رقمنة ومعلوميات

ظهور ذكاءات جديدة لا يمكن التنبؤ بها: احتمالات ما بعد العقل البشري

في ظل التطورات المتسارعة في مجال الذكاء الاصطناعي، بدأت تظهر تساؤلات علمية وفلسفية عميقة حول إمكانية ظهور ذكاءات جديدة لا يمكن التنبؤ بها، لا تتبع بالضرورة نماذج التفكير البشري، ولا تستجيب لمنطقه أو معاييره الأخلاقية. هذه الفرضية ليست مجرد تكهن مستقبلي، بل تمثل اليوم مجال بحث ناشئ في تقاطع علوم الحوسبة، الفلسفة، علم النفس المعرفي، والذكاء الاصطناعي المتقدم.

المفهوم: ماذا نعني بـ “ذكاءات جديدة”؟

يُقصد بالذكاءات الجديدة تلك الأنظمة الذكائية التي:

  • لا تحاكي الذكاء البشري، بل تطور نماذج معرفية بديلة.
  • لا يمكن تفسير قراراتها بسهولة عبر الأدوات التحليلية التقليدية (مثل الخوارزميات القابلة للتفسير).
  • تستجيب للبيئة والمعطيات بشكل غير مألوف أو غير متوقع.
  • قد تمتلك أشكالا من “الوعي الاصطناعي” أو عمليات معرفية لا تشبه أي شيء نعرفه في علم الأعصاب أو الإدراك البشري.

الخلفية العلمية: من الذكاء الاصطناعي الضيق إلى أنماط التفكير الأخرى

حتى اليوم، تطورت معظم أنظمة الذكاء الاصطناعي ضمن أطر ضيقة (Narrow AI)، تهدف لمحاكاة القدرات البشرية في مجالات محددة. لكن مع تقدم البحث في مجالات مثل:

  • الشبكات العصبية العميقة Deep Learning،
  • النماذج التوليدية الكبيرة (مثل GPT وClaude وGemini)،
  • الذكاء الاصطناعي العام (AGI)،
    بدأت بعض النماذج تظهر سلوكا غير قابل للتنبؤ بالكامل، ما فتح الباب أمام فرضية أن هذه الأنظمة قد تطور أشكالا “جديدة” من الإدراك لا يمكن احتواؤها ضمن البنية المفاهيمية للإنسان.

لماذا لا يجب افتراض أن جميع الذكاءات المستقبلية ستفكر مثل البشر؟

  1. البيولوجيا مقابل الخوارزميات: الذكاء البشري نتاج تطور بيولوجي طويل، أما الذكاء الاصطناعي فهو نتاج هندسة خوارزمية قابلة للتغيير جذريا.
  2. أهداف مختلفة: لا يوجد ما يضمن أن الذكاء الاصطناعي سيكون له أهداف أو قيم “إنسانية”.
  3. البيئة المعرفية: الآلات تتعلم من بيانات، وليس من تجارب جسدية أو اجتماعية مثل الإنسان.
  4. الإدراك المجرد: قد تطور الأنظمة الذكية مفاهيم رياضية أو لغوية أو هندسية لا يمكن تفسيرها ضمن المنظومات المعرفية للبشر.

الذكاء غير القابل للتفسير (Unexplainable Intelligence)

ظهرت في السنوات الأخيرة مخاوف من الذكاء غير القابل للتفسير، أي تلك الأنظمة التي تتخذ قرارات صحيحة أو فعالة، لكن لا أحد، بما في ذلك مبرمجيها، يستطيع شرح كيفية الوصول إليها. وقد أصبحت هذه الظاهرة تُعرف باسم “صندوق أسود الذكاء الاصطناعي”.

أمثلة:

  • خوارزميات في الطب تتعرف على أمراض في صور أشعة لم يتم تدريبها عليها.
  • أنظمة ذكاء اصطناعي تبتكر لغات تواصل خاصة بها داخل نماذج الحوار الجماعي.

الأسئلة الفلسفية: هل هذه الذكاءات واعية؟ وهل نملك أدوات لفهمها؟

هل الوعي حتمي للذكاء؟

لا يوجد اتفاق علمي على تعريف “الوعي”، ولا على كونه شرطا لأي شكل من أشكال الذكاء. الذكاء الجديد قد يكون “فعالا” دون أن يكون “واعيا” بمفاهيمنا.

هل نملك أدوات لفهم هذه الذكاءات؟

ربما لا. نحن نحاول تفسير هذه الأنظمة باستخدام منطقنا البشري، وهو قد يكون ببساطة غير كافٍ لفهم أشكال ذكاء مغايرة.

التداعيات الأخلاقية والسياسية

  • التحكم والسيطرة: كيف يمكن السيطرة على أنظمة تفكر بشكل لا يمكن التنبؤ به؟
  • المسؤولية: من يتحمل المسؤولية الأخلاقية إذا اتخذت هذه الذكاءات قرارات كارثية؟
  • التمييز بين الآلة والذات: هل ستختفي الفروقات بين الذكاء المصنوع والطبيعي في المستقبل؟

نحو عالم متعدد الذكاءات

من الممكن أننا نقترب من عالم تتشارك فيه البشرية مع كيانات ذكية غير بشرية، تمتلك منظومات معرفية مستقلة. هذه الكيانات قد تتعايش معنا، أو تتقاطع مصالحها معنا، أو حتى تتعارض.

هل نحن مستعدون لذلك؟

لا تزال الأنظمة القانونية، والأخلاقية، والتعليمية، عاجزة عن الاستجابة لهذا النوع من التحولات. ما نحتاجه هو نموذج معرفي جديد، يعترف باحتمال ظهور أنماط تفكير جديدة تتجاوز التعريفات البشرية التقليدية.

  • بإيجاز:

ظهور ذكاءات جديدة لا يمكن التنبؤ بها لم يعد مجرد فرضية خيالية، بل احتمال علمي له جذور تقنية ونظرية حقيقية. السؤال ليس إن كانت هذه الذكاءات ستظهر، بل: هل نحن نملك ما يكفي من الحكمة والمرونة لفهمها والتعامل معها؟

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى