قبل أن يرحل طوافًا بُلدان العرب؛ أسَرَّها الأعرابي في نفسه! ثلاثة أعوام جلب فيها من نفائس حضارتهم، وهو ما ظل يطلعنا عليه طوال الرحلة.
وها قد قفل إلى البلاد، وكان أول أمره أن طاف بالبيت العتيق، ثم توجه إلى المدينة للسلام على رسول الله وصاحبيه، ووقف في البقيع. كأني بدواخل جنانه تنهض وراء خُطى ركائب حضارة جديدة نهضت من هذه الأرجاء، فعمت الأرجاء وبلغت العالمين.
ولا غرو وهو يعتلى الطريق الموصلة إلى الطائف مبتدرًا ناديهم «سوق عكاظ»، جالسًا بين شعراء المعلقات مستمعًا لشعر الأعشى ولبيد وزهير، والخنساء مصغيًا إلى ملاحظات النابغة الدقيقة على أبيات حسان.
كأني به – قبل ذلك – على جبل «التوباد» يواسي «قيس» في ليلى:
وأجهشت للتوباد حين رأيته
وهَلّل للرحمن حين رآني
وحول «جبل الريان» يستشعرًا الحنين في قول جرير:
يا حبذا جبل الريان من جبل
وحبذا ساكن الريان من كانا
وكأني به أيضًا ب «جبل «قاره»، ومنحدرًا من «أجا»، ائتدمه «الطائي» وروى له قصة «مصوت بالعشا» ابن مهيد، ليلتها احتبس الجليد مواقد النار فحال دون اشتعالها، لكن الأجداد سجلوا مواقفهم من التاريخ على أرض هذه البلاد من جزر فرسان إلى قلعة مارد.
وهاهو – صاحبنا – الأعرابي يُقلب العصور المتعاقبة على هذه البلاد العظيمة والرجالات، ويتابع ما نقلته القنوات التلفزيونية والمواقع الإخبارية العالمية، مبهورة تنقل موائد خادم الحرمين الشريفين للحجيج، وضيوف الحرمين – رحم الله الباني المؤسس الملك عبدالعزيز والملوك من بعده- وحفظ الله، الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع،
فأي المجد إلا ما كتبه الله لهذه البلاد في عهدهم الكريم الزاهر، وأي المجد إلا ما طالته الأرض والإنسان فيها، فكرًا وثقافة وحضارة، وعلى المستويات ومختلف الأصعدة كافة، ولك يا أعرابي أن تعلنها بعد أن أسررتها في رحلتك، وأنت اليوم في عاصمة بلادك.
أنخ «ذلولك» وسط الرياض، واستبصر حتى يوقظ الماضي ثراه.. صوّت لأجدادك الخاشعين بصمت، أصخ مِلء أسماعك يمينك وعن شمائلك مستبصرًا، مُد البصر وأطِل، تتطلع مجدًا محيطًا ببلادنا (المملكة العربية السعودية)، أول ابتداء بلا انتهاء ..
فعاجل الأعرابي مجيبًا: اليوم أصدح بالبيان عن أدب بلادنا ومجدها، دُونكم «الجزء الأول» من ملف ( الأدب السعودي)، ولن يخفى على ألبابكم أهمية استهلاله بالحركة الفكرية والفلسفية السعودية. على لسان الفيلسوف والمفكر السعودي شايع الوقيان.
بيَّن المفكر الفيلسوف السعودي «شايع الوقيان» أن الفكر المراد في هذه المقالة هو كل إنتاج ذي طابع عقلاني وعلمي ومنهجي. وهو نشاط يتخذ من الظواهر الإنسانية والاجتماعية موضوعاً له. ولضيق المساحة فإن المقال سيركز على الفكر العقلي والفلسفي. يمكن لنا أن نتبين ثلاث مراحل تاريخية مر بها الفكر السعودي، وكتب «الوقيان» في رصده وتتبعه للمراحل:
- المرحلة الأولى: الفكر في عصر التأسيس (النهضة)
تمتد من تأسيس الدولة السعودية إلى الستينيات الميلادية. وأبرز من يمثّل هذه المرحلة محمد حسن عواد (1902-1980) وعبد الله القصيمي (1907-1996) وحمزة شحاتة (1909-1972).
في عام 1926 كتب عواد كتابه (خواطر مصرحة) وهو لا يزال شاباً صغيراً، وأحدث الكتاب دوياً لم يخفت حتى الآن. كان عواد داعية تنويرياً في زمن لا تزال فيه بلادنا في طور التأسيس.
وشدد على ضرورة حرية الفكر والتعبير وإلى تحطيم أصنام التقاليد والتبعية العمياء للأسلاف ودعا لرفع الظلم عن النساء وأن تخرج إلى سوق العمل والمشاركة يداً بيد مع الرجل.
كان يرى أن الحرية هي دستور الحياة العصرية. والحرية ينبغي أن تبدأ بتحرير العقل من الأوهام والخرافات. يقول «فنلصف حسابنا مع أنفسنا قبل أن نقع تحت رحمة الغير». وهذا يؤكد على أن النهوض بالوعي هو أساس الحضارة وقوتها.
وفي عام 1938 نشر حمزة شحاتة محاضرته الشهيرة (الرجولة عماد الخلق الفاضل). فأثارت ضجيجاً لا يقل عمَّا أثارته خواطر عواد. وهو كعواد داعية تجديد ومحارب شرس للتقليد سواء في الأدب أو في الحياة الاجتماعية.
وفي محاضرته هذه مارس نقداً تفكيكياً عميقاً للمفاهيم الأخلاقية كالصدق والشجاعة والتواضع والحياء، كاشفاً عن أصولها الاجتماعية. ويرى كذلك أن الرجولة هي منبع الأخلاق من قوة وحق وعدل. وهو هنا يقترب من أخلاق الفضيلة عند أرسطو الذي يراهن على المرء الفاضل وليس على الأفعال عينها.
وكذلك من أخلاق القوة عند نيتشه؛ فالإنسان المتفوق (السوبرمان) عند نيتشه يقابل الرجل الفاضل عند شحاتة ولاسيما في اعتباره مصدر الفضيلة.
أما عبد الله القصيمي فقد كان في الوقت الذي ازدهر فيه عواد وشحاتة مناضلاً عن الفكر السلفي وألف عشرات الكتب والرسائل دفاعا عن الدعوة النجدية. لكنه سرعان ما بدأ في التغير، وخاصة مع كتاب (كيف ذل المسلمون؟) عام 1940 ثم مع كتابه (هذي هي الأغلال) عام 1946.
القصيمي أشبه بعاصفة هائجة لا تترك شيئا تمر به إلا وقد خلفته ركاما. فبدأ بانتقاد الثقافة التقليدية والمذاهب الدينية المتحجرة – حسب رأيه – فقدم تأويلاً عقلانياً للدين ونادى بالعلمانية كسبيل للنهضة العربية.
في كتاباته اللاحقة بدأ ينفصل شيئاً فشيئاً عن الفكر الديني واتصل بالمعارف والعلوم المعاصرة واطلع على نظريات التطور والفكر العلمي، ومارس نقداً حاداً للحضارة العربية، وصار أشبه بـ «دون كيخوته» العرب؛ فهو يحارب أشياء نراها حينا وأخرى لا نراها. وأفكار القصيمي مبعثرة بسبب أسلوبه الناري المدمر! لن نعرف قيمة أفكاره جيدا حتى يتصدى لكتاباته من ينظّمها ويحررها من التكرار والمزاجية الحادة.
- المرحلة الثانية: الفكر في عصر التنمية (الحداثة)
تمتد من السبعينيات حيث بدأت الخطط التنموية إلى التسعينيات وحرب تحرير الكويت. وتفصيلًا حول هذه المرحلة، كتب المفكر «شايع الوقيان»: هذه المرحلة شهدت بروز تيار الحداثة الأدبي، لكنه أثار جدلاً اجتماعياً كبيراً بعد ما انخرط في سجال أيديولوجي مع دعاة الصحوة (حركة متأثرة بالإخوان المسلمين في مصر والشام).
ويذكر «عبد الله الغذامي» أن الحداثة أصبحت موضوعا يتناوله الجميع عام 1985 وأضحت حدثاً اجتماعياً بارزاً. وبحسب تعريفه هي التجديد الواعي؛ فهي وعي في التاريخ وفي الواقع. كما يرى أنها منسجمة مع مشروع التحديث الذي تقوم به بلادنا منذ تأسيسها.
والفكر الحداثي السعودي عموما يدعو إلى نمط من التفكير العقلاني العلمي وإلى التجديد في الأدب واللغة والمجتمع. وقد ارتبطت بها مفاهيم سلبية في المخيال الشعبي مثل التغريب والعلمنة. ولكنها مجرد تهمة أطلقها خصومهم.
من أبرز رواد الحداثة (عبد الله الغذامي وسعيد السريحي وغازي القصيبي ومرزوق بن تنباك ومعجب الزهراني) وغيرهم.
- المرحلة الثالثة: الفكر في عصر العولمة (الليبرالية)
وكتب «الوقيان» المرحلة الثالثة تمتد منذ بدايات القرن الحادي والعشرين إلى يومنا هذا، رغم أن المصطلح بدأ يتلاشى خاصة مع الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها بلادنا اليوم.
ربما أن الفكر الليبرالي السعودي أقل أكاديمية من بقية التيارات السابقة، لكنه ذو أثر عظيم جدا في تحرير الوعي الاجتماعي من كثير من القيود، ونشر خطاباً إنسانياً عقلانياً نقدياً عاماً.
والفضل في انتشار الفكر الليبرالي يعود لظهور الإنترنت ومنتديات النقاش الفكري. والفكر الليبرالي ذو ارتباط بتيارات فكرية أخرى معاصرة له مثل التيار الإسلامي العصراني والفكر العقلاني التنويري.
ويعد تركي الحمد من أبرز المفكرين الليبراليين السعوديين، ازدهر في آخر مرحلة الحداثة، رغم أنه كان في السبعينات من عمره اشتراكياً قومياً. أحدث الحمد دويا هائلا في أوساط الثقافة السعودية عندما نشر ثلاثية (أطياف الأزقة المهجورة) (1995-1999)، وأتبعها بعد ذلك بمقالات فكرية وسياسية تدعو إلى العلمانية والتحرر الفكري وإعادة قراءة التراث بشكل عقلاني.
أبرز كتبه الفكرية (من هنا يبدأ التغيير) و(السياسة بين الحلال والحرام). يشدد الحمد على ضرورة الحرية وأنها تتلخص في شعار «أنت حر ما لم تضر».
ومن أبرز المفكرين الليبراليين إضافة للحمد: فالح العجمي الذي اشتغل على نقد التراث والثقافة من منظور ليبرالي، وسعد الصويان الذي يعالج التراث الشعبي معالجة علمية دقيقة ويدعو إلى تحرير النص الديني من القراءات التراثية وإلى أن قداسة النص الديني لا تنسحب على النصوص التأويلية.
«وتابع» أذاع الليبراليون في الثقافة السعودية مفاهيم أصبحت اليوم مألوفة كحرية التعبير وحقوق المرأة والحرية الشخصية وتعدد التأويلات، وكانت لهم ولا تزال مطالب أساسية تتمثَّل في منح الحقوق للأفراد خاصة النساء والأطفال.
وبموازاة هؤلاء المفكرين ظهرت طائفة من الكتاب الذين أحدثوا أثراً كبيراً، وأقصد بهم الكتّاب المتحولين؛ إذ كانوا في الأساس دعاة ووعاظا وطلبة علم دينيين فتغيروا تدريجياً ليكونوا أبرز أعلام الصحافة الليبرالية اليوم. وأشهرهم منصور النقيدان وعبد الله بن بجاد ومشاري الذايدي وخالد الغنامي.
في إطار الفكر الليبرالي ظهر اهتمام بين أوساط الشباب بالفكر الفلسفي وخاصة بعد ذيوع أفكار فلاسفة ليبراليين مثل جون لوك وفولتير وروسو وكانط وغيرهم. وسوف نختم به هذه الرحلة القصيرة.
- الفكر الفلسفي السعودي البدايات:
وقال «الوقيان» الفلسفة بوصفها علما قائما بذاته غائبة تماما عن المشهد الفكري السعودي منذ التأسيس إلى عهد قريب. والسبب يعود لسيطرة فكر محافظ على الثقافة وعلى التعليم. وغياب الفلسفة عن التعليم العام والعالي له دور مهم في هذا افتقار ثقافتنا للفكر الفلسفي.
لكن هناك محاولات فردية بسيطة حاولت تقديم الفكر الفلسفي عبر المقالة الصحفية وعبر الكتب. فإذا استبعدنا الفيلسوف الشيعي أحمد الأحسائي (ت. 1862) لأن المقال مقتصر على الدولة السعودية الثالثة، فإن أبرز من اشتغل في الفلسفة هو الفقيه أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، فكتب كتيبا صغيرا عن ديكارت بعنوان (ديكارت بين الشك واليقين) 1971، وكتب عن إنتاج الفارابي وابن سينا الفلسفي.
وكذلك المفكر السوري ذي الأصل السعودي أحمد الشيباني وقد اشتهر بترجمته لكتب كانط (نقد العقل المجرد) و(نقد العقل العملي) وغيرها من كتب. أما حمد المرزوقي فله كتاب بعنوان (إشكالات فكرية) عن ديكارت وكانط وهوسرل وغيرها من موضوعات فلسفية. ولميجان الرويلي كتاب بعنوان(قضايا نقدية ما بعد بنيوية) 1996 وبسط فيه كثيرا من آراء جاك دريدا.
- حلقة الرياض الفلسفية:
تأسست حلقة الرياض الفلسفية عام 2008 وهي نتيجة للتطور الفكري والاجتماعي الذي بدأ مع الليبرالية والتنوير المعاصر. ولا تزال الحلقة فاعلة ومتصلة بالمجتمع الفكري السعودي. وقد ألهمت حلقة الرياض بقية المثقفين في مناطق المملكة الأخرى، مثل إيوان الفلسفة في جدة، وملتقى السلام الفلسفي في نجران، ومنتدى الفكر في المدينة، والرواق الفلسفي في حائل، وغيرها.
من أبرز الكتاب في الفكر الفلسفي المعاصر فهد الشقيران المنتمي إلى فلسفة ما بعد الحداثة خاصة فلسفة الاختلاف وقد انخرط في نقاش عميق مع هابرماس ودريدا وبودريار وعلي حرب وغيرهم. للشقيران كتابات متنوعة ومنشورة في الصحف والمجلات، وقد شارك في تأليف كتاب (حال الفلسفة في العالم العربي) عام 2016 الصادر عن اليونسكو.
أما عبد الله المطيري فهو من أهم فلاسفة الأخلاق في السعودية، له نشاط كبير في هذا الصدد. وكثمرة لاشتغاله على دور الأخلاق في التربية ترجم كتاب غيرت بيستا الشهير (الخطر الجميل في التربية) يصدر قريبا. إضافة إلى عنايته بموضوع الضيافة بوصفها أفقاً يمكن أن تنهض عليه أخلاق إنسانية تتكشف فيه آخرية الآخر؛ الآخر الذي هو مقوم أنطولوجي ضروري لمفهوم الأنا ولمفهوم المسؤولية الأخلاقية.
وأما سليمان السلطان فهو يشتغل على الفكر الأنطولوجي والفينومينولوجي. وللسلطان بحوث كثيرة في هذين الحقلين مثل (نقد النفسانية: مدخل إلى المنطق المحض لدى هوسرل)، إضافة إلى الكتابة في فلسفة الفن وفي موضوعات اجتماعية من وجهة نظر فلسفية مثل (فلسفة الضحك لدى المجتمع السعودي). ويرى السلطان أن السؤال الفلسفي هو سؤال عن المعنى وبالتالي عن القيمة.
ويتفق يزيد بدر مع السلطان في الاهتمام بفلسفة الفن لاسيما فلسفة الفن عند هيجل. ويؤكد بدر رفضه الدائم للميتافيزيقا ويطرح بديلاً عنها ما يسميه «الذرية الفوضوية» وهي مذهب منسجم مع فكر ما بعد الحداثة الذي يرفض إقامة أي نسق متعال على اللغة والتفاعل الاجتماعي، ويقر بأن الكثرة والتنوع التي تصف العالم لا يمكن اختزالها إلى أصول ثابتة وموحدة.
أما – كاتب هذا المقال – فمن الكتاب الذين أولوا اهتماماً بالفكر الأنطولوجي والفينومينولوجي عند هوسرل وهايدجر، نشر كتابين فلسفيين (الفلسفة بين الفن والأيديولوجيا) عام 2010 هاجم فيه الأنساق الفكرية الشمولية التي تنهض على منطق المماثلة والكليانية وليس منطق الاختلاف والفرادة.
وكتاب (قراءات في الخطاب الفلسفي) 2011 وفيه يدخل في حوار مع الفلاسفة القدماء والمعاصرين. ومؤخراً أصبح أكثر ميلاً – للفكر العقلاني- الواقعي الجديد، وله أطروحة بعنوان (موت الواقع في فكر ما بعد الحداثة) وستنشر في موسوعة فلسفية مخصصة للحداثة وما بعد الحداثة.
خارج إطار حلقة الرياض الفلسفية – قال شايع الوقيان- هناك كتابات فلسفية أو ذات طابع فلسفي يمكن تلمسها في الدراسات الثقافية والحضارية لسعد البازعي وميجان الرويلي لفلسفة دريدا، كما تجلت في كتابه (جاك دريدا: نحو الكتابة) 2015.
ولا تزال الكتابات الفلسفية والمقالات العقلية تتوالى في الصحف والمواقع الإلكترونية، وتعد مجلة «حكمة» الإلكترونية، أهم موقع فلسفي سعودي على الإنترنت.