جدليّة الموت والخلود في فلسفة “إرنست هوكنج”
شغلت قضيّة الموت والخلود أذهان الفلاسفة والمفكّرين على اختلاف مَشاربهم ومَذاهبهم منذ فجر التاريخ، لما تمثّله هذه القضيّة من أهميّة كبرى تتعلّق بحياة الإنسان ومصيره بعد الموت.
ولقد كانت بداية التفكير في هذه القضيّة بدايةً أسطوريّة تطرح أسئلة تتعلّق بما هو الموت، وكيفيّة حدوثه، وما مصير الإنسان بعد الموت في العالَم الآخر؟ ونتجت عن ذلك آراء فلسفيّة متعدّدة ومتنوّعة ترى في مُجملها أنّ الموت هو نقيض الحياة، كما أنّه مُرادِف للعدم، بمعنى فساد الحياة وزوالها.
لم تقتصر مشكلة الموت والخلود على الفلاسفة والمفكّرين فقط، بل كانت قضيّة جوهريّة ونقطة مركزيّة في الديانات السماويّة وغير السماويّة أي الوضعيّة. فقد احتلّت قضيّة الموت والخلود، على سبيل المثال، مكانةً جوهريّة في الديانة المصريّة القديمة وشغلت أذهان المصريّين القدماء.
لذا كانوا يدفنون الموتى مع أشياء ماديّة مثل الأكل والشراب وغيرها، لتُساعد الميّت في رحلته الآخرويّة. واحتلّت قضيّة الموت والخلود كذلك مكانة محوريّة عند العُلماء مثل علماء البيولوجيا، فعرَّف العالِم “كلود برنار” الحياةَ بأنّها الموت، وفسَّر الأمر بأنّه إذا كانت جميع الوظائف الحيويّة ناتجة عن عمليّة الاحتراق العضوي، معنى ذلك أنّ الحياة هي الموت.
من هنا نرى أنّ قضيّة الموت والخلود كانت الشغل الشاغل للبشريّة طوال تاريخها، ولعلّ هذا ما قصده أفلاطون بقوله إنّ الفلسفة هي تأمّل للموت؛ فيما يقول (شوبنهور) أيضاً إنّ الموت هو الموضوع الرئيس للفلسفة والمُلِهم الأكبر للتفكير الفلسفي.
وبالمثل احتلّت قضيّة الموت والخلود لدى وليم إرنست هوكنج (1873-1966)William Ernest Hocking ، الفيلسوف الأميركيّ الذي دافَعَ عن المثاليّة ببلاغة، مكانةً محوريّة لا تقلّ عن سابقيه، إذ رأى أنّ الموت هو الرؤية في تغيّرات التاريخ، وأنّه لا يُمكن رؤية ما وراء الموت، وأنّ الإنسان لا يُمكنه بأيّ حالٍ من الأحوال أن يدرك موته هو شخصيّاً، لأنّه ببساطة سوف يكون في ذلك الوقت في تعداد الموتى.
كما يشير أيضاً إلى أنّ الخلود مثل الخيال الذي لا وجود له، ويُشبه مَسرحاً نمثّل عليه خيالنا عن الحياة الأخرى بعد الموت، إلّا أنّه ليس في الإمكان حدوثه. لذا من المهمّ هنا أن نعرض لمفهومَي الموت والخلود عند هوكنج.
- مفهوم الموت عند هوكنج
في البداية يشير هوكنج إلى أنّ الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يفكّر في الموت، كما أنّه يتقبّل موته وموت الآخرين على أنّه شيء لا يُمكن تجنّبه. والموت حتميّ حتميّة مُطلقة من حيث حدوثه لكلّ كائنٍ حيّ. ويشير هوكنج إلى أنّ الإنسان ينظر إلى الموت على أنّه شرٌّ صرف ومحض.
وأقصى أنواع الشرور. ولقد قسَّم الموتَ إلى قسمَين: الموت بالنسبة إلى الجنس البشري، والموت بالنسبة إلى الفرد.
- أوّلاً: الموت بالنسبة إلى الجنس البشريّ
هذا الموت له أهميّة قصوى ودَور حيويّ لدى هوكنج، فهو يخلّصنا من المسنّين وكِبار السنّ، ويفتح آفاقاً جديدة لأصواتٍ شابّة وفتيّة تؤثِّر في الحياة، ولو لم يكُن هناك من موتٍ طبيعي للجأ الناس إلى القتل.
ويرى هوكنج أنّ الموت يكون خيراً في كثير من الحالات، فمن دونه يُصبح التفاوت في السنّ أمراً شاذّاً وفظيعاً، ويغدو الاختلاف بين الكهول والشباب شيئاً لا يُطاق.
كما أنّ للموت أهميّة كبيرة وعظيمة، فبواسطته تصبح الحياة شيئاً له مساحته وحدوده. تُصبح شيئاً مختلفاً عن ذاتي استطيع عند الحاجة وعن طيبِ خاطر أن أدخره. قد يكون هذا بدايةَ رؤيةِ ما وراء الموت، ولكنّنا لا نستطيع أن نحكم على ما إذا كان هذا حقيقةً أم خيالاً.
إلّا إذا تمّ الاهتمام بالتحليل المنطقي الذي ينطوي تحت آرائنا أو يضمّ آراءنا في الحياة والموت. ويشبِّه هوكنج الحياة بالوعاء الذي يظلّ غير مكتمل إلى أن يأتي الموت، ويستولي على كلّ معنويّاته، ثمّ يسدّ الوعاء بالموت.
- ثانياً: الموت بالنسبة إلى الفرد
يتساءل هوكنج عن معنى الموت بالنسبة إلى الفرد الذي يموت أو الذي قُدِّر له الموت، فيرى أنّه لمن الطبيعيّ أن ترسخ في أذهان كلّ فرد نظريّة الموت العامّة السائدة في مجتمعه.
فإذا طبّق الفرد هذه النظريّة السائدة على زواله وفنائه شخصيّاً لاعتنَق كإنسانٍ وجهة النّظر ذاتها، وهذا ما تفعله أغلبيّة الناس بنجاح. ويرى هوكنج أنّ إيمان الإنسان بموته شخصيّاً مُكتسَب وليس بالفطرة، ويؤكِّد على استحالة المساواة بين تقبُّل الإنسان لموته والمُسالَمة للموت، حيث يُطلق الإنسان العنان لخياله ويوسِّع دوائره من أجل إطالة الحياة.
إلّا أنّه يدرك في النهاية أنّ الحياة تتّجه إلى الموت، لذا يقول إنّ تقبّل الإنسان للموت بهذه الطريقة لا يُمكن أن يكون شأنه شأن مُسالَمة الموت، فالإنسان يواصل الأمل والتفكير في أشياء مستحيلة لإطالة الحياة، أو لنقُل مَناشطها التي لم تكتمل إلى دائرة أخرى. ولكن ما أن يحين الوقت المُناسب حتّى يدرك الفرد أنّ هناك مظهراً آخر للموقف،
هو أنّ الحياة التي يعيشها تتّجه نحو تهيئة الظروف العقليّة اللّازمة لإنهاء تلك الحياة ذاتها. ويؤكّد في هذا السياق على حقيقة مهمّة وهي أنّ الإنسان لا يُمكنه إدراك لحظه مولده، كما أنّه لن يدرك لحظة موته. ولقد ربط بين الموت والحرّية في لفتة عجيبة وغريبة إذ يرى أنّ تقبّل الموت هو بمثابة مرحلة جديدة من الحرّية.
- ثالثاً: الخلود والخبرة الإنسانيّة
يرى هوكنج أنّ الخلود له مهمّة أساسيّة تتمثّل في تخليص العقول من الآراء المزيّفة الخياليّة، وزعزعة وجهات النَّظر المألوفة، وإعادة النَّظر في قضيّة الخلود. ويطرح هوكنج سؤالاً وجيهاً وهو: إذا لم يكُن الأفراد يخلدون فأيّ الأشياء في الكون تخلد؟ ويجيب بأنّ هناك أنواعاً كثيرة من الأشياء تُعتبر خالدة مثل الزمان والمكان،
ولكن إذا كان الخلود دليلاً على القيمة، أفلا يكون هذا سخفاً وعبثاً من كون الأشياء الخالدة فيه هي أشياء لا تَعلم، ولا تستطيع أن تصبح على عِلم، بمكان الشرف الذي تحتلّه؟ ونحن الذين توهّمنا دوام الأشياء، ونسبنا بفكرنا الخلود إليها، فهل يكون مصيرنا وقد منحنا الله الدوام بسخاء،
أيكون مصيرنا أن نختفي من على المسرح؟ ويرفض هوكنج تلك السخافة وذلك العبث، ثمّ يرى أنّ الخلود ضروريّ وشامل، وقد يكون الخلود نتيجة معقولة لما فطرنا عليه من عدم الرغبة في الفناء، ولكنّه قد يكون كذلك نتيجة إغفال قوى الدمار والفناء للفرد.
ويلفت نظرنا في هذا السياق إلى أنّ الخلود يمثّل إمكانيّة وليس ضرورة، ويلاحظ أنّ الخلود يُلازم الجزء الخاصّ بالخيال في العقل، وذلك الجزء لا وجود له في الواقع العَملي. ونشير هنا إلى اتّفاق هوكنج مع هيوم الذي أكَّد أنّه من الصعب على العقل أن يثبت خلود الروح.
كما أكّد هوكنج على وجود علاقة وثيقة بين الخلود والذّات الإنسانيّة، وعلى أنّ هناك خبرات يمرّ بها كلّ فرد من وقتٍ إلى آخر تُدرك فيها الذّات نفسها كذاتٍ أخرى، في حين أنّها في الحقيقة الذّات نفسها.
خلاصة القول، إنّ الموت والخلود هُما من أهمّ القضايا في تاريخ الفكر الفلسفي بوجه خاصّ، والإنسانيّ بوجهٍ عامّ لما تمثّله من قضيّة محوريّة مهمّة تتعلّق بحياة الإنسان ومصيره بعد الموت.
ولقد أعطى هوكنج هذه الإشكاليّة، أي الموت والخلود، اهتماماً كبيراً في فكره، ورأى أنّ الموت أخطر ما يهدِّد حياة الإنسان وبقاءه، و الخلود هو الذي يُقاوِم فناء الإنسان وزواله.
د.عماد عبد الرّازق / كاتب وأكاديمي من مصر.