فكر وفلسفة

ماذا تبقى من ماركس؟

ماركس، مختبر خطير، ووعد جميل، واسم غامض يخفي في تجاعيده العميقة ثلاثة ملامح متناقضة: ماركس “البطل” و ماركس “الكارثة” وماركس “الضحية”. فماركس “البطل” هو ذاك الذي أهدى الى الفقراء حلما كبيرا بإمكانية تغيير العالم لصالحهم .

و ماركس “الكارثة” هو ذاك الذي تحوّل اسمه الكبير تشريعا فاشيا تحت راية ستالين حيث سُفكت الدماء و اغتيلت الأحلام الثورية و تحوّل حلم المحرومين الى كابوس للثورة المغدورة .

وماركس “الضحية”هو الذي وقع اغتياله مرّات عديدة في أسماء أخرى هي أسماء الذين انتسبوا اليه دفاعا عن حقوق المعدمين و المسحوقين و المهمّشين ، منذ اغتيال روزا لكسمبورغ (1871 -1919) المنظّرة و الفيلسوفة الماركسية بولندية الأصل سنة 1919 ،الى اغتيال تروتسكي سنة 1941 ، ثمّ تشي جيفارا سنة 1965 .

و من الماركسيين العرب نذكر خاصّة اغتيال مهدي عامل و حسين مروة سنة 1987 و أخيرا اغتيال شكري بلعيد سنة 2013. بالإضافة الى اضطهاد و سجن العديد من كبار الماركسيين و الما بعد ماركسيين مثل غرامشي و نيغري ..

اسم ماركس يخفي أيضا في حروفه الغليظة ثورات كبرى وشعوبا عبرت تحت رايته الى زمن آخر. منذ الثورة البلشفية (1917) الى الثورة الكوبية (1959) الى الثورة الفنزويلية (1999) الى الثورة الصينية (1949)..
الماركسية عنوان لنظرية كبرى صارت الى لحظة أساسية من لحظات الثقافة الحديثة.

لا أحد يمكنه تصوّر القرن العشرين دون اسم ماركس الذي يُسجّل كلّ يوم بطريقة مغايرة في الدفتر الكبير للعقل البشري للإنسانية الحالية . لكن ماذا يمكن أن نقطف من هكذا عنوان كبير؟

عن هذا السؤال الثقيل يمكننا أن نقدّم إجابة خفيفة مؤقّتة نختزلها في أربع قضايا أساسية هي ما تبقى من أطروحات ماركسية في ذهن الماركسيين أو أشباحهم أو أشباههم أو أعدائهم :

1-“لم يفعل الفلاسفة الى حدّ الآن غير تفسير العالم في حين كان عليهم العمل على تغييره” .(الأطروحة رقم 11 من أطروحات ضدّ فيورباخ التي نشرها انغلز سنة 1888).

2-“ليس وعي الناس هو الذي يُحدّد وجودهم الاجتماعي بل انّ وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدّد وعيهم”(الايديولوجيا الألمانية ،القسم الأوّل 1846).

3-“لم يكن تاريخ المجتمع الى يومنا هذا سوى صراع الطبقات” (بيان الحزب الشيوعي).

4-“انّ الدين زفرة المخلوق المضطهد ،روح عالم لا قلب له ..انّه روح الظروف الاجتماعية التي طُرد منها الروح ..انّه أفيون الشعوب”(حول الدين،ماركس و انغلز).

لقد أثارت هذه الأطروحات في أذهان المنظّرين الذين اشتغلوا تحت راية الماركسية طيلة القرن العشرين و بخاصّة بعد فشل الثورة البلشفية على يد ستالين جملة من المشاكل ممّا دفع بهم الى تجديد الترسانة المفاهيمية للنظرية الماركسية، امّا بإصلاحها أو إعادة بنائها أو إثرائها أو تجذيرها .

و أهمّ هذه المفاهيم هي مفهوم الثورة ( روزا لكسمبورغ التي تتكلّم عن المسار الثوري العفوي)، ومنزلة البنية الفوقية، و ضرورة مراجعة نظرية الانعكاس ( ماركوز،و هابرماس و فوكو )..و مفهوم الطبقة ( رنسيار ونيغري ) و مهمّة المثقّف ( غرامشي و فوكو ) و نظرية الدين الأفيون ( روجي غارودي و زيزاك ).

و لقد تمّت هذه المراجعات النقدية للنظرية الماركسية منذ روزا لكسمبورغ و تروتسكي (الجيل الأوّل) ثمّ مع مدرسة فرنكفورت (لوكاتش و ماركوز، الجيل الثاني) وغرامشي و ألتوسير(الجيل الثالث ) وصولا الى ما بعد الماركسيين أي هابرماس و فوكو و باديو و رنسيار و زيزاك و نيغري.

وهي إصلاحات (مع روزا و تروتسكي ) و تجديدات (مع لوكاتش و ألتوسير و غرامشي) و تجذيرات مع هابرماس و فوكو و رنسيار و باديو و زيزاك و نيغري.

في ظلّ الامبريالية المتوحّشة و الأجندات المافيوزية و شبكات الارهاب العالمية ، من لازال بوسعه أن يطمئنّ الى تشخيص قارّ لما يحدث في العالم الحالي ؟ من لازال بوسعه أن يعتقد في ثنائية المادّة والوعي و في جدلية الواقع و الايديولوجيا و في يوطوبيا التغيير الجذري للعالم؟

هل ما يزال “الدين أفيونا للشعوب” في عصر كفّ فيه عن أن يكون “زفرة المظطهد” كي يتحوّل فيه الى أداة سياسية لإرهاب الشعوب و مساومتها على علاقتها بالله و السطو على ضمائر البشر ؟

ربّما لا شيء تبقى من ماركس غير أشباحه . لأنّ “الشيوعية –هي نفسها -شبح يسكن أوروبّا”.هذه الجملة لماركس أنجبت تحت قلم دريدا كتابا كاملا حول مصير الماركسية في القرن العشرين ،كتاب اتّخذ من نبوّة ماركس عنوانا له .أشباح ماركس (1993) كتاب ماركسي في معنى تفكيكي طريف جدّا .

سُئل دريدا سنة 1997“هل أنّ كتاب أشباح ماركس هو عودة الى ماركس ؟” فأجاب :“..هذا الكتاب هو كل شيء ما عدا”عودة الى ماركس ..إعادة إثبات ماركس معيّن أو روح ما لماركس.

بل في هذا إشارة سياسية، مسؤولية لا تكمن بخاصّة في إعادة إحياء ضرب من “الماركسية”من أجل إنقاذ أو تأهيل فقيد ما،بل على العكس من ذلك ، علينا أن نبقي على مسافة نقدية ازاء كل أشكال الدغمائية التي تسطو على التقليد الماركسي.

وفق تشخيص دريدا ، ثمّة نوع من “العنف التاريخي” على اسم ماركس ،عنف تمارسه الامبريالية العالمية التي تحلم بتكنيس الماركسية كخيار اقتصادي و سياسي مغاير لطابعها الوحشي .و ذلك من أجل أن تترك العالم فارغ الأيدي أعزلا تماما ازاء الأمر الواقع :لا شيء غير الامبريالية.

في هذا السياق يذهب دريدا الى تشخيص نوع من “المؤامرة الكبرى”، مكيدة تُحاك ضدّ الماركسية ،بل خوف وغمغمة ازاء كل الذين يشتغلون تحت ضرب من الماركسية الخفية أو الجانبية أو الزائفة ،أولئك الذين يحتمون من اسم ماركس بين ظفرين أو هلالين، أو أولئك الذين يمرّون به دون ذكر اسمه .

يقول دريدا : “ثمّة اليوم في العالم خطاب مهيمن ..حول مؤلّفات ماركس و فكره ..انّ ماركس قد مات بنظريّاته و براكسيسه..تحيا الرأسمالية ..يحيا السوق ..تحيا الامبريالية الاقتصادية .”

كيف تعيش الامبريالية موت ماركس؟ أيّ مشهد حداد ارتضته له ؟ ثمّة نوع من التواطؤ بين المسرح و السياسة، لأنّ الامبريالية ركح مسرحي كبير لا يزال مسكونا بأشباح ماركس.

فمن هم يا تُرى أطفاله الشرعيون و من هم أشباحه المخيفون ؟ و من يمكن له اليوم أن يرث ماركس؟ أي من يمكنه أن يحتمل الحياة في جلد شبح يتأرجح بين الموت و الحياة ؟ و من يمكنه أن يحيا في جسم لقيط ؟ مات ماركس مثلما مات المسيح .

لكنّ المسيح مات كي تستمرّ المسيحية من بعده .فهل أنّ موت ماركس هو أيضا علامة لاهوتية على استمرار الماركسية من بعده .. موتات طويلة الأمد و ارث صعب الاحتمال ..لكن ما معنى أن يكون مفكّر ما وريثا لماركس ؟ و ما الذي يمكن أن نفعله بهكذا ارث ؟ انّ الارث ههنا لا يعني وفق عبارات دريدا “ملكية ما أو ثراء نغنمه و نودعه الى البنك ،

بل هو إثبات نشيط و انتقائي ،يمكن أحيانا إعادة إحيائه أو إعادة إثباته من طرف ورثة غير شرعيين أكثر من إعادة إثباته من طرف ورثة شرعيين”.. دريدا يعلن عن نفسه طفلا غير شرعي لماركس.

ماذا فعل بهكذا ارث ؟ ما فعله دريدا بالماركسية هو التفكيك كشكل غير شرعي لممارسة الفكر الشيوعي ..بلبلة نظام النصوص الغربية من أجل زعزعة الخطاب النيوليبيرالي بدفعه الى حدوده القصوى بوصفه خطاب “الرداءة” الى حدّ “الفجور”.

خطابا يستسلم للتناغم بين السوق و الديمقراطية ،سوق الديمقراطية الليبيرالية بكلّ البضائع التي تريد تسويقها من قيم الحريّة الى الارهاب.. من العلامة اللسانية الى جهاز الدولة ..

و من النفط الأسود الى الله ..ما نرثه من ماركس ليس الماركسية بل روح ما لماركس ، روح النقد و الرفض و العصيان ..روح التمرّد و روح التحليل و روح الوعد ايضا ..انّنا على حدّ تعبير دريدا إزاء “ماركس المكتظّ بالوعود ..ماركس اللامنتهي.

هذا الماركس غير القابل للإنهاك ..و الذي يعلم جيّدا رغم ذلك أنّه قد مات فعلا” ..لا يتعلّق الأمر اذن بأيّ عودة الى الماركسية و لا بأيّ بكاء أو مالنخوليا أو حزن عليه ..

لكن ما بقي من الماركسية هو “درس ما ..طريقة من أجل ألاّ نستسلم ثانية لرأس المال”..لا أحد يجهل أنّ طبيعة رأس المال قد تغيّرت و “لا أحد بوسعه أن يقول”أنا ماركس الاّ على نحو تخييلي“و رغم ذلك ..كم من الثورات لا زالت بعدُ ممكنة في طيف ماركس ؟

و كم من الأطفال الشرعيين و غير الشرعيين سيولدون في حديقته ؟ كم من مرّة سيقول العقل البشري” نعم للحلم الكبير ..نعم للفقراء ..أسيادا للعالم ..” ؟ لا للهيمنة على مصير الشعوب.

سنكتفي هنا ببعض اللحظات النظرية النموذجية لمفكّرين مناضلين ساروا في الوجهة التي خطّها ماركس منذ ما يناهز عن القرن و نصف القرن من أجل استعادته أو نقده أو تجاوزه لحظات وقّعها على التوالي روزا لكسمبورغ و ألتوسير و هابرماس و رنسيار و نيغري و فوكو و ألان باديو وزيزاك ..

بقلم: أم الزين بنشيخة المسكيني.

أم الزين المسكيني

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى