دراسات إسلاميةفكر وفلسفة

الخطاب الصوفي بين الهوية والاختلاف: الأنا والآخر

ظلَّ الخطاب الصوفي على الهامش باعتباره خطاباً مارقاً، ينفلت ـ كما يُزْعَم ـ من المعايير الشرعية عقدياً، والمعايير الفنية جمالياً، ولهذا تم إقصاؤه ومحاكمته من خارج شروط إنتاجه. وبذلك كان الخطاب الصوفي يمارس حقه في الاختلاف، من حيث هو معطى معرفي يفارق المعطى الرسمي، على الرغم من أنه يستند إلى الأصول نفسها التي يستمد منها الخطاب الرسمي (المؤسساتي) وجوده وشرعيته، إلا أن القراءات تختلف باختلاف آليات الفهم والإدراك.


لقد تحول الخطاب الرسمي باعتباره قراءة إلى معيار، يحاكم كل خطاب يخالفه أو يغايره. وبذلك تحولت القراءة إلى نص يحجب الأصل، وتحولت إلى نصوص تمارس حقها في الإقصاء أو الاعتراف. ومن هذا تجد دعوةُ إعادة قراءة التراث مبرراتها في إعادة صياغة بعض المفاهيم التي تكرّست وصارت حكماً، واكتسبت شرعيتها بالتقادم؛ ولكن عند التفكيك والتمحيص لا نجدها سوى مجرد قراءة ضمن القراءات.

ذلك ما عاشته الحركة الصوفية من التهميش والإقصاء، فظلت خارج مركز التاريخ الرسمي، تطوف على الهامش، من خلال محاكمتها بمعايير خارج عن نظام بنيتها المعرفية، بوصفها «آخر» مناقضاً للأُطر المعرفية المتعارف عليها. فكان النسق الفكري السائد قد «همش الحركة الصوفية وعزلها عن الجسم الفكري الاجتماعي. كانت الصوفية الآخر المنبوذ داخل المجتمع. وقد يعود ذلك إلى أساس تسمية الصوفيين أنفسهم بأهل الباطن، مقابل الذين يسمونهم بأهل الظاهر»، وهي تسمية تقصي الأول وتبرر وجود الثاني، بما للمصطلح من سلطة على المتلقي، بما يحمله من دلالات تاريخية أو معرفية أو سلطوية أو أيديولوجية، تكرّس هذا المفهوم أو تقصي ذاك عن هذه التسمية ونظامها المعرفي فانجرّ عنها اختلاف في الرؤى والتصور ومفهوم اللغة، والبناء الفكري العام.

لقد أسس المتصوفة نظامهم المعرفي الخاص ـ من حيث هم هامشيون ـ مقابل المؤسسة الرسمية، التي فرضت طابعها بحجة القوة، لا بقوة الحجة، والأساليب الضاغطة قبل الأساليب المعرفية. فكانت الثقافة الرسمية في المركز، وثقافة الآخر في الهامش، وظلت ثنائية (المركز والهامش) تفرض حضورها باستمرار الثقافة الرسمية، وتوالدها، وتناسلها، وتناسخها عبر مؤسساتها، في أكثر من مظهر، حيث يمثل الثقافة الرسمية التقيد بالقوانين، في حين تمثل الثقافة الصوفية الهامش في خروجها عن هذه المعايير.

وهكذا كان النص الصوفي ـ من حيث هو لغة مشفرة ـ لا يفصح عن دلالاته إلا بالقدر الذي يحجبها، يمارس على متلقيه نوعا من الطمس والحجب، فيترسب في قاعه المسكوت عنه، لذا فهو يتوشح بالغموض ويتدثر بالتعمية، لا يقول إلا «المسكوت عنه، ما لا يمكن النطق به l’indisible؛ لأنه فضاء غائم ومتموج؛ [وعليه]  فالعرفان ـ من هذا المنظور ـ يقع في فضاء اللامنطوق»، وهكذا يتأرجح بين قطبين: ما ينطق به وما يسكت عنه، بين ما يعلن عنه وما يضمره.

وهكذا ظل الخطاب مُحْتَجِباً في المسكوت عنه، لا يعلن إلا بقدر ما يسكت، ولا يبوح إلا من حيث يضمر، فَيُحْجِب كثيراً من مقولاته، ويطمسها في طيات منطوقه، فيتدثر الغياب بالحضور. فلا يمكن الكشف عن الوجه الغائب فيه إلا بعد معرفة بنية نظامه، والشروط التي أنتجته، والتي يستند عليها ويتولد عنها.

فكل خطاب يفقد وهجه بقدر ما يبوح، فتتقلص شروط بقائه، وهو ما أعطى للخطاب الصوفي الحضور والامتداد في الزمن، فصار المسكوت عنه قابلاً للقراءات المتعددة المختلفة باختلاف الأزمنة والثقافة والمتلقين؛ إذ النص يكون أدعى على البقاء والخلود والصمود كلما كان الخطاب أكثر إخفاء للأشياء المبحوث عنها، فيصير قابلاً للانفتاح على التأويلات المتعددة التي لا تقول كلمتها الأخيرة والنهائية، بقدر ما يجعله قادراً لتقبل التأويل المتواصل، متحدياً الزمن والثبات والركود، والقراءة الأحادية النهائية؛ أي الانفتاح على الآخر والاعتراف به، ومفارقته دون إلغائه.

إذ الأنا لا وجود لها إلَّا من خلال الآخر، الذي به تكون المغايرة والاختلاف، حيث تتمايز الهويات من خلال مفارقة الأنا للآخر؛ «فلكي تعرف الآخر لا بد أن تراه من حيث هو لا من حيث أنت» اعترافاً بالأنا، واعترافاً في الآن ذاته بالآخر؛ ذلك أنه «لا تستقيم هوية للأنا من دون الآخر».

وإذا كان الفكر المنطقي يبرهن على وجوده من خلال جدل الأنا مع الفكر (العقل المنطقي)؛ أي من خلال استنتاج يقوم على البرهنة: «أنا أفكر إذن أنا موجود»، بحيث تكون الأنا المفكر هي ذاتها الأنا الموجودة. فهذه المقولة تنفي وجود الصوفي؛ من حيث إنه لا يبرهن على وجوده من خلال التفكير، ولذلك تغيرت مقولة المعادلة الصوفية إلى معادلـة أخـرى تتمـاهى مع الآخر بقول: «أنا الآخر je est un autre، ويمكن أن نصوغها بقولنا: أنا أفكر إذن لا أنا، كما يقول المتصوفة»، ويسميه أدونيس الكوجيتو الصوفي، باعتبار أن الوجود الصوفي ليس قائماً على وجود الإنية منفصلة؛ إذ الإنية الصوفية لا وجود لها إلا بالله.

ولذلك يكون الكوجيتو الصوفي «الأنا آخر je est un autre، وهذا يعني أن الوجود يمكن أن يكون من الناحية الذاتية شيئاً، وأن يكون من الناحية الموضوعية شيئاً آخر نقيضاً؛ فالوجود هو نفسه وغيره في آن كمثل الأنا، الذي هو أنا وآخر معاً» فالأنا ـ إذن ـ يتعذر وجودها دون الآخر. فقد يكون هذا الآخر موجوداً في «أنـا» ومكوّناً لهويتين؛ بل يكون مظهراً من مظاهر وجودي، وتجلياً لإنيتي؛ ذلك أنّ هذا «الآخر حاضر في الذات يعذر ما هو غائب، وقريب بقدر ما هو بعيد».

فالآخر قد يكون هو الذي يغايرنا ذاتاً، وجنساً، أو عقيدة أو وطناً، أما في المقاربات السوسيولوجية «فالآخر ليس بالضرورة هو البعيد جغرافياً، أو صاحب العداء التاريخي أو التنافس الدائم؛ إذ يمكن للذات أن تنقسم على نفسها ويحارب بعضها البعض الآخر»، ويكون هذا التصادم الوهمي من موقع اختلاف نمط المعرفة أي بنية النظام؛ إذ لا يوجد سوسيولوجيا نمط المجتمع الواحد المنسجم. فالمختلف إذن ليس بالضرورة هو من يغايرنا الجنس والعقيدة؛ فقد يكون التغاير والاختلاف في المجتمع الواحد باعتبار أن المجتمع المتجانس لا وجود له، إلا من حيث هو هدف مثالي لا يمكن بلوغه.

إن مفهوم الهوية يتبع لهذا الكلّ المؤتلف أنا والمختلف أنا آخر: «وإن مفهوماً مصاغاً على هذا النحو ليجعل كل التعبيرات الثقافية شرعية، ويوجب هذا المفهوم على البحث العلمي أو المشروع النهضوي النظر الدقيق في هذه التعبيرات ليس بإقصائها بل من أجل فهمها»؛ لنتواصل مع تراثنا ونتصالح مع ذاتنا.

إن الوحدة والتجانس لا وجود لهما إلا من خلال فرضيات كنظام من الخارج، أما في حقيقة الأمر فإن: الأنا «يوجد ضمن المتعدد المختلف عنه، يتنافر عنه أو يتواصل معه، لتكون عملية التفاعل. أما التجانس فإنه لا وجود له إلا بالتفاعل والتبادل؛ إذ الإنتاج المعرفي مرتبط ـ سوسيولوجياً ـ بالاختلاف، أما التجانس فإنه لا ينتج إلا المكرور، ويعيد تحصيل الحاصل، ما دام الشيء المتجانس هو أنموذجاً مكرراً لذاته.

فانغلاق مفهوم الهوية على هذا النمط وتأطره بالمعطى الأيديولوجي يحدد هذا المفهوم، ويقلّص من انفتاحه على الآخر، وتعدد روافده ومشاربه، ويجعل من الأنماط المختلفة «لا تفهم إلا وفق شكل واحد من أشكال تعبيراتها، وهو أمر يؤدي ضمناً أو صراحة إلى إزاحة بقية التعبيرات الثقافية من المشهد الندائي، رغم أن هذه التعبيرات الأخرى قد تتمتع بتداول عام أكثر وزناً وفاعلية».

لذلك فالتطابق هو إنتاج المتكرر في شكل متعدد متناسخ، ولذا كان «لهذا المفهوم تأثير كبير على مجرى الكتابة ذاتها؛ فهو يرسخ اتجاهات الكتابة التي تتم وفقاً لتقاليد أرض محروثة، وضمن معطياتها السائدة. فهو في ذلك يعرقل أو يعوق نمو الاتجاهات الأخرى التي تحاول أن تستطلع أرضاً أخرى لكتابات جديدة ومختلفة»، باعتبارها تكشف عن جوانب أخرى لاتجاهات وأفكار ورؤى مغايرة، فما دام ثمة تطابق تكون ثمة محاكاة تكرار واجترار لا تنتج إلا نفسها، ولا تولد إلا ذاتها بصيغ هي الأخرى مستنسخة، في حين أنه كلما كان البعد والاختلاف كانت الأفكار متحددة وقابلة للديمومة وللاستمرار؛ لأنّ «الاختلاف يولّد المعنى، ويخلق الدلالة، فلو لم تتميّز الأشياء بعضها عن بعض لما كان ثمّة إمكان لمعرفة شيء».

وتأسيساً على ما سلف فإن كل خطاب لا يصح أن يكون حجة على خطاب آخر؛ خصوصاً إذا كان يغايره ويفارقه؛ ذلك أن بنية الثقافة الرسمية تقوم على الثبات والاستقرار والشمولية، في حين إن بنية الخطاب الصوفي تقوم على التبدل والتحول والتغير؛ لأنها تصدر عن معرفة حدسية، وليدة لحظتها؛ حيث تجسدت نظرة المتصوفة في اختلاف وجهة النظر إلى الشيء الواحد، فاختلاف النظرة باختلاف الحال، ثم باختلاف النظرة من صوفي إلى آخر. فتكون بنية التصور الصوفي قائمة على إعادة النظر للأشياء، وإعادة النظر ـ كذلك ـ في طريقة التعبير عنها؛ لذلك فالمعرفة الصوفية تُعرّفنا بما لم نكن نعرف، أو تعيد تعريفنا بما كنّا نعرف، فهي في تجدد دائم ومستمر.

إن تصادم المعرفتين: الرسمية والصوفية ينم عن تعارض نظامين وبنيتين مختلفتين متغايرتين، ومتناقضتين في صدورهما عن طبيعتين متمايزتين، وهو ما جعل علماء الظاهر يعترضون على طبيعة التجربة الصوفية ونظامها المعرفي، و«هذا الاعتراض النقدي يشير إلى مسألة خلوّ المعرفة الصوفية من الضوابط والحدود التي تقطع الطريق على الادعاء».

وهو ما حدا بِعَلَمٍ من أعلام الظاهرية ـ له وجاهته ـ كابن حزم إلى الجزم بأن دعوى التصوف تحتاج إلى برهان، باعتبار أن «الإلهام دعوى مجردة من الدليل»، وهي دعوى صحيحة ومقبولة إلى حد ما من جهة نظر العقل والمعقول، لذلك كان ابن حزم يحاول قراءة التصوف بالمنطق والعقل؛ أي قراءة العرفان بالبرهان، وهي قراءة مبدئياً مفارقة تدين التصوف؛ لذلك حسم ابن عربي القضية على أساس معرفي إبستمولوجي، حين رأى أنه من قرأ القلب بالعقل فما عرف.

ولذلك راح ابن حزم يحاكم منطق القلب بالعقل، فقرأ المتحوّل بالثابت، وهي قراءة إقصائية سلفاً، في حين أن المعرفة الصوفية أصلاً لا تقوم إلّا على مناقضة العقل وإلغائه؛ لأنها لا تشّع إلا في غيابه، وهو ما يسمى بالذوق؛ لأن «الذوق مسألة ذاتية، والسبيل إليها هو التجربة وحدها».

وعلى ذلك راح ابن حزم يحاكم الخطاب الصوفي بغير شروطه؛ أي: بما لا يصلح أن يكون حجة عليه، في حين «لم ينكر المتصوفة وجود التباين والاختلاف في أقوالهم، وهو ما عده النقاد تناقضاً». وقد تفطّن الصوفية إلى اختلاف مستويات المعرفة واختلاف الإدراك وتغاير التلقي؛ وذلك حينما قسموا المعرفة إلى ظاهر يطفو فيها المعنى على السطح، وباطن يتوارى فيها المعنى إلى الأغوار.

ومع ذلك فهم ـ من باب الاعتراف بالآخر وحقه في امتلاك المعرفة ـ لم يقصوا الفهم الظاهري، ولكنهم لم يجعلوه الفهم الوحيد، يقول الأمير عبد القادر الجزائري عن هؤلاء الذين ينكرون عليه وعلى أمثاله: «لا نجادلهم بل نرحمهم، ونستغفر لهم، ونقيم لهم العذر في أنفسنا في إنكارهم علينا».

إن المتصوفة لم يكونوا مجافين للعقل مجاناً أو جزافاً، وإنما اعترضوا على استخدامه فيما لا يجوز له، حين يقف عاجزاً عن استكناه الدواخل الغائرة، فرفْض العقل من المتصوفة ليس عجزاً منهم عن استخدامه، أو عدم التحكم في آلياته؛ وإنما لأن بنية النظام المعرفي الصوفي لا تقوم على ذلك أساساً. وإلا كان المتصوفة رؤوساً وأعلاماً في المنطق والفلسفة والمحاججة والرد بالبراهين.

ولا أدل على ذلك من الغزالي الذي خَبَرَ الفلسفة وسَبَرَ أغوارها، وانتقدها نقد الخبير فقد كان منطقياً عقلانياً من الطراز الرفيع النادر، ومع ذلك عزف عن ذلك المنهج البرهاني. إلا أنّ معرفتهم ليست عقلية، بل قلبية قائمة على التلقي عن طريق الإلهام؛ فهي «من وراء طور العقول، وظواهر العقول، خارجة عن أنواع الاكتساب والنّظر في كتاب».

فالقضية إذا لا ترتبط ـ كما يُزعم ـ بعجز المتصوفة عن مسايرة العقل والمعقول؛ وإنما يرجع الأمر إلى طبيعة النظام المعرفي الصوفي الذي يقوم على بنية مغايرة تماماً لبنية العقل، وهو ما لم يستوعبه زكي نجيب محمود الذي قايس اللامعقول (التصوف) على المعقول، بحيث اكتفى في الحكم عليه من الجانب الفني، لاغياً إمكانية المعنى فيه، رافضاً بُعدَه المعرفي، وبذلك فإن التصوف في نظره مقبول فنياً، مرفوض معرفياً، باعتباره خطاباً يتلاعب بالألفاظ. وهي نظرة تذكرنا بقراءة الفقهاء لشعر أبي نواس، فكانت اللذة فنياً، والرفض أخلاقياً، وفق مقولة الفقيه: أَحْسَنَ، لعنه الله.

لقد تعلل العقليون والمنطقيون والظاهريون والوضعيون في قراءة المعقول دون اللامعقول، من خلال مسار العقل الذي يسري حكمه في الزمان والمكان، «وكأنّ العقل أصبح في الحدود القصوى ليس فقط أداة للبحث، بل المعيار الأول، وهو ما يؤدي في النهاية إلى إبطال معنى الغيب الذي هو المنطق والأساس». ولهذا دعا زكي نجيب محمود إلى الانتقاء في قراءة تراث السلف، ورأى أنه لا ينبغي أن نقبل «من تراثهم إلا المعقول وحده؛ لأنه ـ دون اللامعقول ـ هو الذي يجاور حدود مكانه وزمانه، فما قبله العقل يوماً فإنه يقبله كل يوم، وأما ما أرضى اللاعقل فينا يوماً فقد لا يرضيه حين تتغير الظروف».

فما يلاحظ أن زكي نجيب محمود جعل المعرفة العقلية مطلقه تتجاوز الزمان والمكان، تفرض حضورها بتجدد، وهو ما يكذبه تاريخ الفلسفة نفسُه، فلقد انتهى الغزالي العقلاني صوفياً، وكذلك المفكر الفرنسي روجيه غارودي وغيرهما كثير من المفكرين والشعراء.

ويزيد المتصوفة من تهوين شأن العقل في الأمور الذوقية، فيجعلون معارفهم ليست ملزمة، وإنما هي حالات يعيشها الصوفي، وينازلها ذوقا، فتولد فيه توتراً خارجاً عن إدراك العقل، ولذلك فهي حال وذوق، والذوق خاص وليس عاماً. ثم إن هذه المعارف تختلف باختلاف الحال والمقام، حيث يتداخل هذا بذاك، وهو ما «يدفعنا إلى تذكر أن كبار الصوفية لم يقصدوا أن يجعلوا معارفهم تشريعاً ولا إلزاماً لغيرهم، وإنما الأمر يتعلق أصلاً وقبل كل شيء حسب رأيهم ببلوغ التأحد الصوفي الذي تصبح فيه المعرفة الإلهامية نتاجاً وليس غاية».

فالملاحظ من خطاب التصوف أنه يؤمن بالآخر، ويؤمن بالاختلاف من حيث هو أصل الوحدة، لهذا كان ابن عربي ظاهريا في العبادات باطنياً في السلوك والأذواق، بل إن نظرة عجلى لكتب التراث الصوفي تكشف لنا ذلك التسامي فوق الأنا إلى التسامح، والاعتراف بحق الاختلاف. وإنْ تَعاملَ المتصوفة بالباطن فإنهم لم يلغوا الظاهر.

ولذلك تعاملوا مع الطوائف الأخرى ـ من باب المغايرة والاختلاف ـ تعامل الموجود بالفعل، وهو ما دفع بالحلاج إلى الغضب غضباً شديداً منْ ذَاكَ الذي سب اليهودي، وردَّ عليه الحلاج ردّ المؤدب فقال: «يا بني، الأديان كلها لله 8 ، شغل بكل دين طائفة لا اختياراً فيهم، بل اختياراً عليهم»، ثم إن الحلاج نفسه لم يلم قاتليه؛ بل عذرهم؛ لأنهم حكموا على ظاهر ما قال، ورأى أن ذلك أحبُّ إليه غيرةً ـ من هؤلاء الذين صدقوه واعتقدوا فيه الولاية ـ على دين الله تعالى. وفي ذلك يقول الأمير عبد القادر الجزائري راداً على خصومه:

جمالنا بعلـوم أنت تجهلها

بها حـبانا الذي أهدى وجمّلنا

عرفنا كلّ الذي وصفتمونا به

ونحـن أعرفُ منكم بأنفسنا

فأنتم عـندنا أرواح طاهرة

ونحن عندكم رجس أجاهلنا

هكذا يظهر الفكر الصوفي تسامحاً واعترافاً بالآخر، تفرضه طبيعة النظام الصوفي، بل طبيعة الحياة نفسها «وإذا كان الاختلاف في شؤون الحياة والمجتمع هو اختلاف مصالح وأعراض، فإن الاختلاف في شأن الدين والعقيدة هو اختلاف تأويلات»، يفرضها اختلاف الرؤى والتصورات، واختلاف الخلفيات والمرجعيات. وانطلاقاً من هذا الوعي الإشكالي والمعرفي والمرجعي فإن المتصوّفة لا يشغلون أنفسهم بالرّد أو الاعتراض أو المساجلات والمناظرات، «وإن كان ولا بد فليقل كما قال الخضر لموسى 6 : (أنت على علم علّمكه الله، إنا على علم علمنيه الله ). ولهذا فإن الآخر لا يتحقق إلا بوجود الآخر الذي يفارقه ويغايره، ولا يطابقه أو يماثله وإلّا انتفت سمة المغايرة، «وعليه فإن الدلالة ونظامها يعتمد أساساً على الاختلاف».

هذا الاختلاف تفرضه القراءة المفارقة التي تتعامل مع الظاهر والباطن، من حيث هما طرفا نقيض من جهة، وطرفا تكامل من جهة ثانية، وعلى هذا فإن المتصوفة يقولون بالظاهر وفي الآن ذاته يعتّدون بالباطن، وبذلك يرى المتصوفة أن الذي «يجرد بالظاهر حشوي، والذي يجرد الباطن باطني، والذي يجمع بينهما كامل».

فالقراءة الحرفية إنما هي تماه وتطابق مع منطوق النص، بحيث تعيد إنتاجه، فتكرره، وتستنسخه، ولا تقول شيئاً غير ما قاله النص؛ «ولهذا لا يخرج المرء عن جادة الصواب إذا ما ادعى بأن القراءة الموضوعية للأدب هي أمر نسبي إن لم تكن أمراً متعذر الحدوث»؛ ولهذا فإن القارئ لا يكون متلقياً سلبياً أمام النص؛ وإنما يضيف إليه ويستدرك عليه، «وفي ظلال هذه النسبية لن تكون هناك قراءة واحدة للموضوع الواحد بل قراءات متعددة بتعدد القراء والدارسين، ويختلف بعضها عن بعض باختلاف الزمان والمكان، أو جملة الظروف التي تشترط كل قراءة». وعلى ضوء هذا الفهم فإنّ النّص يبقى مجالا للتأويلات والقراءات، «فلا سياق بقادر على أن يحدّ دلالة النّص، ولا قرينة بكافية لأن تقيّده بتأويل بعينه».

إن بين النص وقارئه تماهياً أو تنافراً، توحداً أو اختلافاً، حيث ينطق النص تارة، ويسكت تارة أخرى، يسائل القارئ ويختبر قدراته وخبراته وثقافته وميوله ورغباته. والنص ـ أيّ نص خالد ـ يترسب فيه المعلوم (المنطوق)، والمجهول (المسكوت عنه) يفضي الأول إلى الثاني، فيتجدد المعنى بتجدد القراءات، فيكون عبارة عن «حركية من الدلالات. إنه بتعبير آخر لا يقدم اليقين؛ بل الاحتمال، إنه نص يتجدد مع كل قراءة، لا ينتهي ولا يستنفذ.

هذا ما يميّز الأعمال الشعرية الخلاقة» عامة والنصوص الصوفية على وجه الخصوص، حيث لا تنغلق على قراءة واحدة، وهو ما يعطي النص إمكانية الاستمرار، باعتبار أنّ إمكانية القراءة والتأويل كامنة في بنية النّص نفسه، لا تُعرض من خارج النص، من حين حفل تتجاذبه الإمكانات المتباينة، على أن «اختلاف الاجتهادات وتباين التأويلات دليل على تنوّع الدلالة وثراء المعاني؛ أي علامة على حيوية الثقافة وازدهارها، فالتأويل يفترض تعدد الدلالة، وينشأ من الاختلاف والفوارق».

فالمعنى في الخطاب الصوفي لا يُستهلك ولا ينتهي؛ لأنه لا يملك إحالة مرجعية تقيّده، بل يظل قابلاً للقول، فينشأ قول على قول، حيث يكون فيه المعنى «هو المعنى الماورائي الذي يفلت من كل تحليل عقلي، والذي يتعذر إدراكه من المعاني الأولى التي يهجس بها الإنسان»؛ أي أن المعنى يبقى مؤجلاً مضمراً في القراءات الأخرى، فالمعنى إذن في الخطاب الصوفي لا وجود له في النص إلا بوجود القارئ، وهو الذي يكتشفه ويضيف إليه أو يستدرك عليه.

ومن ثمة يتأكد بطلان خرافة الحياد التي لا وجود لها إلا على المستوى الافتراضي، وإلا صارت القراءات مجرد تكرار وإعادة نسخ. وبذلك ينتفي فعل القراءة؛ ولهذا فإن المعنى لا ينتهي ولا يستنفد ما دامت ثمة قراءات «لا تعرف الاستقرار والثبات، فإنها تبقى مؤجلة ضمن نظام الاختلاف، وهي محكومة بحركة حرة أفقية وعمودية دونما توقع نهاية محددة».

وهكذا تكون حركة المعنى في الخطاب الصوفي بين الدال والمدلول لا ترتبط ارتباطاً آلياً، خصوصاً إذا «عرّفنا المعنى بأنه: علاقة متبادلة بين اللفظ والمدلول»؛ غير أن الدال في الخطاب الصوفي يرتبط بمجموعة لا نهائية من المدلولات، قد لا يفرضها السياق الخارجي ـ بتعسف ـ وإنما ترتبط ببنية داخلية، تولدها القراءات المتوالية لمتن النص، «وبذا فإن تنازع القراءات فيما بينها للخطاب يفضي إلى متوالية لا نهائية من المدلولات لا يمكن لأحدها أن يستأثر بالاهتمام الكلي دون الآخر، فلا ضوابط رياضية توقف هدير الدلالات».

وبذلك لا يكون هناك مركز نواة للمعنى؛ وإنما هناك تشظي وانشطار على الدلالات المنفتحة. وهو ما أشار إليه الباحثان «رتشاردز وأجدن» بخرافة المعنى الأصلي، حيث تتوالد وتتناسل الدلالات، وهو ما ركزت عليه التفكيكية، في القضاء على الفكر الأفلاطوني المثالي، حيث تم عزل فكرة مركزية المعنى وأحاديته، إلى تعدد المعاني والدلالات، وذلك يعني: «تكاثر المعنى وانتشاره بطريقة يصعب ضبطها والتحكم بها».

فالقراءة إذن هي التي تمنح النص شرعيته وخلوده وجدارته الفنية، وكلما كان النص أكثر قابلية للقراءة كان أكثر انفتاحاً على الآخر، وبالتالي يكون أكثر توليداً للمعنى الذي يتعدد بتعدد وتغاير القراءات، لذلك فإن الكلام على الكلام صعب، على حد قول التوحيدي، وهو ما يولدّ المغاير والمختلف من المتجانس المؤتلف، بل يُولّد بعضها بعضاً «فلا شيء في الإبداع من لا شيء، وما في الذات مسكون بحضور الآخر قليلاً أو كثيراً بشكل أو بآخر».

على أنه ليست ثمة حدود فاصلة بين أنظمة المعرفة، فكثيراً ما يحضر بعضها من بعض ـ بشكل أو بآخر ـ على تقسيمات الفكر إلى بيان وبرهان وعرفات تقسيمات واهية، وإن كانت فعلى سبيل الإجراء العلمي والمنهجي فحسب، فقد تُزاح أنساق معرفية على حساب أخرى؛ لكنها تحضر خفية غير جلية، وباطنة غير ظاهرة، فحتى ابن تيمية بما عُرف عنه من هجومه الشديد وحملته العنيفة على الفلسفة وعلم الكلام والتصوّف ـ «يهاجم بشدة مفكرين ينتمون إلى هذه الحقول في أماكن كثيرة، ويأخذ منهم أعمق أفكارهم من جهة ثانية».

وهكذا تتحدد الهوية باعتبارها انفتاحاً على المختلف فلا وجود لهوية متجانسة، وإنما يعني التجانس ـ دون اختلاف ـ انغلاقاً على الذات؛ فالمختلف يشكل المؤتلف شرط الاعتراف «بالآخر» مقابل «الأنا» حيث يتم التفاعل بينهما مشكلاً التعدد، من حيث هو سابق في الجبلة الإنسانية، بالاستناد إلى اختلاف المرجعيات والقراءات والتأويلات.

وبالتالي القناعات والتوجهات، وهو «أمر حرصت الشرائع على التعامل معه بوصفه حقيقة سابقة عليها، ولم تَسْعَ الشرائع لإلغاء التعددية أو للقضاء عليها بدليل أنها انطوت في بنية خطابها ـ الخطاب الإلهي ـ على تعددية مماثلة تجعل الخطاب مفتوحا لآفاق التأويل والفهم»، ولهذا فإن القارئ لا يدخل النص أعزل أو يواجهه بسلبية، وإنما يواجهه بقراءات سابقة عليه، تفعل فعلها في خفوت، «فأنت حين تقرأ توظف مضمراتك وما انطوى فيك من قوى حصلت عليها في زمن سابق على زمن القراءة»، لذا لا تكون القراءة مجرد فعل آني، إنما هي فعل تراكم قبلي.

أما إذا كان النص منغلقاً على المعنى الأحادي، أو تم حمله عليه قسراً؛ فإن ذلك يفضي إلى احتجاب المعنى، وجعله ذا بُعد واحد، غير قابل للتعدد، فتنتفي منه سمة الاحتمالية أو الترجيح، فيغيب فيه المسكوت عنه، ويطفو على سطحه منطوقه، وهو ما يفرض قراءه أحادية نمطية، «وهي لا تختلف عن النظر بعين واحدة، وتظل دائماً قاصرة عن استيعاب الجوانب الشاملة للعملية الإبداعية التي هي عملية سيكولوجية واحتمالية وتاريخية معقدة»، وتظل قاصرة في الآن ذاته عن عملية التأويل، فيكون المتلقي في حالة من السلبية؛ بحيث لا يشارك، أو يسائل، أو يشاكش أو يناوش.

فالمعنى ـ بهذا المفهوم ـ لا وجود له بذاته؛ لكونه مختبئاً، لا يظهر بذاته إلا بعد عنت واستقصاء؛ لأنه خفي غائر، لا وجود له مستقلاً عن المتلقي، ولهذا تدثرت النصوص الخالدة بالغموض والاختلاف؛ لأنها نصوص إشكالية، من المتشابه الذي لا يُفصل فيه بتأويل واحد، بل تظل تخضع لتأويلات كثيرة متآلفة حينا ومتنافرة حينا آخر، «فتتوالد بفعل الكتابة مثل تيار متدفق فينتج الدال دالا آخر في لعبة متواصلة دون أن يتيح سيل الدلالات لمدلول ما أن يفرض حضوره؛ أي أن يتعالى؛ ومن هنا يأتي الإصرار على عدم الاعتراف بوجود حدود تحصر المعنى»، وبذلك ينتفي ما يسمى ـ تجاوزاً ـ المعنى المركزي، فينفتح النص بالتالي على قراءات أخرى متجددة لا تحصره في خانة ما.

هذا الاختلاف كامن في بنية اللغة نفسها التي تحمل المعنى ونقيضه؛ ولذا فالنص تلده اللغة، ثم ينفلت من إسارها الضابط، بحيث يخرج المعنى من محدودية القواميس إلى إمكانية دلالية أخرى. ومن ثمة فإنه لا يمكن قراءة الخطابات بمفهوم اللغة القاموسي؛ إذ ترى الدراسات الحداثية ـ والتفكيكية على الخصوص ـ أن النص «هو ابن اللغة العاق، فهو المختلف عنها، وهو الذي لا يفتأ يسائلها، وهو الذي لا يفتأ يغيرها حتى لا تستكين إلى ممارسة آلية متكررة»، فاللغة إذن ـ من هذا المنظور ـ مادة النص؛ لكنه يرفضها في الآن ذاته؛ لأنها معطى قار ثابت يرتبط فيها الدال آلياً بمدلول ما.

فليست إذن هناك قراءة بريئة حيادية بمفهوم الاختلاف، فكل قراءة تبحث عما تريد اكتشافه وتقصي ما لا تريد، ولهذا فإن القراءة تتوزع بين الحضور (بنية النص) باعتباره دالاً، والغياب (المعنى) باعتباره مدلولاً؛ أي: أن الدال ماثل والمدلولات بعضها ماثل في الحضور وبعضها غائب مُرْجَأ إلى قراءات أخرى تستكشفه وتبحث في غيابه، «وإعادة الإنتاج هذه تكون تكرارية لا تفعل سوى أنها تعيد تركيب الأفكار ذاتها بمفردات متماثلة، ومفاهيم مستنسخة». فالنص الصوفي ـ من هذا المنظور ـ ليس «حاضراً إلّا في غيابه، وليس غائباً إلّا في حضوره. إن حضور الغيب يكشف عن لا نهائية، يكشف عن أن هذا الحضور المعاين ليس إلّا صورة لا تحيط بكليته، وعن أنه ليس إلّا غياباً».

فالغياب ـ من منظور الاختلاف ـ يظل خبيئاً من النص يؤثر عليه الحضور، يشير إليه ولا يقوله، ويومئ إليه ولا يحدده، ولذلك فإن النص يتأرجح بين الحضور (المنطوق) والغياب (المسكوت) عنه، «وفي أي حال إن النص العام ليس مساحة متجانسة، أو نسقاً محكم الإغلاق، أو خطاباً وحيد الاتجاه وأحادي البعد والمستوى؛ وإنما هو بنية تتسم بالتشابك والتداخل، أو تكوين يتسم بالتراكب والتراكم، ما يتيح لنا أن نقرأ فيه ما نريد حجبه أو استبعاده. بهذا المعنى فإن النص يحيا ويتجدد بتجدد قراءته واختلافها».

فالقراءة هي التي تنتج المعنى وليس ثمة معنى قائم بذاته؛ وإنما المعنى يتعدد بتعدد القراءات، وإن كانت تتصادم أو يلغي بعضها بعضاً فإن كل خطاب لا يصح أن يكون حجة على خطاب، باعتباره قراءة ضمن القراءات، تنطق وتصمت، وتقول وتكتسب، وتشير ولا تفصح، وتوحي ولا توضّح…وهكذا فكل قراءة تسعى إلى التأويل ضمن شروط معينة، و«خاصة إذا كان الأمر يتعلق بأشياء معنوية؛ أي: بمعنى المعنى، عندها ممكن القول بأن كل معنى هو انتهاك لمعنى آخر، وكل تعريف هو تأويل للخطاب يحيل إلى تأويل آخر. وهذا شأننا مع «المعنى» نفسه؛ فنحن لا نقبض على معناها الصرف أو مفهومها المحض؛ وإنما نجد أنفسنا كما بحثنا وراء القصد والمعنى إزاء سلسة من التأويلات لا نهاية لها».

لقد كانت القراءة الأحادية لا تنتج شيئاً أكثر من إعادة إنتاج النص نفسه، بحيث تتماهى معه باعتباره نظاماً مغلقاً لا يقبل الآخر، بل لا تؤمن بقبوله، ولهذا فهي تتماهى ولا تتغاير، تتوحد ولا تختلف. وبناء على ذلك فهي ترفض الآخر ولا تحاوره، مما ينتج التصادم من خلال عدم الاعتراف إلا بالذات، ورفض كل قراءة مخالفة ومغايرة أو مناقضة، مما يحتم على الآخر (المرفوض) اتخاذ موافق تحمي هويته، فيكون الرفض متعاكساً.

فالهوية ـ إذن ـ بهذا المفهوم ليست تماهياً، بل يستحيل أن تكون كذلك، وإلا كان المجتمع تكراراً ونسخاً واجتراراً ونمذجة؛ لا تنتج إلا الأنا المتشابهة، «فالهوية ـ بحسب هذا القول ـ كينونة منغلقة، وليس الآخر موجوداً بالنسبة إليها إلا بقدر ما يتخلى عن هويته ويتحول إليها، وينصهر فيها، فهي إما أن تمجد الآخر للتماهى معه، وإما أن تهجوه لكي تنبذه وتستبعده».

وعلى ذلك فإن مفهوم الهوية لا يقوم على مبدأ التجانس؛ بل يقوم على مبدأ التغاير والاختلاف، فيكون المختلف داخل المؤتلف أي التغاير داخل الوحدة، فتتجدد العلاقة داخل هذا التغاير بتجدد طبيعة الجدل بين الأنا والآخر، إما بالتواصل أو الانفصال، مما يتيح تضخم «الأنا» أو الاعتراف بالأنا والآخر، وقبول التعدد والتنوع، وإمكانية المفاضلة.

فالاختلاف يعطي فرصة الترجيح، وقبول هذا أو رفض ذاك، على أساس من الموازنة، و«معنى ذلك أن الهوية في المنظور الإبداعي ليست في إنتاج الشبيه؛ وإنما هي في إنتاج المختلف، وليست الواحد المتماثل، بل الكثير المتنوع. فالهوية إبداع دائم» وإلا تنتفي الموازنة، وتبطل المفاضلة؛ لأن ذلك يقتضي شيئين مختلفين، ويستحيل بين الشيء ونفسه.

إن المطابقة والتماهي تبحث عما هو مُكتَشَف ضمن منطوق المقولات، وهي لا تفعل شيئاً أكثر من أنها تُعرّفنا بما كنا نعرف. أما البحث عن المختلف، فإنه يترسب فيما لم يُقل، أو المسكوت عنه، ولذلك كان فعل المطابقة اختزالاً لما قيل، أو تنويعاً له ضمن البنى الفكرية التي تفرضه، أو ستفرضه فيما بعد بأشكال متطابقة متناسخة متماهية، يشبه فيها الأول الأخير.

ولذلك لا يمكن قراءة الخطاب الصوفي إلا بقراءة تأويلية، تتجاوز المعطى القبلي وتكشف عن مستوياته الدلالية؛ بحيث «تفتح القارئ على رغبة اللغة، ويبدأ البحث عما هو مغيب فيها» حيث تسهم القراءة في اكتشاف مالم يُكتشف، وتعيد تعريفنا بما لم نكن نعرف؛ بل «تسهم في إنتاج مفاهيم جديدة وانزياحات جديدة تعيد ترتيب العلاقات بين العناصر الثقافية التي أصبحت مألوفة».

فاللغة ـ إذن من هذا المنظور ـ مادة التصوف لكنها عدوه الأكبر، من جهة هي أداة المتصوف؛ بحيث لا غنى عنها في التوصيل والتبليغ إلى حد مستوى ما؛ لكنها تتحول إلى عقبة معطلة أمام إنتاج المعاني، فتصير اللغة عاطلة ومعطلة، عندئذ لا تستطيع حمل ما لا يقال (المسكوت عنه)، فتكون عدواً للصوفي؛ لكونها لا تستطيع الكشف إلا ضمن ما تعورف عليه من المحسوس، فيقع الصوفي في المحظور من حيث أراد اجتنابه.

ولهذا يجد الخطاب المؤسسي ذريعة لنفي الخطاب الصوفي، ووسمه بما يجعله ـ في ذهن الآخر ـ مرادفاً للضلال والزندقة والكفر. وبذلك تترسّم وتترسّخ دلالة نفي الآخر، وعدم الاعتراف به ضمن مكونات الهوية التي لا يتجانس فيها المختلف بقدر ما يتغاير، باعتبارها ليست «معطى، أو ليست ائتلافاً وتماثلاً مع جوهر ثابت مسبق»؛ وإنما يتفاعل فيها الثابت بالمتحول، حيث يكرس الأول جوهر الائتلاف، ويدفع الثاني إلى فعل الاختلاف، على «أن الاختلاف آية من آيات الخلق، وسبيل إلى التحرر والتطوّر، وأداة للتعارف، وبه تتوالد الدلالة وينبجس المعنى، وهو نعمة ورحمة»، وبذلك تأسس المختلف داخل المؤتلف؛ أي: المتغاير داخل ما يسمى بالهوية.

ومع كل ذلك فإن الاختلاف ـ من حيث هو واقع يفرضه الوجود الإنساني وتنوعه ـ ليس مطلوباً لذاته، ولذلك ـ كما يقول الدكتور مصطفى ناصف ـ فإن «الاختلاف حق، ولكل حق ما يقابله من واجب، إنني لا أعيش من أجل الاختلاف، أنا أعيش من أجل التوافق… إذا خالفت فإنني أسعى إلى توافق أفضل، أنا أختلف لكي أفهم، ولا أقدس الاختلاف لذاته، الاختلاف ليس هدفاً» بقدر ما هو غاية إلى إقامة جسر للتواصل والتفاعل؛ إذ الاختلاف لا يكون إلا داخل الائتلاف، وهو ما يشكل مفهوم الهوية.


أحمد بوزيان: أستاذ العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة عبد الرحمٰن تيارت، الجزائر.


بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى