يتجاوز ميشيل فوكو مفهوم السلطة بوصفها مفهوما مركزيا يعكس علاقة النظام السياسي أو الدولة بالأفراد، إلى مفهوم يتشكل من مجموعة العلاقات والنظم المتشابكة، يتداخل فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمعرفي.
لقد ابتكر فوكو بحسب جيل دلوز مفهوما جديدا للسلطة، كان ضالة الجميع، الكل في بحث عنه دونما معرفة السبيل المؤدي إلى اكتشافه، أو حتى التعبير عنه.
في “الحراسة والعقاب“، يؤكد فوكو أن السلطة استراتيجية أكثر منها مُلكية، ولا ترجع آثارها ومفاعيلها إلى تملك ما بل “تعود إلى تدابير وحيل ووسائل وتقنيات وأعمال” و”هي تمارس أكثر مما تتملك. ليست حقا تحتفظ به لنفسها الطبقة السائدة وتحتكره، بل هي مفعول مجموع مواقعها الاستراتيجية”.
يتجاوز فوكو النظرة التقليدية عن السلطة على أنها ملكية أو تبعية دون أن ينفيها، لأن علاقات السلطة علاقات إنتاجية قبل كل شيء.
- الأركيولوجيا منهجاً
يوظف فوكو منهجه الأركيولوجي (الحفري) للوصول إلى جينالوجيا السلطة/ المعرفة. ويفترض أن سياسات المعرفة يجب أن تفهم في سياق مسارات محددة لإنتاج، وإعادة إنتاج المعرفة فحسب، وأن السياسات التاريخية يجب فهمها في سياق مسارات محددة لإنتاج،
وإعادة إنتاج نقاط تاريخية محددة فحسب، وأن السياسات المتضمنة في نقاط تاريخية محددة يمكن أن تحلل بطريقة مماثلة لتلك التي يقدمها بعض النظريات الأدبية الحديثة كطريقة تحليل النصوص.
ليست الأركيولوجيا عند فوكو مجرد اهتمام بالماضي، إنها أركيولوجيا الحاضر، تنطلق عند فوكو من سؤال الفيلسوف الألماني كانط: ما الذي في الحاضر يشكل معنى للتساؤل الفلسفي؟ ويبقى فوكو وفيا لنيتشه الذي حوّل استعمال التاريخ من رصد لوحدات ثابتة، وتحديد لمقولات الوعي الاتصالية،
ليصبح معولا لهدم مفاهيم الواقع والهوية، مكرسا الاختلاف والانفصال على أنقاض المقومات الأنثروبولوجية والميتافيزيقية لنظرية المعرفة.
المعرفة عند فوكو ليست علما ولا حتى معرفة اختبارية تجري بين ذات وموضوع، بل موضوع الكثرة الدقيقة التي تصفها المعرفة ذاتها كما تصف معها نقطها الفردية ومواضعها ووظائفها.
تبحث الأركيولوجيا عن التقطعات والانشقاقات والتصدعات، لتقوض منطلقات التاريخ الكلاسيكي المتجذرة، لتكرس الاختلاف. وبهذا تبدو الأركيولوجيا ممارسة تاريخية لكشف النقاب عن أنماط الخطابات وتعاقبها وتشابكها، والهوة التي تفصل بينها، فتختلف عن الفلسفة والعلم.
وراء الأركيولوجيا نقلة من كوجيتو الحضور إلى كوجيتو الغياب، ووراء كل معرفة سلطة، ولا بد من البحث في الهامش المتخفي. يتيقظ فوكو لحضور الممارسات الخطابية في الواقع الاجتماعي العام، ويعنى بالحقيقة انطلاقا من الأنظمة المعرفية المتتالية.
ينصرف الأركيولوجي إلى ما وراء الظاهر، من النص لقراءة المسكوت عنه، ليولد قراءة ثانية، نص ثان يخترق الأول، ليكشف بعض إمكانياته التي لا تنطق بها الكلمات المعجمية، بل المعنى الإيجابي الدلالي في النص،
هكذا يتم استنهاض النص المبتور من دفاتر الواقع واليومي، ليصنع واقعيته بعد تعريته. تغير الأركيولوجيا النظرة إلى النص ليصبح واقعة، لا مجرد خبر عن واقعة، ولا يعود (كما يذهب علي حرب) مجرد رواية للحقيقة، بل منتجا لها.
- رامبو أو الإنسان الأعلى
تمارس الأركيولوجيا تحليلا ونقدا لمضمون النص، تاريخيا ولغويا وفلسفيا وأدبيا، حيث يتكامل الأثر النصي مع الكتابة على أنها فعل خلاق، ينعكس في العديد من مجالات الحياة، والعلاقات البينية في المجتمع.
وفيها يصبح الإنسان فكرة، والمجتمعات فِكَر. وبالفكر يضمن الإنسان بقاءه أو زواله، وتأخذ المجتمعات مسرى تواصلها أو فنائها.
تحدي الفناء مرهون بخطاب معرفي يعكس التجربة الذاتية الراهنة ويربطها بعلاقة جديدة مع الوجود والحقيقة والعالم. فلكي يظهر الإنسان أو تبرز ملامحه، لابد للقوى في الإنسان أن ترتبط بعلاقات مع قوى خاصة جدا في الخارج، وما الإنسان الأعلى عند فوكو،
سوى هذا المركب الشكلي من قوى الإنسان وتلك القوى، إنه الإنسان محملا بمادية اللغة، أي تلك المنطقة الغامضة البكماء الصامتة الخالية من المعنى، حيث تستطيع اللغة أن تتحرر حتى مما يكون عليها أن تقوله.
- منهجية النقد الفلسفي عند فوكو
في كتابه المنظور الفلسفي للسلطة عند ميشيل فوكو* يسعى جوده أبو خاص إلى بيان الأسس المعرفية التي اعتمدها الخطاب الفلسفي السابق على فوكو مع إشكالية بناء مفهوم السلطة.
ومدى اتساقها أو تناقضها مع طروحات فوكو، وكيف بدت علاقة السلطة والمعرفة في خطاب فوكو الفلسفي الذي تجاوز السمات السلطوية للدولة وأجهزتها، دون أن ينفيها، لتوضيح العلاقة بين المجتمع والسلطة.
يهدف الفصل الأول من الكتاب أن يكون مدخلا لدراسة فوكو من خلال مسيرة حياته ومنهجيته في النقد الفلسفي. ويرى أن أهمية فوكو تكمن في أنه لا يسعى في فلسفته إلى مجرد التنظير الفلسفي فحسب، بل تلبية متطلبات تاريخية محددة وحاسمة.
إذ يركز اهتمامه على “الحاجات المفهومية” التي لا تتعلق بالموضوع قيد الدراسة، بقدر تعلقها بمعرفة ودراسة الأوضاع التاريخية التي تحدد نوعية الفهم والإدراك الذي يمتلكه الفرد تجاه حالة تاريخية معينة، بما يتطلب بالضرورة معرفة الواقع الذي يعيش فيه هذا الفرد.
لكن الواقع بات عرضة للسيطرة والوصاية من أدوات السلطة، التي تنتج منطق “حقائق” يتم تدبيرها بهدف التحكم بمجمل حياة الإنسان اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، لذا يسعى فوكو لبناء باراديغم (نموذج) جديد للسلطة انطلاقا من فرضية أساسية مفادها أن السلطة شيء غامض.
وغير مرئي في الوقت نفسه، هي المجهول الأكبر في الوقت الحاضر التي تثير تساؤلات كثيرة حول من يمارس السلطة، وأين يمارسها؟ مما يقتضي إعادة تعريف السلطة بوصفها تكوينا هيكليا، أو استراتيجية لقيام العلاقات السلطوية في المجتمع.
- الأركيولوجيا والجينالوجيا
كان لمصطلح الأركيولوجيا عند فوكو أهمية خاصة من بين المصطلحات التي ابتكرها، تحدد قواعد تشكيل مجموعة من العبارات، يبين كيف يمكن لتعاقب الحوادث في ترتيبها الظاهر أن يصبح موضوع خطاب، حيث يسجل ويفسر ويصف، في قالب مفاهيمي يتيح المجال لاختيار نظري معين.
يربط فوكو بين الفلسفة والتاريخ من خلال منهجه الجينالوجي كأداة تسمح بإيجاد نقاط تحليل فلسفية في حقب الحقب التاريخية المختلفة. وعلى غرار جينالوجيا نيتشه، تلتقي الفلسفة بالتاريخ دون الركون إلى إدراكات تاريخية تفوق قدرة البشر (ترانسندينتالية).
المنهج الجينالوجي ليس استعادة للماضي أو لسيادة الذات، بل يعمّق الانفصال في وجودنا ذاته، وهو ذاته هدف الأركيولوجيا التي تجعل من الانفصال مفهوما للتحليل، وميدانا للدراسة في نفس الوقت. إن غاية كليهما، الأركيولوجيا والجينالوجيا إبراز الحدث في تفرده ووحدته.
تبرز جينالوجيا الحقيقة علاقة السلطة بالحقيقة، وهو الجانب الذي استعاده فوكو من نيتشه، وطبقه على موضوعات لم يكن التاريخ يحفل بها، وأثبت أن ما يسمى حقيقة التاريخ، هو نتاج مجموعة من العلاقات السلطوية التي ترتبط بالضرورة بالخطاب والمعرفة والذات.
- تحرر سياسي وآخر معرفي
يبحث الفصل الثاني في التأصيل الفلسفي لمفهوم السلطة، ويبدو فيه أبو خاص مقتنعا بأن صعوبة وضع تعريف محدد للسلطة، مرده، في أحد الوجوه، إلى أن منحها مفهوما يدعي بأنه القويم والسليم سيكون أكثر سلطوية.
وبالنظر إلى التراث الضخم من التراكمات التنظيرية والعملية التي تشكّلت عبر العصور لمفهوم السلطة، يبقى المفهوم مجالا رحبا يضيق به أي تعريف.
مع ذلك، يستعرض هذا الفصل التعريفات المختلفة للسلطة في سياقاتها المعجمية واللغوية، وكما ظهر لدى طائفة من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، عارضا لتطور مفهوم السلطة في الفكر السياسي الغربي.
فبعد أن ظل السؤال المحوري للفلسفة السياسية يدور حول المبدأ الأساس للتنظيم السياسي، وأين تكمن السلطة وماهيتها، وكيف تتحدد شرعيتها، بحثا عن الدستور الأفضل الذي يحمي الإنسان من التعسف،
ظهر في نهايات القرن 19، مع موجة التحرر السياسي، اتجاه فلسفي جديد يبحث عن السلطة في التركيب الاجتماعي، مؤسسا لموجة تحرر ثقافي ومعرفي تهدف إلى التحرر من السلطة بكافة أشكالها.
ومع نيتشه وماركوز وغرامشي، لم تعد السلطة نتاج تفاعلات سياسية صادرة عن مركز النظام السياسي، متمركزة في منظمات الدولة وأجهزتها الإدارية، بل أضحت ذات طبيعة متشظية، متعددة الفضاءات، وشبكة تشمل مختلف العلاقات والمجالات والقوى والسلوك والتصورات والأفكار داخل المجتمع، وهو المضمون الأساس لمفهوم السلطة عند فوكو.
- جدل المعرفة والسلطة
جدلية المعرفة والسلطة عند فوكو هي إشكالية الفصل الثالث من الكتاب، حيث لم تعد المعرفة عند فوكو تقويما بل علما دلاليا. فوكو ينزل بالفلسفة إلى المستشفيات والسجون والمحاكم، للبحث في الكينونة التاريخية لمجمل الممارسات البشرية، ليتعامل مع السلطة بوصفها ممارسة،
قبل أن تكون جهازا أو مؤسسة، علاقات إنتاجية قبل كل شيء. وليس هدف الفلسفة البحث في قضايا مجردة، ومثل أعلى، ولا البحث عن مبادئ أساسية للفكر، إن مهمتها إلى جانب توصيف المجتمع، أن تضع الحلول لهذه المشكلات، ضمن نظريات فلسفية قابلة للتطبيق.
لذلك، يحلل فوكو السلطة بشكل متزامن على مستويين، نظري وتجريبي، من خلال الاختبار التفضيلي لنماذج سلطوية تاريخية محددة، فيبين كيف ظهرت هذه النماذج وتطورت، ليقلب المعادلات التي قامت عليها نظريات العقد الاجتماعي.
إذ لا ينبغي السعي إلى البحث في ما تنازل عنه الناس ليمارس عليهم الإخضاع، بل البحث في الكيفية التي تتم بها ممارسة الاجتماع.
يتجاوز فوكو أيضا المنظور الليبرالي للسلطة، بوصفها خضوعا للقانون، كما يتجاوز المفهوم الماركسي الذي يضع السلطة بيد الدولة، وأنها تعكس صراعا طبقيا..
يتجاوز فوكو المفاهيم السابقة للسلطة لكن لا يلغيها، ليتعامل معها من منظور يراها استراتيجية (ليست ملكا لأحد)، ومحايثة (تنتشر في مفاصل المجتمع كلها)، وإجرائية (تعكس إجراءات خفية ومعلنة في الوقت نفسه).
يجمع فوكو بين المعرفة والسلطة دون خلق حالة مساواة بينهما، وإن كانت المعرفة تمتلك سلطة، فهي ليست سلطة، وإن كانت السلطة تنتج معرفة، فهي ليست معرفة. إن ثنائية المعرفة السلطة تعبر عند فوكو عن تبادل الأدوار بينهما.
تهدف جدلية المعرفة والسلطة، إلى تبيان حقيقة السلطة، وتفكيك مفاهيمها الفلسفية، من خلال مناقشة الحقائق التي تنتجها السلطة كواقع وممارسة، سواء على مستوى أجهزة الدولة وعلاقاتها العمودية مع الأفراد والمجتمع ككل، أم على مستوى العلاقات السلطوية داخل المجتمع ذاته.
إن مناقشة مفهوم السلطة على هذين المستويين يمثل الأساس العلمي لفهم التطور الفلسفي للسلطة عند فوكو.
- من التنظير إلى التغيير
يسعى الفصل الرابع والأخير من الكتاب، إلى إتمام جهود الفصول السابقة بتفصيل رؤية فوكو الفلسفية للسلطة على مستوى الدولة، ومناقشة العلاقة بين السلطة والدولة، ثم الانتقال لتفصيل رؤية فوكو لمفهوم السلطة على مستوى العلاقات السلطوية داخل المجتمع.
ليبين كيف شكلت تلك الرؤية لعلاقة السلطة بالدولة اختراقا واضحا لمفهوم مركزية السلطة، لصالح إثبات انتشار السلطة في بنية المجتمع ككل.
يخلص الكتاب إلى أن فوكو خلق بنية فكرية فلسفية تتعامل مع السلطة بوصفها منتجا لا يمكن احتكاره من جهاز معين، أو من طبقة معينة، أو من فئة معينة في المجتمع، فأحدث كما يقول المؤرخ الفرنسي بول فين “ثورة في المنهج”.
نقلت الفلسفة من مرحلة التنظير إلى مرحلة الاحتكاك مع قضايا المجتمع بفاعلية، ومحاولة تغيير الواقع عمليا ليصبح أكثر حرية وأقل ظلما.
*المنظور الفلسفي للسلطة عند ميشيل فوكو: دراسة في الفلسفة السياسية والاجتماعية، لمؤلفه جوده محمد إبراهيم أبو خاص، وهو باحث من الأردن، حائز شهادة الدكتوراه في الفلسفة السياسية من جامعة الأردن (2014)، وماجستير في العلوم السياسية (علاقات دولية).
يعمل مدير قسم الدراسات والبحث العلمي في مركز بانا للاستشارات والأبحاث والتدريب. الكتاب صدر في طبعته الأولى (بيروت: أيلول/ سبتمبر 2017) عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (144 صفحة).