الدراسات الثقافيةسرديات

صورة “المدينة” في “الأدب الروائي”

مجلة فكر الثقافية

تمثل المدينة العربية أبعادًا مختلفة اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وتجارية، وثقافية، فضلاً عن تركيبتها السكانية التي تختلف عن القرية والريف العربيين، فالتحديث والصناعة والنفط باتت ملامح رئيسة من ملامح المدن العربية في عصرنا الحاضر.


ولأنّ المدينة مرتبطة بالإنسان ارتباطًا قويًا فهي ذات علاقة بالأنساق الثقافية والمجتمعية، فالقاهرة مدينة أخذت شهرتها منذ القدم، وزادت من خلال تاريخ الدولة الفاطمية، واستمرت إلى يومنا هذا.


واستمرت هذه الشهرة والمكانة لتكون مقرًا ثقافيًا وفنيًا وسياحيًا، كما اشتهرت مدينة دمشق بتاريخها الحضاري، وتحديدًا الأموي، وكذلك اشتهرت مدينة بيروت بمكانتها الثقافية، أما بغداد فقد حظيت بالثقافة والعلم والتاريخ، وهذا ما يعني أنّ المدن العربية عامّة كانت ولاتزال تأخذ أنماطًا مختلفة في الحياة العامة، وشئون المجتمع والناس.


وفي المدن الخليجية، فقد تميزت المدن الكبرى بالجانب السياسي بوصفها عواصم لهذه الدول، أو بالمكانة التجارية والاقتصادية كما هي في مدن الموانئ، أو تلك التي حاولت أن تجمع الأبعاد المختلفة كما في مدينة الكويت والمنامة.


بالإضافة إلى الحالة الاستهلاكية لأبناء المجتمع الخليجي التي جعلت مطامح الناس تتزايد مع تزايد ميولهم وتطلعهم الاستهلاكي، في الوقت الذي يزداد فيه عدد السكّان والكثافة السكّانية في المكان الواحد.


كانت ولاتزال المدن العربية مكان توافد العرب من كل مكان لما لهذه الدول العربية من مقوّمات مشتركة من لغة، ودين، وبينة اجتماعية، وثقافية؛ لذلك راحت بعض العواصم العربية تأخذ شهرة كبيرة بين العرب، مثل: القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وتونس والمغرب وعمّان والرياض؛ لذا نرى الكثير من الروائيين يوظف هذه الأمكنة في الأعمال الإبداعية سردًا وشعرًا.


أغلب ما كتب عن المدن العربية كان إجماليًا، ولا تعكس واقعها الحي ونسيجها المتداخل، والمكان في الرواية العربية مستمد من الذاكرة أكثر مما هو معرفة أو معاينة مباشرة، وتبتعد الصورة الواقعية لتحل مكانها صورة مفترضة وتكون مزيجا من الرغبة والحلم والواقع، ولا يعرف إن كان الكاتب يتعامل مع مكان واقعي أو متخيل وما إذا كان يقصد هذه المدينة أو مدينة أخرى أو ربما مدينة متخيلة بالمطلق.


والرواية هي بنت المدينة، ولكن معظم الذين كتبوا عن المدينة العربية هم من الذين اتخذوها متأخرين موطنًا لهم فكانت نظرتهم إلى المدينة نظرة من الخارج تغفل عن الكثير، والمدينة عصية مغلقة تحيط نفسها بقشرة قاسية ولا تعطي أسرارها للوافد الجديد.


وهكذا نرى أن صورة المدينة في الرواية العربية ما تزال مشوشة غائمة لأنها مزيج من الريف والموقف الرافض، ولأنه لم يتم التقاط المفاصل الحقيقية أو المظاهر التي تشكل المعالم الأساسية، وما نحتاجه هو الحديث عن مدن الحاضر لا مدن الماضي والوهم.


إن المدينة في الرواية العربية نوعان: واحدةٌ واقعية تستدعيها الرواية من الواقع إلى اللغة، وأخرى متخيلة تصنعها الرواية باللغة وتُنزِلُها إلى الواقع. فالمدينة العمومية هي التي «قَصَدَ أهلُها الاقتصارَ على الضروري مما به قَوَامُ الأبدان»، فسِمتُها العامةُ هي التقشف الهندسي، والضيقُ، والتلاصقُ المُسبب لكل حالات التوتر والعنف الإنسانيين.


وهي مدينة لا تنظر إلى الأعلى، ولا تحلم بحاراتها وشوارعها وناسها إلا أفقيا، بل إن أحلامَها تزدحم دومًا بالكوابيس، وتسكنها فئةٌ من الناس أخلاقيةٌ مُهمشةٌ وآتيةٌ من الدواخل، هم في الغالب عُمالُ الحضائر، والباعةُ الجائلون، والطلبةُ، والموظفون الصغارُ، ورجالُ التعليم، والمطلقاتُ.


والمُتَدينون الجددُ، وأعوانُ الأمن الذين ليست لهم واسطة للعمل في الأحياء الراقية، «فيكون هؤلاء هم الذين يخدِمون ولا يُخْدَمون، ويكونون في أدنى المراتب، ويكونون هم الأسفلين» على حد وصف الفارابي لهم.


ولا نكاد نعثر في الرواية العربية إلا على مدينة صارت حاضنة لتفريخ كل شروط القلق والضغينة والمكر والخديعة والإرهاب وإفراغ البشر من ذواتهم، ومَحْوِهم إلى الحد الذي صاروا فيه مفاعيلَ تتظاهر بأنها فاعلةٌ على حد عبارة جاك لاكان.


ويبدو أن قارئَ مُدونةِ الرواية العربية لا يجد فيها مدينتَه على غرار ما يجد القارئُ الفرنسي أمكنةً ومعالِمَ من باريسِه، في رواية «أحدب نوتردام» لفيكتور هوغو، على سبيل المثال، حيث نهضت فيها مفرداتُ مدينة باريس العِمْرانية فاعلاً في الحدث السردي وموجهًا له.


بينما ظلت المدينةُ العربيةُ حاضرةً في الروايات أسماء باهتةً لمحلات وشوارعَ وأحياءٍ ومعالِمَ، وليست حاضرةً باعتبارها كيانًا يؤاخي كينونات الناس أو يمْكُر بها في الحدث السردي نفسه.


وعُرف كثير من الروائيين بفضاءات المدن التي كتبوا عنها و ارتبطت سيرهم بسيرها إن على صعيد الواقع أو حتى على صعيد التخييل. هكذا وجدنا أن كلا من الكاتبين الفرنسيين هنري بلزاك و إميل زولا يقدمان سيرة مدينة باريس من خلال كتاباتهما الروائية حولها ويجعلان منها قريبة من الوجدان العالمي.


كما وجدنا أن الكاتب الروائي الإيرلندي- البريطاني لورانس داريل ارتبطت كتابته الروائية بسيرة مدينة الإسكندرية من خلال رباعيته الروائية الذائعة الصيت والتي حملت اسم هذه المدينة تحديدًا .


في حين كتب الروائي التركي أورهان باموق عن المدينة التي ولد فيها، أي مدينة اسطنبول، في رواية حملت اسمها، وهي من بين أشهر رواياته،  كما حضرت فضاءاتها أيضًا في أغلب رواياته وفي مقدمتها روايته المعروفة “ثلج”, يقول باموق عن علاقته بالمدينة التي ولد فيها وعاش، وكتب عنها.


وذلك في كتابه الذي حمل اسمها: «إسطنبول- الذكريات والمدينة»: «كانت إسطنبول دائمًا بالنسبة لي، مدينة الخراب وسوداويّة نهاية الإمبراطوريّة.


وقد قضيت حياتي أحارب هذه السوداويّة أو أجعلها مثل أهل إسطنبول جميعًا، سوداويّتي».. نفس الأمر سنجده عند الكاتب الأمريكي بول أوستر الذي عشق مدينة نيويورك حتى النخاع وكتب عنها ثلاثية روائية قوية حملت عنوان “ثلاثية نيويورك”.


وقد استحضر فيها فضاءاتها لا سيما فضاء حي بروكلين الشهير، الذي نجد أنه قد استحضره أيضا في بعض رواياته الأخرى مثل رواية “حماقات بروكلين”.


وفي السياق العربي حظي المكان الروائي باهتمام كبير لدرجة أنه صار بطلاً في أعمال كثيرة، شكلت فيها ثقافة المكان بنية حيوية في النص الروائي، تخرج المكان عن إطاره الجغرافي. فالروائي لا يتعامل مع المكان بوصفه حيزًا جغرافيًا فقط بل بوصفه حيز إنساني في الأساس.



  • الرواية وصورة المدينة

صوّر الروائيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر المدينة. وكانت رواياتهم تحمل نبرة الهجاء لها، والشعور بالازدراء تجاهها وعدِّها موطن الخطيئة والرذائل والشر.


ولعل روايات أميل زولا وتشارلس ديكنز هي الأمثلة الأكثر تصويراً لمناخ المدينة الاجتماعي والثقافي في تلك الحقبة. فروايات ديكنز بخاصة ما هي إلاّ «مقالات عن عدم وضوح لندن وعسر استيعابها».


في المدينة التي بات مصير البشر يُحسم فيها تولّد الحنين لحياة الماضي الريفية والرعوية، فكان الأدب الرومانسي تعبيراً عن هذه الحساسية، إلى جانب أن المدينة الجديدة قد غذّت نزعة السخرية والتهكم.


وكما يقول أكتافيو باث؛ «ليس هناك سخرية في كتابات هومير أو فيرجيل. يبدو أن أرسطو قد بشّر بها، ولكن لم تتشكل السخريـة قبل مجيء سرفانتس»  ويستطــرد باث قائلاً أن «السخرية هي الاختراع العظيم لروح العصر الحديث».


  • المكان والمدينة

يرسم بعض الكتـّاب خريطة المكان بالكلمات، فيتوقفون عند معالمه الأساسية : الحارة الشعبية، الحي البورجوازي، الشارع، الساحة، الحديقة، السوق. ويتوقفون عند تضاريسه من جبال وأودية وسهول وبحار وغابات وأنهار. ويسلـّطون الضوء على مسكن الإنسان في المدينة : العمارة، البيت العربي الشقة، الحجرة، البهو، المكتب، المطبخ، الشرفة.


ويعيرون الأماكن العامة اهتماماً خاصاً لأن الناس يجتمعون فيها ويلتقون، فيصفون المقهى والنادي والمطعم ودار السينما والمسرح والمكتبة والمتجر والسوق. ولا يغفلون عن ذكر ترابطات الأمكنة، فيتكلمون عن الأبواب والنوافذ والأسطح.


ويحللون العلاقة بين المكان المغلق والمكان المفتوح، ويتلصصون على المكان الحميمي والسرّي. كذلك لا يفوتهم ذكر أدوات المكان وأثاثه، من مقاعد وطاولات وأسرة ولوحات وآنية ومكتبات بيتية.


وهناك تقاطعات كثيرة بين المكان والزمان، وتتعلق بقِدَم المدينة وحداثة سنها. فالمدينة القديمة المسوّرة لها سحرها وعبقها. كذلك ترتبط أسماء بعض المدن بمؤسسيها التاريخيين : الإسكندرية (الإسكندر المقدوني)، الإسماعيلية (الخديوي إسماعيل)، بور سعيد (الخديوي سعيد)… وترتبط بعض الساحات والأحياء إما بأحداث تاريخية وإما بهجرات جماعية حدثت في فترة ما.


  • رموز المدينة

لكل مدينة رمز أساسي تتسم وتتنمّط به. فهناك مدن طوباوية تكلـّم عنها الفلاسفة المثاليون، وسمّوها مدناً فاضلة (أفلاطون في كتاب “الجمهورية”، الفارابي في “آراء أهل المدينة الفاضلة”، توماسو كامبانيلاّ في “مدينة الشمس”…)؛ وهي مدن ملائكية تصبو إلى تحقيق الفردوس الأرضي. ولكنها مدن من نسج الخيال، لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار حركة التاريخ.


وهذه الحركة قائمة على الصراع والعنف، شئنا أم أبينا. وقد تندرج رواية “الرواية المستحيلة. فسيفساء دمشقية” (1997) لغادة السمّان في هذا السياق لأنها تخلق جواً تقديسياً ومثالياً لهذه المدينة ولبيوتها الشامية العتيقة.


وهناك مدن متاهية تخلق انطباعاً بالعبثية والسيزيفية. في رواية “الغرف الأخرى” (1986) لجبرا إبراهيم جبرا ترتسم أمامنا مدينة عجيبة غريبة تعجّب الأسرار والأحاجي، مدينة لولبية بشرها غريبو الطباع وشوارعها متداخلة ومعقدة ودغليّة تدفع إلى المغامرة والرهبة في آن.


وهناك مدن رجيمية ملعونة (سدوم وعمورة وبابل) تفوح منها رائحة الشرّ والفحش واللؤم والكيد والجريمة. يرسم عبد الرحمن منيف خطوط هذه المدن التي أصيبت بلعنة النفط في خماسيته “مدن الملح” (1984 – 1988).


أو تلك التي تعيش على هامش الأخلاق والصراط المستقيم كطنجة التي رسم محمد شكري خطوط قاعها ورأى أنه يعجّ بالمهربين والحشاشين والمومسات والهامشيين (الخبز الحافي،1979)؛ وأيضاً كبيروت التي وصفها توفيق عواد في روايته “طواحين بيروت”(1972) على أنها ماخور كبير أشبه برواية “نانا” لاميل زولا.


وهناك المدن الأسطورية التي لا وجود لها على الخريطة ولكنها ترمز إلى مدن عرفها وبلدان نعرفها، وربما ترمز إلى العالم بأسره. وراج إخفاء أسمائه اعند الكتـّاب، ربما للتحايل على الرقابة.


لقد كتب جبرا إبراهيم جبرا وعبدالرحمن منيف رواية مشتركة عنوانها “عالم بلا خرائط” (1982)، وتتكلم عن مدينة اسمها “عمورية” (وهذه المدينة غير موجودة الآن، وكانت موجودة فالعصر العباسي) قد تكون بغداد أو أية مدينة عربية، وقد تكون العالم العربي بأجمعه.


وتندرج في هذه التسمية أيضاً مدن اتسمت بالقدسية، كأن يقال “أنطاكية مدينة الله العظمى”، “القدس الشريف”، “مكة المكرّمة”، “المدينة المنورة”، “شام شريف”… وترسم رواية “قنديل أم هاشم” (1944) أجواء هذه المدن التي تراوح بين الدنيوي والمقدّس.


ولهذه المدن الأسطورية تداعيات كثيرة، منها ما يعود إلى ألف ليلة وليلة أو إلى السرديات العربية القديمة وأساطير الأولين والمرويات الجاهلية والسير الشعبية التي كان الحكواتي يتبارون في تزويقها وتنميقها.


وهناك مدن الذاكرة التي تحاول قوى الشرّ والاحتلال طمسها؛ ولكن كلما استأسدت في محاولتها هذه، كلما ازداد سكانها الأصليون التشبث بها وبجميع تفاصيلها.


ونجد مثل هذه المدن عند فواز حداد الذي استذكر دمشق في جميع مراحلها إبان القرن العشرين، وعند غسان كنفاني في روايته الرائعة “عائد إلى حيفا” (1969)، وعند غالب هلسا في “الضحك” (1970) و”ثلاثة وجوه لبغداد”(1984).


  • الراوية كعمل توثيقي

لعبت الرواية دورها التوثيقي للمكان وعمارته وعمرانه. فالتسجيل الزماني والمكاني يحول الرواية أحيانًا إلى فن فوتوغرافي، ولكن بصورة تتجنب جمود وبرود وأحيانًا حيادية الصورة الفوتوغرافية، لأنها على الرغم من توثيقها الزماني والمكاني.


إلا أنها تستعيد ديناميكيتها وحيويتها عندما تبدأ عملية التلقي. وعندما يتلقاها القارئ بتجاربه ومشاعره يبدأ في تفكيك الصورة، وإعادة بنائها ومزجها بما يريد من معاني.


وهنا يتحول العمل الروائي إلى كيان صلب حافظ لتاريخ مكاني أو إنساني. حقا تتعرض المدن والسياقات العمرانية والإنسانية بها للسحق والدمار ويبقى توثيقها المباشر في الصور الفوتوغرافية والأفلام الوثائقية، أو توثيقها الإنساني التحليلي المتجدد في الأعمال الروائية.


1 – هل لدينا مدينة روائية عربية ؟

2 – الكتابة الروائية و سيرة المدن

3 – الرواية المحلية وقاع المدينة

4 – “الرواية والمدينة” يستكشف أنماط علاقة روائيين مصريين بمدنهم

5 – الرواية السعودية تاريخها وتطوره

6 – الرواية السعودية منذ التسعينيات إلى الآن.. هل تخطت التحديات وفرضت نفسها؟


خاص لمجلة فكر الثقافية.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى