم لا يقل شأناً؟ ــ تتساءل.


  • غير الواقعي والخرافة

والسرد الحديث عرف العجائبية والغرائبية كما نظّر لهما تزفيتان تودوروف، لكن ما تريد الباحثة تسليط الضوء عليه ليس فكرة المحاكاة الأرسطية التي تعيد إنتاج الواقع، بل السرد غير الطبيعي الذي يستثمر اللامحاكاة في صنع واقع غير معقول وخرافي. والفرق كبير ــ كما تذهب ــ بين أن تعيد إنتاج شيء أو تخلقه بشكل جديد.

وبعد اطلاعها على ما كتبه منظّرو الغرب في السرد غير الطبيعي، قائلة إن أطروحتها غير مسبوقة في العالم العربي، فقد فضّلت بديلاً عربياً عنه هو “السرد غير الواقعي”، باعتبار أن الطبيعي (natural) وغير الطبيعي (unnatural)، لا يعطيان العمق المطلوب للتعبير عن الممكن والمستحيل، والواقعي وغير الواقعي.

ومقارنةً بالكشوفات الحديثة في جذور اللغة العربية والأصول الميثولوجية، فإن الفرصة متاحة لجمع السرديات التي أنتجت الخرافات والملاحم، مبيّنة أن كتاب “العرب والغصن الذهبي” لياروسلاف ستيتكيفيتش ذهب إلى أسطورة واحدة فقط عند ثمود بنى عليها استنتاجات مهمّة.

الخرافة ليست فعلاً بدائياً بل نشاط إنساني له فلسفته

فالتخييل غير الواقعي المطروح عند المتحدّثة عبارةٌ عن خرافة، لكنّها ليست فعلاً بدائياً، إنما نشاط إنساني له صلة بالفلسفة، مشيرة إلى تصوّر مبكر ــ في عقد الستينيات ــ لدى الباحثة المصرية نبيلة إبراهيم (1929 ــ 2017)، قالت فيه إن الإنسان حتى لو عاش في وسط حضاري، تبقى لديه حاجة للخرافة بسبب بحثه الموروث منذ القِدم عن الأمان الروحي.


  • استجابة الغربيين

وفي التعليق على ما استمع إليه الناقد الأردني إبراهيم السعافين، أستاذ الأدب العربي والدراسات النقدية، فإن الأطروحة “طموحة وذكية”، لكنّها أغفلت استجابة غربيين للسرد العربي، بدءاً من “التيجان في ملوك حِمْيَر” و”ألف ليلة وليلة” و”رسالة الغفران” وتأثيرها على دانتي في “الكوميديا الإلهية“، وكذلك “حي بن يقظان” وعلاقتها بـ”روبنسون كروزو” لدانيال ديفو، وروايات البيكاريسك التي تأثّرت بالمقامات والعيّارين والصعاليك والشطار، وبعد كلّ هؤلاء الكثير من الكتّاب ومنهم تشارلز ديكنز وعلاقته بـ”ألف ليلة وليلة” في رواياته الستّ، بل ونشره مجلة للأطفال مستوحاة من هذا الأثر العربي.

ومضى السعافين يقول إن جامعاتنا ومناهجنا ونقادنا يغفلون هذه الحقيقة ويصدرون عن رأي واحد قاطع بأن سردنا خالٍ من أي سرد ذي قيمة، مشيراً إلى أنه لدى عمله أستاذاً في “الجامعة الأردنية” وقف ضد مساق بعنوان “فنون ادبية حديثة” يقول إن حضارتنا خارج السرد، وإن سردنا ما هو إلّا فنون غربية مستنبتة في تربتنا استنباتاً.

وبدل ما تخلص إليه الباحثة في توطين مفاهيم خاصّة بهذا السرد تؤقلم النظر، يرى سعافين أن الأهم هو الالتفات إلى سردنا العربي القديم والإعلاء من مكانته ووضعه موضعه الصحيح دون البحث عن عناصره اللاعقلانية، “وإلّا سنخلع أنفسنا من زماننا ونستوطن زماناً قديماً ربما خضع هو نفسه للعقل والتأويل”.


  • “طريقة إنشائية”

وكان الناقد المغربي سعيد يقطين الأشدّ سجالية بين مناقِشي ورقة هناوي، فقد وصفها بأنها كُتبت “بطريقة إنشائية”، وهذه الإنشائية يعني بها أنها مقدّمة باعتبارها ورقة ذات مصطلحات كأنها نهائية من قبيل: الراوي والحكّاء والمتلقّي والعقل والواقع واللاواقع، بينما حقيقة الأمر أنه يُعاد النظر فيها عند الدراسات السردية الحديثة، لسبب واضح وهو أنها مصطلحات تكرّست في حقبة سابقة.

وتساءل عن المقصود بـ”الأقلمة”، فمنذ عصر النهضة ــ يضيف ــ ونحن نمارس الأقلمة، بوصفها انفتاحاً على الثقافة الغربية بهدف أخذ تصوّراتها ومرجعياتها ومحاولة تطبيقها على نصوصنا أو مغايرتها بصورة ما من الصور لكي نقول إننا نساهم في النظرية.

وقال إن ما ينبغي علينا هو أن نميّز بين الأقلمة والتكييف والمشاركة، وهذه الأخيرة هي التي نحن مدعوون إلى الانخراط بها، والمساهمة بها في التراث النظري العالمي، واستيعاب الفكر الأدبي الغربي بشكل نقدي جيد، وقراءة التراث العربي قراءة نقدية ملائمة، وليس عبر تطبيق جاهزِ النظرياتِ الغربيةِ عليها.


  • تحريف

وانتقد  يقطين ما سمّته هناوي “نظرية عربية لسرد غير واقعي”، إذ رأى أنه ليس إلا تحريفاً لإحدى النظريات التي ظهرت في سرديات ما بعد الكلاسيكية وسُميت “سرديات غير طبيعية”، وهي “أردأ” التصوّرات في هذا الحقل.

ونحن في مرحلة التأسيس لبلورة مثل هذا الوعي في سردنا القديم، فإن الحاجة ــ كما ينادي ــ ليست في الأقلمة ولكن في المأسسة التي تضطلع بها مؤسّسة أكاديمية علمية يشتغل بها باحثون متخصّصون لديهم معارف في السرد والاتجاهات النظرية المختلفة.

لكن نادية هناوي نفَت من عندها أنها قدمت في ورقة من ألفي كلمة مشروعاً يلمّ بكل شيء، بل طرحت تصوّرات ومفاتيحَ يمكن أن تُسفر عن خطوة إلى الأمام، لافتة إلى أن خريطةً للسرد العربي في مجال توطين وأجناس السرد لم تُفض حتى الآن إلى نتيجة قاطعة، وهذا وحده دافعٌ مهمّ يجعلنا نتمسّك بأيّ خيط نحو نظرية عربية.

وأعادت مجدّداً التأكيد على أن الأقلمة تعني محاولة استثمار الفرصة في النقد السردي في عالم منفتح نفيد منه، بعد أن كانت الدراسات الاستشراقية والمنطق الاتباعي الاستعماري سائدة.


  • خرق سردي

دخلت أسماء خوالدية من تونس ــ وهي الباحثة المتخصّصة في دراسات التصوّف ــ حقلاً مهماً من السرد العربي القديم، المتعلق بالكرامات، بادئة بالقول إن كلّ شيء ما هو إلا سرد، وما السرد إلا نوع من الخرق. وللباحثة كتابٌ في هذا الشأن بعنوان “الفكه في قصص كرامات الصوفية: بين التقديس والتحميق”. وفي مداخلتها استلهمت ما جاء به ابن عربي حين تحدث عن خرق العوائد في تناوله الكرامة والسحر والمعجزة.

والكرامة ــ كما توضّح ــ تنتمي إلى قطاع واسع من الإنتاج الثقافي العربي بقي مهمّشاً دائماً في نطاق ضيّق، إذ إن صاحبه يوصي بكتمانه والتحرّز عليه خشية أن ينفلت إلى الأغيار فيطّلعون على سرائره. وهنا، فإن كل مسرودة يكون لها الحظ في أن تنطلق من إطار ضيّق، لا أن تبقى كما هي في حالتها الأولى، بل تتضخّم وتتوالد المسرودات بقدر تواترها على الأذهان والأفهام، وبقدر طاقة التخييل.

وتبعاً لقراءتها ورقة هناوي، قالت خوالدية إننا حين نتحدّث عن أفق الانتظار والتلقّي وجماليات التجاوب بين القارئ والمقروء، تصعب النمذجة، لأننا نحاول أن نسيطر ونمنهج ما هو منفلت عن كلّ مثال، إذ كلّ إنسان له أنموذجه ومثاله، وبما أن كلّ نص حياة، فإن كلّ محاولة لنقل الحياة وتأطيرها في نظرية تُبخس حقّ المسرودة.

أمّا ما هو واقعي وما يشبه الواقعي، فتختصره بأن مجرد الكتابة، مهما كانت، هي انزياح من الواقع إلى التخييل، كأنها استعارة من الحكاية الأصلية.


  • قطبية عقيمة

هل المرويات غير الواقعية تخلو من الواقع؟ هل يعني السرد غير الواقعي وجود سرد واقعي؟ بهذين السؤالين بدأ المغربي محمد بوعزّة، أستاذ السرديات والدراسات الثقافية، قائلاً إن وضوح المصطلح شرط من شروط وضوح المشروع النقدي. والحال عنده أن السرد غير الواقعي الذي تقدّمت به الباحثة يثير الكثير من الالتباسات، ويضعنا في قطبية عقيمة وغير منتجة.

وساقَ مثالاً على ذلك متمثّلاً في “ألف ليلة وليلة”، فهو نصٌّ مزيجٌ من الخرافة والواقع، إذ نجد فيه إشارات إلى مدن مثل بغداد وشخصيات مرجعية مثل التاجر والصيّاد والملك ــ وكلّها لها وجود في الواقع.

وفي تصوّرات نقدية رجع إليها، فإن ثلاثية واقعي ــ تخييل ــ خيالي هي العوالم الممكنة التي نجدها في السرد الواقعي ونجدها في السرد الخرافي والعجائبي، بل إن الواقعية ذاتها هي نمط من التخييل.

ولدى الحديث عن السرد الخرافي، فهو أيضاً يتضمّن معقولاً، مستعيناً بسؤال الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913 –  2005): متى تصبح مجموعة من الأحداث نصّاً سردياً؟ والجواب: عندما يتمّ حبكها وإعطاؤها منطقها ومعقوليتها في كل سرد، سواء كان واقعياً أو خرافياً.


المصدر

محمد هديب

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى