فكر وفلسفة

التقابلات الإيديولوجية بين الماركسية والليبرالية عند عابد الجابري (1)

قراءة نقدية في السياق المفهومي والفلسفي

شكَّلَ محمد عابد الجابري حالة نادرة من التفاعل الواعي مع المرجعيات الإيديولوجية الكبرى، كالماركسية والليبرالية. دون أن يقع أسيرا أو خضما لأيٍّ منهما، فقد ظل قارئا وناقدا منضبطا بمحدداته الفكرية وأداوته المنهجية التي يرى أنها تتوافق وتنسجم مع البيئة والثقافة والتاريخ والتراث العربي الإسلامي، بعيد عن غواية واستلاب النموذج الغربي الذي وقع أسيرا له عدد من المفكرين والفلاسفة العرب.

فعلى مستوى الماركسية؛ عاش الجابري تجربته الخاصة والغضة في مرحلة كانت فيه الماركسية هي الخلفية النظرية الكبرى المُتبناة، أو المنادى بها في سياقها السياسي والفكري الذي شاع في المغرب في تلك الفترة، والذي تزعمه حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي انخرط الجابري في صفوفه. إلا أن علاقته بالماركسية لم تبق في مستوى الانتماء السياسي أو الحزبي، بل تجاوزت ذلك نحو مساءلة فلسفية للمقولات المؤسسة للماركسية: مثل الحتمية التاريخية، والصراع الطبقي، والبنية التحتية، والتفسير المادي للتاريخ.

وهو ما عمل عليه الجابري بجرأة وتعمق في مشروعه “نقد العقل العربي، من خلال تفكيك مقولاته تفكيكا إبستيمولوجيا. خلُص إلى رفض اعتبار الماركسية نظرية شاملة للتاريخ، واكتفى بوصفها أداة تحليلٍ اجتماعي واقتصادي لها فاعلية منضبطة ومشروطة بسياقات وظروف محددة. إنها جهاز مفاهيمي إجرائي قابل للاستفادة منه عند اللزوم، ويتجاوزه حين يفرض نفسَه كيقين إيديولوجي. بخلاف ما يراها بعض الغلاة من السياسيين والمفكرين العرب (دينا جديدا) بمعنىً من المعاني.

من هذا المنطلق، يُمكننا أن نقول إن اقتراب الجابري من الماركسية لم يكن من منظورِ الولاء الفلسفي والنزعة الإنسانوية الهيغلية بل من زاوية بنيوية تحليلة.

أما موقفُه من الليبرالية، فكان أكثر تحفظا إن لم نقل أكثر معارضة. فلم يكن الجابري يوما ليبراليا لا بالمعنى السياسي ولا بالمعنى الفلسفي، بل كان دائم النقد لليبرالية، وما ميزه نقدَه هذا؛ أنه لم ينبني على أساس أخلاقي أو عاطفي، بل كان نقده منهجيا وإبستيمولوجيا، وهذا ما يُمكن رصده بجلاء في مشروعه “نقد العقل العربي” الذي تضمن في داخله ما يمكن أن يُقرأ كتقاطع مع بعض المبادئ الليبرالية: مثل التعدد، والعقلانية، وحقوق الإنسان، والحرية…،

لكنّ هذا التقاطع؛ ظل دائما مؤطرا ومشروطا بتحصينات تاريخية وتراثية وثقافية وأخلاقية صارمة قطباها (العروبية والإسلام). ومنه جاءت أطروحة الجابري حول رفض استنساخ تجارب الغرب؛ فالعقل الليبرالي أو العقل الغربي مثلا؛ لا يمكن تقليدُه أو استيراده أو استنساخه؛ لأنه محكوم بشروط تكوينه التاريخية في أوروبا، وهي شروط مختلفة وغريبة عن البيئة والثقافة العربية.

أما الإصرار على عملية الإحلال هاته (حسب أطروحة الجابري)؛ ستؤدي إلى اختراق بنية المجتمعات المهوسة بالتقليد أو تلك التي ترزح تحت الاستعمار، ما يعني مزيدا من ضعف المناعة الذاتية مع كل استهلاك غير واعٍ للثقافة والقيم الغربية، وهو ما يُعيد إنتاج التبعية للغرب بكل تمظهراتها وتجلياتها؛ الفنية والثقافية والسياسية،،. وهذا هو التجلي الحقيقي والخطير لـ”النيوليبرالي” أو اليبرالية الجديدة.

من هنا تكمن قوة الجابري التحليلية والإجرائية، من خلال قدرته الكبيرة على التفكيك المفهومي لما يُمكن أن نصطلح عليه بـ “المطلقات“. التي راهن عليها بعض المفكرين العرب ومنهم عبد الله العروي في تبني منظومة فكرية عالمية وشاملة، والتي رفضها الجابري باعتبارها حلولا جاهزة الهدف منها تكرس الهيمنة، ولا تتناسب مع السياق العربي – إسلامي الذي يحتاج إلى اجتراج الحلول من الداخل، لا استيرادها من الخارج.

من هنا نستشفُّ تفطن الجابري إلى ضرورة بناء  “عقل عربي حديث“، لا هو ماركسي ولا ليبرالي، قائم على نزعة نقدية تشكيكية بمفهومها الديكارتي لغربلة وتمحيص التراث وتحقيق وعي آخر جديد وعقلاني بالتاريخ والذات والآخر.

إنّ قيمة وقوة أطروحات الجابري في الانتقاء الواعي والمؤسَّس من الأفكار والمفاهيم سواء الماركسية أو الليبرالية، تكمن في نجاحه إلى حد كبير في في زحزحة المركزيات الإيديولوجية التي طبعت الفكر العربي. ودفعه نحو تحرير إمكان التفكير والمقابلة والاختيار الواعي. لا مجرد التسليم والقبول والخضوع.

إن الاقتراب من مشروع الجابري؛ في زمن تراجع فيه الفكر العربي وحُشر في بوتقة ضيقة فرضت عليه الاصطفاف أو الاستقالة، لا يجب أن تأتي دائما من باب المساءلة والنبش فيما أصاب فيه، والحَفر عميقا فيما أخطأ فيه. لكن المطلوب اليوم؛ هو تمثُّل الأداوات الإجرائية والمنهجية التي اشتغل بها الجابري واستثمارها في استئناف التفكير، التفكير في الحرية، في العدالة، في العقل، في الإنسان…، التفكير في شروطنا نحن، بمفاهيمنا نحن؛ بعيدا عن الولاءات والإيديولوجيا

  • للاستزادة؛ 

1- التراث والحداثة. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

2- نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

3- الخطاب العربي المعاصر. الدار البيضاء: دار النشر المغربية.

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى