الاستشراقفكر وفلسفة

“إدوارد سعيد” .. إنتاجاته وأنشطته الأكاديمية

في سنة 1963، انضم «إدوارد سعيد» إلى جامعة كولومبيا قسم اللغة الإنكليزية والأدب المقارن وبقي حتى وفاته سنة 2003. كما عمل أستاذاً زائراً للأدب المقارن في جامعة هارفرد سنة 1974.


وسنة 75-1976 أصبح زميلاً لمركز الدراسات المتقدمة للعلوم السلوكية التابع لجامعة ستانفورد، وسنة 1977 أستاذاً مساعداً للغة الإنكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا، وفي وقتٍ لاحقٍ أستاذ مؤسسة أولد دومينيون في العلوم الإنسانية، وسنة 1979 أستاذاً زائراً في جامعة جونز هوبكينز.


كما عمل أستاذاً زائراً في جامعة ييل وحاضر في أكثر من مئة جامعة وحصل سنة 1992 على لقب أستاذٍ جامعيٍّ في جامعة كولومبيا وهي أعلى درجةٍ علميةٍ أكاديميةٍ. كما عمل رئيساً لجمعية اللغة الحديثة، ومحرراً في فصلية «دراسات عربية».


وكان عضواً في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم وعضو تنفيذٍ في نادي القلم الدولي والأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب والجمعية الملكية للأدب والجمعية الأمريكية للفلسفة.


دُعي إدوارد سعيد عام 1993 لإلقاء محاضراتٍ في البرنامج الإذاعي السنوي محاضرات ريث في الـ بي بي سي ليقدمَ في ست حلقاتٍ محاضراتٍ بعنوان «تمثيل المثقف» وهي تبحث دور المثقفين في المجتمعات الحديثة، وقد أتاحتها الـ بي بي سي للعامة سنة 2011.


وكان ينشر بشكلٍ مستمرٍّ في دورية ذا نيشن وصحيفة الغارديان ومجلة لندن ريفيو أوف بوكس وصحيفة لوموند ديبلوماتيك وصحيفة كاونتربونش وصحيفة الأهرام القاهرية إضافة إلى صحيفة الحياة اللندنية.


كتاباته المترجمة إلى ستٍ وعشرين لغة شملت قضايا سياسية وأدبية وشؤون الشرق الأوسط والموسيقا والثقافة.


كان إدوارد سعيد متقناً للغات الإنكليزية والعربية والفرنسية، وعلى الرغم من إقامته منذ سنٍّ مبكرٍ في الولايات المتحدة إلا أنه كان قارئاً ثم كاتباً مواظباً بالعربية على عكس عديدٍ من الكتاب العرب ممن عاشوا في الغرب.


  • أهم أعماله الأكاديمية

فاتحة أعمال «إدوارد سعيد» كتاب «جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية Joseph Conrad and the Fiction of Autobiography» الصادر سنة 1966 وهو امتدادٌ لأطروحته للدكتوراه. بعد ذلك مستنداً لأفكار الفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا فيكو (1668–1744) وآخرين وضع كتاب «بدايات: القصد والمنهج» سنة 1974 ليشرح وجهة نظره في الأسس النظرية للنقد الأدبي.


ومن بين كتبه النقدية «العالم والنص والناقد» سنة 1983 ويمثل انطلاقة جديدة للنظرية الأدبية المعاصرة، وفيه يبين التأثيرات العقائدية (الإيديولوجية) على الناقد بحيث يتم فرضُ أعمالٍ أدبيةٍ تلبية لهذه النظرية أو ذاك النظام الإيدولوجي.


رأى سعيد أن على الناقد الأدبي أن يحافظ على مسافةٍ واحدةٍ من جميع الثقافات، والعقائد الإيديولوجية، والتقاليد، والمعتقدات. سنة 1994 نشر «تمثلات المثقف» مجموعة محاضراتٍ ألقاها في الـ بي بي سي عن ظهور المثقف الإعلامي والتمايز بين أنواع المثقفين بين مثقف يرتبط بمؤسساتٍ تستخدم المثقفين لتنظيم مصالحها.


واكتساب المزيد من السلطة والسيطرة أي إن وظيفته تغيير العقول وتوسيع الأسواق، ومثقف تقليدي يقوم بعملٍ ما ويواصل القيام به من دون تغيير جيلاً بعد جيل مثل المدرس والراهب والإداري، ومثقف نخبوي يعتبر نفسه ضمير الإنسانية.


عبّر سعيد عن اهتماماته الموسيقية في كتاب «متتاليات موسيقية» سنة 1991 محاولاً ربط الموسيقى ببعديها الثقافي والسياسي، كما نشر العديد من الأعمال التي تخص القضية الفلسطينية مثل كتاب «قضية فلسطين» سنة 1979 منطلقاً من بداية الأحداث بولادة الحركة الصهيونية وانتشار إيديولوجيتها ضمن الثقافة الاستعمارية الأوروبية وتشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين.


وفي الوقت ذاته عرض نبذةً عن تاريخ الشعب الفلسطيني مقدماً عرضاً شاملاً حول الخصائص السكانية والاجتماعية المميزة لهذا الشعب، ومن خلال عرض كمٍّ كبيرٍ من الوثائق وتفسيرها يصر إدوارد سعيد على قضية أن فلسطين -في القرنين التاسع عشر والعشرين- لم تك صحراء لا شعب فيها بل مجتمعًا مَدَنِيًّا ذا كيانٍ سياسيٍّ يناهز تعداده ستمائة ألفٍ.


في سياق انتقاده اتفاقية أوسلو ألّف كتابين «غزة-أريحا: سلام أمريكي» و«أوسلو: سلام بلا أرض» سنة 1995. لإدوارد سعيد ثمانية عشر كتاباً في مواضيع شتى إلا أن «الاستشراق» صُنِّفَ كأحد أهم أعماله إن لم يك أهمها فعلاً إذ شكَّل بداية فرع العلم (الحقل الأكاديمي) الذي يعرف بدراسات ما بعد الكولونيالية وفيه اعتبر ظاهرة الاستشراق لم تك إلا تلبيةً لحاجة المجتمعات الاستعمارية.


وأتبعه بكتابيه «قضية فلسطين» (1979) و«تغطية الإسلام» (1980) اللذين اعتبرهما تكملة له، ثم «الثقافة والإمبريالية» (1993) الذي قال عنه في مقدمته إنه بمنزلة الجزء الثاني لـ«الاستشراق» لتشكل سلسة كتبٍ يحاول فيها أن يشرح العلاقة المتشابكة والمعقدة القائمة في العصر الحديث بين العرب والإسلام والشرق عموماً والغرب متمثلاً ببريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة خصوصاً.


  • الاستشراق

أقوى سلاحٍ في يد القامعين هو عقول المقموعين -ستيف بيكو-


“الاستشراق – المعرفة – السلطة – الإنشاء”، الترجمة العربية الأولى (1980).

عُرف إدوارد سعيد بشكلٍ كبيرٍ بفضل وصفه ونقده الاستشراق Orientalism. شرع في كتابة أشهر كتبه طرّاً «الاستشراق» في الفترة ما بين 75-1976 وهي التي عمل فيها أستاذاً زائراً بجامعة ستانفورد.


وعن عمله في الكتاب يقول: «هذا الكتاب نما بطرقٍ لم أشهدْ مثيلاً لها، ثم وعلى نحوٍ مفاجئٍ أصبح هذا الكتاب شيئاً أكبر، أصبح التاريخ الكامل لتمثيل الآخر. أعتقد أنه أحد أوائل الكتب التي حاولت القيام بذلك.


لم يكنِ الكتاب مجرد عملٍ فكري بل حوى كذلك الكليشيهات [القوالب النمطية] التي اتّبعتها الدول الاستعمارية لفرض هيمنتها على المستعمرات».


وسَمَ «سعيد» الاستشراق بعدم الدقة، والتشكل على أساس التصورات الغربية عن الشرق. يعلق في كتابه بأنّ الاستشراق:


إدوارد سعيد تحيز مستمر وماكر من دول مركز أوروبا تجاه الشعوب العربية الإسلامية. إدوارد سعيد
لذلك فهو يرى الاستشراق بصورةٍ أعمّ من صورة المبحث الأكاديمي.


إنه تقليدٌ أكاديمي يقوم على التمييز المعرفي والوجودي بين الشرق والغرب لتتطور هذه النظرة أواخر القرن الثامن عشر فتغدو أسلوباً سلطوياً في التعامل مع الشرق من أجل الهيمنة عليه:


إدوارد سعيد إذا اعتبرنا القرن الثامن عشر نقطة انطلاقٍ عامةٍ إلى حدٍّ بعيدٍ استطعنا أن نناقش الاستشراق بصفته المؤسسة الجماعية للتعامل مع الشرق، والتعامل معه معناه التحدث عنه واعتماد صورةٍ معينةٍ عنه، ووصفه وتدريسه للطلاب وتسوية الأوضاع فيه والسيطرة عليه.


وباختصار بصفة الاستشراق أسلوباً غربياً للهيمنة على الشرق وإعادة بنائه والتسلط عليه. إدوارد سعيد
ورأى أن الدراساتِ الغربيةَ عن الشرق حُبلى بالريبة ولايمكن الوثوقُ بها إطلاقاً.

وأضاف إن تاريخَ الحكم الاستعماري والهيمنة السياسية على الشرق من قِبَلِ أوروبا شوّهت هذه الدراسات حتى كتابات المستشرقين ذوي النيّاتِ الحسنةِ أو ذوي المعرفةِ الجيدةِ بالشرق:


إدوارد سعيد أشك بأن هناك من يختلف معي بأن رؤية رجلٍ إنكليزي من القرن التاسع عشر مقيمٍ في الهند أو مصر أكثر من رؤيته لهذين البلدين على أنهما مستعمرتان بريطانيتان [بمعنى أن هويتهما (ليس الاقتصادية فحسب بل الاجتماعية والثقافية وغيرهما..) محدّدةٌ بوصفهما تابعتين لبريطانيا].


وهذا القول يختلف تماماً عن القول بأن الدراسات الأكاديمية عن مصر والهند مصبوغة ومشوبة نوعاً ما بالواقع السياسي العام [بمعنى أكثر عمقاً ومُباينةٌ تماماً لمجرد التأثر بالواقع السياسي] إدوارد سعيد
[هذا الفرْضُ [الإلزام] الإمبريالي المستند راسخاً إلى الأفكار والتصورات النمطية الاستشراقية نراه -بعد قرنين من الاستعمار الأوروبي- واقعاً ملموساً.


إن مجتمعين كمصر والجزائر مثلاً ينتسبان تاريخياً إلى هويةٍ حضاريةٍ مشتركةٍ واحدةٍ يختلفان في الحاضر تبعاً لتبعيتهما الاستعمارية التي تُلوّن كلاً منهما ثقافياً واجتماعياً.. وحتى نتاجاً أدبياً].


جادل «سعيد» بأن الصور الرومانسية التقليدية الأوربية تجاه ثقافة آسيا عموماً والشرق الأوسط خصوصاً ماكانت إلا تسويغاً للغايات الاستعمارية الإمبريالية للدول الأوروبية والولايات المتحدة من بعد مندداً في الوقت نفسه بممارسة النخب العربية التي حاولت استيعاب الأفكار الاستشراقية واستبطانها وتمثلها. يقول في «الاستشراق»:


إدوارد سعيد القليل جداً من التفاصيل مثل الكثافة السكانية، والعاطفة في حياة العرب المسلمين قد دخلت في معرفة أولئك المحترفين في صياغة تقارير العالم العربي. وبدلاً من تلك التفاصيل لدينا بعض الرسوم الكاريكاتورية التي تختزل هذه التفاصيل في العالم العربي الإسلامي إلى صورة النفط الخام والتي جُعلت بهذا الشكل لجعل هذا العالم عرضةً للعدوان العسكري.


ويؤكد «سعيد» في كتابه أن معظم الدراسات الأوربية للحضارة الإسلامية كانت ذات منحىً متعمَّدٍ غربي تهدف إلى تأكيد الذات الغربية بدلاً من الدراسة الموضوعية، يقول:


«إن الثقافة الغربية اكتسبت المزيد من القوة ووضوح الهوية بوضع نفسها موضع التضاد مع الشرق باعتباره ذاتاً بديلة».


ويكتب في كتابه الاستشراق: «كان المستشرق الحديث في نظر نفسه بطلاً ينقذ الشرق من مهاوي الغموض، والعزلة، والغرابة التي كان هو ذاته قد ميّزها بشكلها الصحيح». [بمعنى التي حددها بنفسه وحكم عليها بالصحة].


اعتمدت هذه الدراسات طرق تمييز الهيمنة الإمبريالية وأدواتها. إن مصر هو ما تعرفه بريطانيا عن مصر، هذا ما كان يعتمل في أذهان الشريحة الواسعة من المثقفين الإنجليز استناداً إلى الأفكار والاتجاهات الاستشراقية.


دونما كبير اكتراثٍ بمدى صحته أو حقيقة جوهره لأن الهدف لم يك بالأساس تبيّن الشرق واستيضاحه وفهمه بقدر ما كان إعادة إنشائه -في موقع التابع الأضعف- وضمان استمرار السيطرة عليه.


رأى «سعيد» أن لدى الغرب رؤيةً نمطيةً عن الشرق في الفن والأدب منذ قديم العصور مثل رؤية إسخيلوس لتركيبة المجتمع الفارسي. وقد هيمنت أوروبا على سياسة آسيا في العصر الحديث، لذا فحتى نصوص أكثر الدارسين موضوعيةً كانت مخترقةً بالتحيز للغرب.


بذلك اتخذ الدارسون الأوروبيون لبوس استكشاف اللغات والأديان الشرقية وتاريخ الشرق وثقافته وتأويلها جميعاً -ذلك أن الشرقيين غير قادرين على تبيان الوقائع وسرد روايتهم الخاصة- مدفوعين [الدارسون الأوروبيون] في هذا بـ«المركزية الأوربية» الفكرة المحورية الراسخة في الحضارة الغربية، ليكتب المستشرقون ماضي آسيا [والشرق عامةً] ويشيدوا هويتها الحديثة من منظورٍ استعلائيٍّ قائمٍ على اتخاذ أوروبا كمعيارٍ ونموذج.


يخلص «سعيد» إلى أن الدارسين الأوربيين اعتبروا الشرقيين غير عقلانيين، انفعاليين وضعفاء ومخنثين على عكس اعتبارهم الشخصية الغربية عقلانيةً وقويةً وفعالةً ورجولية، ويعزو ذلك إلى حاجة الغربيين لخلق تباينٍ بين الشرق والغرب اختلاقاً ليس بمُكْنَتِهِ تغيير جوهر الشرق. فالشرق شرقٌ والغرب غربٌ ولن يمتزجا.


كان ل«لاستشراقِ» آثاراً عميقةً في مجال نظرية الثقافة، والدراسات الثقافية، والجغرافيا البشرية، وعلى التاريخ، والأنثروبولوجيا، ودراسات الشرق.


بنى سعيد جدليّاته على أعمال الفلاسفة البنيويين وبالأخص:

وعلى نقاد الاستشراق الأوائل أمثال:

  • عبد اللطيف الطيباوي (10-1981).
  • أنور عبد الملك (1924–2012).
  • مكسيم رودنسون (1915-2004).
  • ريتشارد ويليام ساوثرن (1912–2001) Richard William Southern المؤرخ المتخصص في تاريخ القرون الوسطى.
  • فرانز فانون (1925-1961) Frantz Fanon المناهض العنيد للاستعمار والعنصرية.
  • إيمي سوسير (1913–2008) Aimé Césaire.
  • الفيلسوف والمنظر السياسي الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891-1937) Antonio Gramsci.

عندما نشر إدوارد سعيد كتابه سنة 1978 كانت حرب أكتوبر (1973) وأزمة أوبك لاتزالان حديثتا العهد مشيراً إلى أن هذا الخلل في النظرة إلى الشرق لايزال مستمراً في وسائل الإعلام الحديثة.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

‫2 تعليقات

  1. السلام عليكم و رحمة الله و بركاته. هل يمكن لي النشر في مجلتكم الموقرة . قبولي يكون شرف لي .أنا سيدة من المغرب.
    تقبلوا جزيل الشكر و التقدير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى