رقمنة ومعلومياتفكر وفلسفة

الثورة البيوتكنولوجية المعاصرة وآفاقها الفلسفية

لعل سر اهتمام الفلسفة (والفلاسفة المعاصرين) بمسألة التحولات العميقة التي تحدثها التكنولوجيا الحديثة، وبخاصة منها هذا التحول الجذري والنوعي المتمثل في الانتقال من صناعة الأشياء إلى صناعة الكائن الحي، هو ضرورة التفكير في التحولات المشحونة بالدلالات الفلسفية والميتافيزيقية التي يتعين التفكير فيها على الحدود الفاصلة بين العلم التكنولوجي والفكر الفلسفي.

  • أولًا- الثورة الصناعية في العصر الحديث أو معجزات العلم الحديث

السيطرة الشاملة للعلم/ التقني على الحياة الإنسانية هي سيطرة حديثة بدأت تتضح معالمها منذ القرن 19 مع بداية الثورات الصناعية، والانتشار التدريجي والمتسارع للمنتجات التقنية عبر العالم.

ورغم التباينات الواضحة بين مؤرخي العلم حول عدد الثورات التي شهدها العالم المتقدم، فإن المتعارف عليه السائد هو أن هناك على وجه العموم ثلاث ثورات علمية/ تقنية كبرى حدثت في الغرب منذ القرن السابع عشر، وانتشرت تدريجيًّا عبر العالم.

وحسب التحليل الذي قدمه الباحث الأميركي جيرمي ريفكين (G.Rifkin) فإن الثورات الصناعية الكبرى المؤثرة تلازمت فيها ثلاثة عناصر أساسية: الطاقة والإنتاج والتواصل.

فالثورة الصناعية هي مجموعة اكتشافات علمية تقنية تيسر شكلًا جديدًا من أشكال الطاقة التي ستكون هي المصدر المحرك الأساسي للإنتاج الاقتصادي، كما سيرتبط بها شكل جديد من أشكال التواصل.

فالثورة الصناعية الأولى (نحو 1750م) تمحورت حول استخدام الفحم كطاقة أحفورية ارتبط بها اختراع الآلة البخارية التي ستصبح محرك الإنتاج الاقتصادي والتواصل بالقطار. وقد استفادت الطاقة الجديدة ونمط الإنتاج المصاحب لها من اختراع سابق هو المطبعة التي يعود اختراعها إلى القرن الخامس عشر.

وشكل التواصل الذي طوره النظام التقني- الإنتاجي الجديد هو تعميم الطباعة وتعميم التعليم ونشر المعرفة، مع ما صاحب ذلك من تخطيط المدن وتعمير وتمركز وسائل الإنتاج جغرافيًّا وبشريًّا.

أما الثورة الصناعية الثانية فحدثت نحو سنة 1850م ومحورها الأساسي هو اكتشاف الكهرباء والبترول كمصادر جديدة للطاقة، تلاها اختراع المحرك القائم على الاحتراق الداخلي أو المحرك الانفجاري.

وتعد الثورة الصناعية الثانية لحظة أساسية في تشكل النظام الرأسمالي الغربي الحديث وانتشاره عبر العالم. وقد رافقها ظهور عدة اختراعات تقنية شكلت ذراعها التواصلي: الهاتف، والتلغراف، والسيارة، والراديو، والتليفزيون، والطائرة كلها في وجهيها المدني والعسكري.

شهدت الثورة الصناعية الثالثة ابتداء من عام 1950م تقريبًا تحولات نوعية هائلة تميزت أولًا باستدماج واستجماع كل أدوات ونتائج المرحلتين السابقتين وثانيًا بتسارع متزايد لوتيرة تطور الاكتشافات وثالثًا بالجدة النوعية المتواترة.

هناك قدر من الارتباك في تصنيف هذه الثورات بحيث يتحدث البعض عن ثورة رابعة وآخرون عن خامسة، إلا أننا سنتابع التصنيف الذي قدمه جيرمين ريفكي في كتابه «الثورة الصناعية الثالثة» الذي تبناه لوك فيرى في كتابه «la revolution transhumaniste» (Plan 2016) وإن لم يكن موافقًا على التأطير النظري والأيديولوجي (الطوباوي) الذي تبناه المؤلف.

  • ثانيًا- الثورات البيوتكنولوجية من رحم الثورة الثالثة

نشأت الثورة الصناعية الثالثة مع ظهور موارد جديدة للطاقة: الطاقات الحيوية الخضراء المتمثلة في الطاقة الشمسية والطاقة الهوائية والطاقة الإلكترونية، وهي طاقات تنضاف إلى طاقات منحدرة من المرحلة السالفة كالطاقة الذرية كما أنها ذات أبعاد وأذرع أخرى من بينها ارتياد مجالات الكون اللامتناهي.

صاحب هذه المرحلة الثالثة ابتكار أدوات تواصل جديدة هي عصارة وخلاصة تجديدية تتمثل وتستعمل معطيات الثورات السابقة المتمثلة في الذرة والإلكترونيات والتواصل، ومن أبرزها المركب NBIC:

1- النانوتكنولوجيا أو التكنولوجيات اللامتناهية الصغر (النانو جزء على مليار من المتر)، التي استُخدِمت في الجراحات وفي صناعة الإنسان الآلي المتناهي الصغر.

2- البيوتكنولوجيا أو تكنولوجيات الحياة التي بلغت اليوم ذروتها مع تطور البيولوجيا التركيبية (B.Synthetique) التي دشنت مرحلة الصناعة التكنولوجية للحياة مثلما حدث في صناعة الكائنات الوحيدة الخلية من طرف البيولوجي الأميركي Creig Venter(1).

3- الإعلاميات والمعلوميات وقاعدتها التحتية الأساسية هي الشبكة العنكبوتية Internet التي يعدها ريفكين البنية التحتية للتحولات التكنولوجية الجديدة وهي آلية متعددة الوجوه والاستعمالات:

– إنترنت التواصل والمعرفة وتخزين المعلومات الضخمة (Big Data) ومثالها غوغل وشبكات التواصل (GAFA).

– إنترنت الأشياء والطباعة ثلاثية الأبعاد (Int 3D)

– إنترنت الطاقة المتمثلة في توفير الطاقة لمجموعات كبيرة صناعية أو سكنية أو وظيفية وتنظيمها شبكيًّا والمرتبطة بما يدعى الاقتصاد التعاوني.

4- علوم الدماغ (S.Cognitives) وتتعلق بالذكاء الصناعي وبكيفية معالجة تخزين ونقل مليارات المعطيات والمعلومات في الزمن الواقعي. كل هذه المكونات العلمتكنولوجية تتكاثف اليوم في اتجاه ما يطلق عليه Transhumanisme أي تطوير النوع الإنساني وفق وتيرة تطوره الطبيعية بمساعدة التقنية وPosthumanisme أي مجاوزة النوع الإنساني عبر استخدام التقنية وتهجين الإنسان بها.

الخلفية الفكرية المضمرة في كلا الاتجاهين هي أن تطور العلم والتكنولوجيا بوتيرة متوالية هندسية سيتجاوز التطور الطبيعي للإنسان وسيتخطاه وهو ما يعنيه مصطلح التفرد أو الفرادة Singularité المتعارف عليه في هذين الاتجاهين.

وما يمكن أن يستنتج من هذين التصورين هو أن التطوير Trans من جهة والتخطي Post من جهة أخرى كلاهما استجابة لتطور التقنية ولمتطلباتها التي بدأت تفرض نفسها كضرورة على الإنتاج بشقيه التقني والبشري.

فالترانس هو لحظة أساسية ضمن تطور التقنية التي بدأت تتطور بسرعة هندسية مذهلة، بحيث لم يعد العقل البشري ولا الجسم البشري قادرًا على مواكبتها. ومن هذه الزاوية لا يجوز عدّ الترانس تعبيرًا عن إرادة الإنسان المتقدم ورغبته في تطوير العلم/ التكنولوجي، بل إن الوجه الآخر الخفي في العملية هو أن هذا التطور – الذي يبدو أحيانًا على أنه تعبير عن استقلال نسبي للتقنية وزواج بين التقنية ورأس المال- هو لحظة عضوية ضمن هذا التطور الموضوعي:

– تقوية الذكاء، الذاكرة.

– القضاء على الشيخوخة والموت والهشاشة

– تطويل العمر( إكسير الحياة).

  • ثالثًا- مشروع الترانس: الإنسان المستزاد

يقول راي كورتسفيل أحد أنبياء الترانس techno-prophete «نود أن نصبح أصل المستقبل، نود أن نغير الحياة، نود خلق أنواع جديدة من الكائنات، أن نساهم في بناء البشرية، أن نختار مكوناتنا الحيوية، أن ننحت أجسامنا ونفوسنا، أن نروض جيناتنا، أن نلتهم ملذات تحويل خلايانا الجينية، أن نهب خلايانا الجذعية، وأن نبصر الألوان ما تحت الحمراء، وأن نسمع الموجات الصوتية الرفيعة وأن نستشم جيناتنا.

وأن نستبدل خلايانا العصبية، وأن نمارس المتعة الجنسية في الفضاء، وأن نجاذب أناسنا الآليين أطراف الحديث، وأن نمارس الاستنساخ إلى ما لا نهاية، وأن نضيف لنا حواس جديدة، وأن نعيش قرنين وأكثر، وأن نستوطن القمر، وأن نخاطب المجرات…».

هذا النداء الذي لا يخلو من نفس شعري- بشائري هو إلى حد ما برنامج عمل وخطة للترانس. وكان فرنسيس بيكون سباقًا في القرن السابع عشر الميلادي إلى تسطير ما يماثل ذلك: «تطويل العمر، استعادة الشباب، تأخير الشيخوخة، الإشفاء من الأمراض المزمنة أو المستعصية، مضاعفة قوة الحياة، الرفع من القدرات الذهنية، نقل الجسم إلى جسم آخر»(2).

العناصر الأساسية لهذا البرنامج هي:
– تطويل العمر البشري.

– إقصاء الأمراض والآلام.

– إبعاد الشيخوخة.

– إبعاد الموت وتضبيب العلاقة بين الحياة والموت أو قتل الموت بتعبير L.Alexandre وكذا الشروع في صناعة الحياة.

– تقوية الذاكرة باستنبات شرائح إلكترونية.

– تقوية الحواس (السمع- البصر- الإحساس) ومضاعفة عددها.

– تقوية العقل والذكاء عن طريق الشحن أو تطوير قدرات التخزين أو تنشيط الدماغ بالتيار الكهربائي.

– تسريع وتقوية حركية الجسم.

– تطوير تجارب خلق كائنات حية وحيدة أو متعددة الخلايا. ويضيف البعض: شحن أو تقوية الإحساس بالسعادة. هذه المهام هي محاولة لتحقيق إكسير الحياة الذي حلمت به الإنسانية من أجل إطالة العمر والإشفاء من الأمراض، أو لتحقيق «ينبوع التشبب» (Fontaine de Jouvence) المؤثت للحلم البشري بالخلود،

مع فارق أن الإكسير والينبوع هما مجرد أحلام وتخيلات في حين أن مشروع الترانس هو مشروع علمي تكنولوجي فعلي يحيا بدعم فكري وسياسي وبتمويلات فعلية من طرف غوغل وكثير من الشركات تحت عنوان الإنسان المعدّل (Amélioré) أو المقوّى أو المستزاد (Augmente) إما بالتحسين أو التهجين.

  • رابعًا- مواقف الفلاسفة من الترانس

تعرض هذا المشروع لكثير من التهجمات والانتقادات بل الشتائم. فقد اتهم بأنه داروينية جديدة خطيرة وبأنه تكنوفاشية جديدة، وإعلان حرب ضد النوع الإنساني، ويوتوبيا تقنية حالمة وهذيان، ونوع جديد من السحر، وكابوس، بل ذهب البعض إلى التصريح بأنه أخطر من الانتراكس الجمرة الخبيثة ومن داعش ومن طاعون التطرف الإسلامي(3).

وقد ذهب أحد الرهبان المسيحيين إلى تشبيه الترانس بأنه محاولة يائسة لجعل الإنسان إلهًا. حتى مواقف كثير من الفلاسفة اتسمت بنوع من الحذر والتحفظ وأدرجوا في خانة المحافظين البيولوجيين، وذلك منذ ظهور البوادر الأولى لمحاولة الإنتاج الصناعي للحياة(4) أو قبلها في تجارب الاستنساخ (Clonage)،

أو أبناك المني، أو تطوير آليات تحسين النسل (Fugenisme) أو تركيب قلوب صناعية أو حمل الأجنة في قوارير زجاجية، أو مع اكتشاف الخرائط الجينية للكائنات الحية وضمنها الإنسان، وتقطيع الجينوم، والاستعادة الجزئية للبصر أو للسمع أو الحركة للمشلولين إلى غير ذلك من الاختراقات ومعجزات العلمتكنولوجي الحديث.

فقد نصب الفلاسفة أنفسهم كمدافعين عن لُغْزِيَّة وقُدسية الحياة الإنسانية وعن النوع وعن الطبيعة والكرامة الإنسانية، وعن تميز الإنسان عن كل المخلوقات الأخرى. فقد سبق لفرنسيس فوكوياما أن عدَّ «فكرة مجاوزة الإنسانية transhumanisme هي الفكرة الأخطر في العالم».

لأنها فكرة تتهدد مفهوم الطبيعة الإنسانية الذي هو أمر أساسي من حيث إنه يقدم أساسًا مفهوميًّا أو تصوريًّا صلبًا لتجربتنا من حيث إننا نوع. وهذه الطبيعة هي بجانب الدين ما يحدد قيمتنا الأكثر أساسية.

فتعديل المعطيات البيولوجية الأساسية لأفراد النوع معناه «نهاية الإنسان». لذلك فالترانس تشكل تهديدًا وخطرًا مهولًا ولا مرد له للنوع الإنساني من حيث هو نوع أخلاقي (فيري ص98). فالغايات الأخلاقية «ثاوية في الطبيعة»، مرسومة في كينونة الأشياء أي في النظام الطبيعي للكون.

إن «نتائج الثورة البيوتكنولوجية: المعاصرة حسب فوكوياما تتهدد الإنسان المعاصر أي النوع الإنساني لأن مآلها الأقصى هو «نهاية الإنسان».

يمكن عدّ آراء الفيلسوف والسوسيولوجي الألماني هابرماس أقرب إلى النزعة البيولوجية المحافظة (Bioconservatisme) فموضوعه الأساسي هو التفكير في حدود ومشروعية الانتقال من طب علاجي إلى طب استضافي. يطرح هابرماس مسألة حدود حرية الآباء مقابل حرية الأبناء.

فإعطاء الحق للآباء في التصرف في حرية الطفل باختيار الكفاءات والإضافات التي يرونها مناسبة سيكون بمثابة مساس بحرية الطفل أو بعلاقته الانعكاسية تجاه ذاته. ينطلق هابرماس من فكرة عدم قابلية الطبيعة الإنسانية للمساس وهو المعنى الملموس لقدسيتها.

فقد يرفض الطفل، عندما يبلغ، هذه التعديلات التي أدخلت على تركيبته الجينية ووجهته نحو رغبات واختيارات رياضية أو فنية أو فكرية أخذت تبدو له غير ملائمة. فلا حق لأحد في أن يفرض اختياراته الاجتماعية على المكونات الطبيعية لفرد آخر (فيري ص 140-117).

يرد لوك فيري على اعتراضات هابرماس قائلًا بأن هذه الاعتراضات على تعديل أو استعمال الخلايا الجينية على أساس أنه متعارض مع الأمر القطعي الكنطي بعدم جواز معاملة الآخر كوسيلة بل كغاية، قائلًا: إن الخلايا الجينية ليست آخر بل هي مجرد خلايا مجمعة غير واعية.

وهو الأمر الذي يرفضه هابرماس، مستعملًا حجة الكنيسة(5) حول وجود احتمالي أو ضمني لكائن إنساني في هذه الخلايا. فهي ليست شيئًا أو مجرد خلايا مجمعة بل هي كائن إنساني مفترض (فيري 121).

ويبدو أن تحليلات وموقف الفيلسوف الأخلاقي الأميركي ميكائيل ساندل (M.Sandel) لا تختلف كثيرًا عن موقف هابرماس، من حيث افتراض وجود طبيعة إنسانية «مقدسة» أو غير قابلة للمس والتعديل، ووجود حقوق طبيعية بناء على افتراض وجود طبيعة إنسانية، (لا يفهمها فيري إلا كجينوم).

وقد كان ساندل عضوًا في «لجنة الأخلاقيات» التي أنشأتها الرئاسة الأميركية سنة 2002م للتفكير في نتائج الثورات التكنولوجية المتلاحقة والمتداخلة (NBIC) ومفاعيلها على الإنسان. في سنة 2007م أصدر ساندل كتيبًا حول الأخلاقيات في عصر الهندسة الجينية يدور حول القضايا التالية:

1) اعتراضات حول الانتقال من النموذج العلاجي في الطب إلى النموذج «التحسيني» (Melioratif).

2) حول مسألة الاستزادة في المجال الرياضي.

3) حول المشروع الأبوي و«مصنع الأطفال».

الفكرة الرئيسية التي حملها الكتيب هي أنه مع تطور الترانس يُنتَقَل من أخلاقيات الامتنان (Gratitude) تجاه ما هو معطى أو مُهدى إلى أخلاقيات التحكم المطلق للعالم الخارجي في الذات من طرف الإنسان البروميتي (H.Prometheen) والمعطى أو العنصر الموهوب قد يعني الطبيعة أو أية قوة دينية مفارقة.

ففي كلتا الحالتين يُفْرَدُ موقع خاص إما لعناية علوية أو إلى مبدأ عطاء خارجي فائق أو متفوق على الإنسان.

وبهذا المعنى فإن الترانس هي تفريط في علاقة العَرضية والصُدْفية وفي الوقت نفسه في سر الكينونة لصالح إرادة تحكم شديدة تكمن خطورتها في القضاء على القيم الأخلاقية الأساسية التي يقوم عليها العيش المشترك بين الناس والتي هي التواضع L’humilité والبراءة (أو التلقائية) Innocence وكذا التضامن (Solidarité)(6).

كما يفرد ساندل انتقادات اجتماعية تتعلق بالقدرة المتفاوتة للفئات الاجتماعية على الاستفادة من نتائج الترانس، داعيًا إلى تدخل الدولة لتيسير إمكانية استفادة الجميع منها. وأخيرًا يبدي ساندل تخوفاته من إمكان استغلال الأنظمة الشمولية لهذه القدرات.

وكذا إمكان سقوطها في أيادٍ إرهابية كداعش. (فيري ص117-109) أما التقدمية البيولوجية Techno progressisme فهي تدافع عن المقولات التالية:

– الترانس هو تحسين نوعي (Eugenisme) جديد مختلف عن التحسين العنصري النازي وقوامه تحقيق الانتقال «من الحظ إلى الاختيار» (From chance to choise).

– نزعة مضادة للطبيعة. فليس التقدم هدفًا مأمولًا فقط، بل يتعين ألا يقتصر فقط على الإصلاحات السياسية والاجتماعية كما يجب أن يشمل طبيعتنا البيولوجية نفسها.

– تحقيق أمل الخلود هنا من طرف العلم والتقنية.

– تحقيق حلول ملائمة لكل القضايا البيولوجية والأخلاقية بروح تفاؤلية.

– تحقيق عقلانية مادية واحدية.

– إرساء أخلاقيات نفعية وليبرالية متحررة تُراوِح بين الليبرالية الجديدة والديمقراطية الاجتماعية.

– إقامة أيديولوجيا تفكيكية، ذات نزعة مساواتية ملائمة للبيئة.

– الدفاع عن الحذر والديمقراطية وأخلاقيات الحوار (فيري ص268 ص60-89).

يمكن أن يندرج في سياق هذا النموذج المثالي أسماء مثل سلوتردايك الذي كان سباقًا إلى تبني فكرة أن تاريخ الإنسان (أو القطيع الإنساني بتعبيره) هو تاريخ ترويضه لذاته عبر أدوات مختلفة آخرها اليوم هي التقنية (Anthropo technique)،

ومثل لوك فيري نفسه المدافع عن نوع من النزعة الإنسانية ذات الطابع العلماني (Humanisme laïc) وذلك في مواجهة تيارين فكريين أوربيين كبيرين هما: النزعة الإنسانية المسيحية التي تستلهم القديس توماس الأكويني وتفضل فكرة القانون الطبيعي، وذلك في مقابل نزعة إنسانية منسوبة للأنوار وأهم أعلامها Pic De la Mirandole (1486) وكوندورسيه وروسو.

كما يمكن أن نصنف الفلاسفة والعلماء المنضوين تحت راية نيتشه والترانس مثل Ray Kurzweil (أميركا) وL.Alexandre (فرنسا) وماكس مور (M.Moore)، وبيتر سلوتردايك ولوك فيري ضمن رواد البيولوجيا التقدمية Bioprogressisme.

في سنة 1999م قدم سلوترادايك محاضرة تحت عنوان: «قواعد من أجل الحظيرة الإنسانية» أعطت دفعة قوية لنقاش فلسفي جرى في ألمانيا، وكانت له أصداء أوربية وعالمية. وبعد أشهر أصدرت مجلة Diezeit عددًا خاصًّا تحت عنوان: «مشروع زارادوسترا» أشارت فيه إلى هذه المحاضرة. وقد أعلن سلوتردايك أن من حرك هذه الهجومات هو يورغن هابرماس.

  • النقط الأساسية في محاضرة سلوتردايك:

– نزع الطابع الحيواني عن الإنسان وإخراج الإنسان من حالة الحيوانية desanimaliser أو إحداث قطيعة بين الإنسان والحيوان.

– وضع الإنسان في مقام عال «حذاء الآلهة» بوصفه «راعي الكينونة» ومالكًا للعالم وللغة.

– فتح الطريق أمام نزعة إنسانية جديدة إنتروبو تقنية قائمة على ترويض الإنسان في الحظيرة البشرية بهدف تحضيره؛ لأن التقنية هي التي أهلته لأن يكون إنسانًا في إطار نزعة إنسانية بيوتكنولوجية.

– رعاية الحياة عبر: المصالحة والمواءمة بين تعالي الإنسان (عبر اللغة) وقدرة الأدوات والآلات والمصنوعات والرمامات والبيوتكنولوجيات.

ينطلق الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك (1947م) من التفكير (مع هيدغر ضد هيدغر) في مسألة النزعة الإنسانية؛ إذ يرى أن خطأ هيدغر هو تصوره أن إنسانية الإنسان معطى يعتمل في ذاته ومن ذاته ضمن تجربتنا الإنسانية، في حين أنها صفة مركبة أو تركيبية مبنية عبر العمل والتربية والترويض (في الحظيرة الإنسانية).

فترويض الإنسان هو الأمر المنسي الذي لم تفكره النزعة الإنسانية التقليدية بما فيها النزعة الإنسانية عند هيدغر التي تأخذ على النزعة الإنسانية التقليدية (المسيحية والماركسية والوجودية) أنها لم تفكر في إنسانوية الإنسان انطلاقًا من خصوصيته ككائن يملك «عالمًا» بل فقط انطلاقًا من تميزه عن الحيوان.

الذي لا يملك إلا أفقًا غريزيًا محدودًا يحاول سلوتردايك أن يجاوز النزعات الإنسانية الكلاسيكية والحديثة، بما في ذلك النزعة الإنسانية «الأصيلة» التي يقول بها أستاذه هيدغر، نحو أفق أو فضاء مجاوز أو مفارق للنزعة الإنسانية (trans et post humaniste).

فالنزعات الإنسانية قد تناست عنصرًا مهمًّا وهو ترويض Domestication الإنسان لنفسه ضمن الحظيرة الإنسانية؛ لأنه هو منتج نفسه وصانع نفسه عبر عمليات التربية والتعليم والتدريب التي هي كلها عمليات ترويض بواسطة التقنية. فمفهوم الأنثروبوتقنية Anthropotechnique يمكّن من إبراز هذه الواقعة الإنسانية المتمثلة في أن الإنسان نتاج للإنسان بواسطة الفاصل الذي يقيمه هو نفسه مع المحيط الطبيعي.

فترويض الإنسان يندرج ضمن منظور الأنثربويوتكنيك. من بين الخلفيات أو المضمرات الفكرية لسلوتردايك تصور مؤداه أن الإنسان ليس ماهية أو جوهرًا مستقلًّا، بقدر ما هو سيرورة Processur صناعية fabriqué، يتعين تحيينها باستمرار constament à faire. ولعل أكثر الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين الذين احتفوا بالمجاوزة هو لوك فيري Luc Ferry.

يعيب فيري على الأوربيين عمومًا وعلى الفرنسيين على وجه الخصوص تأخرهم البيّن عن متابعة تطورات البيوتكنولوجيا والترانس، من حيث إنها تشكل بجانب العولمة وزواج الحب السمات الأساسية للعصر الحالي، ويعدّها نواة «الثورة» الصناعية الثالثة، وإن من نتائجها الأساسية (التي هي محط جدل الآن) «تهجين» (Hybridation) الإنسان بالآلة وخلق أجيال جديدة من الإنسان الآلي (Homme machine) (أو السيبورغ).

يبتهج لوك فيري لهذه الثورة من حيث إنها أولًا ستحُدُّ من الحتمية البيولوجية الظالمة أو ما يسميه يانصيب القدر، وثانيًا من حيث إنها ستفتح باب الاختيار الواسع كما يعبر عن ذلك شعار الترانس: من النصيب إلى الاختيار (From chance to choise).

يضع فيري الترانس في مواجهة نزعتين إنسانيتين تقليديتين هما النزعة الإنسانية المسيحية التي تعطي الأولوية للقانون الطبيعي وثانيهما النزعة الإنسانية الأنوارية ابتداءً من بيك دولاميراندول وكوندورسيه وروسو وماركس والأنوار عامة التي تعرّف الإنسان بحريته وبقدرته على تحقيق الاكتمال la perfectibilité، وعلى تجاوز الطبيعة وعلى اكتساب قدرات وكمالات لا نهاية لها.

يدافع فيري عن نزعة إنسانية لائكية ترى أن الطبيعة في حد ذاتها عمياء وقاسية وغير عادلة وأنها لا تعرف إلا القوة الغاشمة، وهو ما يبرر ضرورة تصحيحها وتحسينها خدمة للإنسان. إلا أن فيري لا يخفي تحفظه تجاه بعض التوجهات القوية للترانس نحو تطوير الإنسان وتقويته بسبب بعض انفلاتاته ونزوعه نحو الاستقلال الذاتي أو التطور الذاتي التلقائي (Autonomie) بعيدًا من تحكم الإنسان.

داعيًا إلى ضرورة تأطير هذا التوجه وتنظيمه على المستويين العلمي/ التقني ثم الاقتصادي. كما يلمح فيري إلى بعض الانتقادات الفلسفية للمجاوزة (Psot H) من حيث إنها مقلقة واختزالية وحتموية ومادية وواحدية.

خامسًا- القضايا والتحديات الفلسفية التي تطرحها الترانس

الثورة البيوتكنولوجية هي أساسًا مجموعة ثورات متداخلة يتفاعل فيها المكون الرقمي والمعلوماتي والعقلي الرياضي المنطقي والكيميائي والفيزيائي والذري.

فهي تحول نوعي عميق يمكن إجماله في الانتقال من صناعة الأشياء إلى صناعة الحياة؛ لكن أثرها لا يظل في حدود العناصر المادية المذكورة أعلاه بل إنها تحمل في الوقت نفسه تحولات نوعية في المجال الثقافي وبخاصة حول التصورات المتعلقة بالحياة والموت والشيخوخة، والنفس، والجسم، والروح، وحول مدى قابلية الكائن الإنساني للاكتمال Perfectibilité والخلود وقضايا ميتافيزيقية أخرى.

وبجانب التحولات الميتافيزيقية هناك تحولات وتبعات اقتصادية وسياسية وحقوقية وقانونية وأخلاقية كبيرة، إلا أننا في هذه الورقة نولي الاهتمام الأكبر للقضايا ذات الحمولة الميتافيزيقية.

تطرح الثورات المذكورة اليوم على الفكر البشري عامة وعلى كل ثقافة محلية أو تقليدية أسئلة كبيرة وتحديات يتعين على الثقافات التقليدية المعروفة كافة بما فيها ثقافتنا العربية الإسلامية فهمها واستيعابها ثم تقويمها ومناقشتها من حيث إنها ليست مجرد آراء ونظريات مطروحة.

بل هي أدوات ونظريات وعمليات ستنعكس على حياتنا على الأقل في مجالات الاتصال والتواصل، وفي مجال الطاقة والصناعات المختلفة وفي المجال الحربي، وفي مجالات الفضاء والسياحة الكونية.

هذه النظريات والأفكار والتقنيات الجديدة التي تطل برأسها اليوم على كل الثقافات تحت عنوان Transhumanisme، والتي هي تجسيد لمعجزات العلم التكنولوجي الحديث، هي إحدى موجات الحداثة التقنية (والفكرية) التي تلطمنا بها البشرية المتقدمة وتحمل استفزازات نظرية وعملية تتزايد حدتها باستمرار لثقافتنا ولمجتمعنا.

وقد تكون هذه الموجات أقسى وأقصى من سابقاتها (النانو- الروبوت-الشحن- التقوية- صناعة الحياة- الانعكاسات العلاجية والطبية).

نستنبط بهذا الصدد مجموعة مصادرات (أو مسلمات أو خلفيات) فلسفية كامنة بنسب متفاوتة في حركة الترانس ومساره، تتجه أكثر نحو دعم التصورات التالية:

  • 1) في التصور الآلي للجسم وللدماغ:

التصور الآلي هنا يقوم على اعتبار الجسم وكذا الدماغ أقرب ما يكون إلى آلة ذات وظائف محددة تؤديها بحكم برمجتها عليها. الآلي هنا تعني الميكانيكية أي الأداء المقنن للوظائف والمهام من دون زيادة أو نقصان. خلفية هذا التصور هو عدّ الإنسان آلة وظيفية مبرمجة.

وعد الدماغ بدوره آلة وظيفية ضخمة تتكون من مليارات الخلايا والروابط العصبية والأنشطة الكهربائية وتخزين المعلومات والمعطيات والإدلاء بها. النموذج الواضح لهذا التصور الآلي الوظيفي هو الروبوت.

لذا يصبح الدماغ والجسم متصورين من خلال منظور آلي يجعلهما بمنزلة آلات حية أو بيولوجية في انتظار صناعة المثيل. بل إن هذا الكائن (الآلي) الحي سيُزوَّد ببرامج عمل على شكل رقائق أو لاصقات أو مزدرعات أو حتى بمفاتيح معلوماتية (USB) تُشحَن ويُستَبدَل مضمونها بين الحين والآخر.

هناك اليوم توجُّهٌ في اليابان نحو اختراع روبوت شبيه بالإنسان Robot homonoide، لديه عواطف وانفعالات وخيال، وقادر على ممارسة الحب، بل إن بعض العلماء يبشرون بروبوتات روحية مؤنسنة.

  • 2) التصور الكيميائي للجسم:

الجسم آلة وهي آلة- لحم (meat machine) أي حزمة مواد فيزيائية كيميائية عضوية. اللحم مجموعة مواد تتفاعل فيما بينها كيميائيًّا. يتشكل جسم الإنسان من بضعة كيلوغرامات من الكربون والأكسجين والهيدروجين والأزوت؛ ومن بضعة غرامات من الكلسيوم والفوسفور والكبريت والبوتاسيوم والصوديوم والكلور؛ ومن بضعة ملغرامات من اليود والكوبالت والمنغنيز والموليبورن والرصاص والتيتان والبروم والزرنيج والسيلنيوم.

هذا التصور الكيميائي للجسم هو تدقيق أو تكميم للنزعات المادية القديمة التي تصورت الجسم بهذا الشكل. فالعناصر الأساسية لتشكل المادة الحية هي الكربون والهيدروجين والأكسجين والنيتروجين والأزوت وهي العناصر التي تربط بينها روابط كيميائية.

  • 3) التصور العددي الكمي للإنسان(7):

يحتوي جسم الإنسان على ثلاثة ملايين غدة، و16 مليون بصيلة شعر لدى الرجال و40 مليون بصيلة شعر لدى المرأة، و450 زوج من الأنسجة، وعلى 206 إلى 211 عظمة، و800 نوع من الأنسجة و4,5 مترمربع من مساحة الجلد، و950 من الأوعية الدموية و25000 مليار كرة دم حمراء، ومئة مليار خلية عصبية ومليون مليار رابط عصبي، ومئات الملايين من الهرمونات. ذاك هو التصور الكيميائى لجسم الإنسان لدى الترانس.

  • 4) نفي وجود طبيعة بشرية:

لمفهوم الطبيعة البشرية مدلولان: المدلول البيولوجي المتمثل في DNA أو الجينوم أو ما يشكل الخصوصية النووية للكائن الحي، والمدلول الأخلاقي أو الميتافيزيقي الذي يشير إلى كرامة الإنسان أو إلى قدسيته أو إلى خصوصيته الأخلاقية التي هي أمر غير قابل للاختراق أو الاستلاب.

ويبدو أن العلوم البيولوجية، ورواد الترانس يتجهون إلى إنكار أو نفي وجود طبيعة بشرية (بيولوجية) من سماتها الثبات. فكل الكائنات عاشت منذ آلاف بل ملايين السنين حالة تطور بيولوجي لقدراتها جعلت هذه الطبيعة تتغير بالتدريج، وهي لن تتوقف عند الحد الحالي بل منذورة للتطور في المستقبل بشكل أسرع، وبخاصة مع التجديدات التي يجملها لها تطور العلم التقني وبخاصة مع انفتاح أبواب تلقيح أو تهجين الإنسان بالآلة.

الترانس أقرب إلى كونه نزعة مضادة للطبيعة (Antinaturalisme) من حيث إن الطبيعة هي غير مقدسة بمعنى أنها ليست معبدًا(8). فهي تتطور تطورًا ذاتيًّا كما أنها يمكن أن تتلقى تعديلات خارجية تسرّع وتيرة تطورها وتيسر لها أداءً وظيفيًّا أحسن.

وإحدى خلفيات الترانس هي الفرضية الفلسفية حول قابلية الإنسان للاكتمال (Perfectibilité) من حيث إنه كائن ناقص ويتميز بالمرونة plasticité أو القابلية المستمرة للتشكل وللتطور. وهذه هي الفكرة التي طورتها فلسفة الأنوار الأوربية ابتداءً من القرن الثامن عشر الميلادي(9).

  • 5) النظرة الواحدية Monisme:

الفكرة الأساسية التي هيمنت عبر تاريخ الفكر الإنساني كله القديم والوسيط والحديث هي فكرة الثنائية أي الاختلاف في الطبيعة والماهية بين النفس (أو الروح) والجسم؛ لأن كلًّا منهما ذا طبيعة مختلفة عن الآخر.

تبلورت هذه العلاقة في كل الثقافة الإنسانية القديمة وبخاصة في الفلسفة اليونانية. الصياغة الفلسفية لفكرة ثنائية العلاقة بين النفس والجسم نجدها في فكر أفلاطون في محاوراته (فيدون وطيماوس). فالجسم مادة تنتمي إلى العالم الواقعي بينما النفس تنتمي إلى عالم الفكرة أو المثال، والجسم هو بمنزلة سجن أو معتقل للنفس، بحيث تكون عملية الموت بمنزلة «خلاص» للنفس من حدود الجسم.

كما نجد هذه الفكرة لدى رونيه ديكارت (1650 -1596م) الذي يرى أن الجسم والنفس شيئان مختلفان في ماهيتهما. فالنفس غير مادية (Immaterielle) في حين الجسم امتداد هندسي وميكانيكي، وهو أشبه ما يكون بالساعة (L’horloge) أي آلة خاضعة لقوانين الطبيعة.

فكرة الثنائية (Dualisme) أو التوازي التي هي فكرة تخترق الثقافات القديمة وتتبلور فلسفيًّا في الفكر الفلسفي الإغريقي، شُكِّلت فكرة مركزية في الثقافات الدينية القديمة والوسطى والحديثة وهي فكرة تتضمن الإعلاء من النفس أو الروح وتحقير الجسم.

وستتبلور بجانبها فكرة الجسم كآلة (L’homme machine) وهي الفكرة التي ستتطور في الفكر الحديث في اتجاه إعادة الاعتبار للجسم كآلة بيولوجية دقيقة.

نجد بذرة لهذا التصور لدى ديكارت (في القرن 17) في «تأملات ميتافيزيقية» وهي الفكرة التي سيتبناها الطبيب الفرنسي لاميتري La metrie وسيدمجها ضمن رؤية مؤداها أن «الإنسان آلة».

وقد تبنت اتجاهات الترانس والبوست هذا التصور في اتجاه عدّ النفس معلومة (L’esprit information)(10) محمَّلة أو منطبعة على الخلايا الحية. فالمعلومات تتحرك داخل الدماغ بفضل ترابطات النويات العصبية لأن الجسم يحتاز 40 مليار وحدة عصبية Neurones تمكن من نقل الأخبار والمعلومات.

يصب هذا التصور في سياق التصورات المادية المتوارثة في كل من العلم والفلسفة المثال البارز هنا هو تصور نيتشه للنفس (Ame) أو الروح (Esprit) من حيث هي عنده بمنزلة هالة (أو نكهة أو حصيلة أو أريج أو عطر) أو صدى للجسم حيث يقول:

«يتعين الإقرار بأن الروح هي التشكلات أو الأصداء الحركية (gestuelle) للجسم» (هكذا تكلم زرادشت ـ الجزء الثاني) كما يقول: «منذ عرفت الجسم معرفة أحسن لم تعد الروح بالنسبة لي روحًا إلا في نطاق محدود».

الجسم في هذا التصور هو بمنزلة خزان أو مستودع لكل الطاقات العقلية والوجدانية والتخيلية والروحية التي يتميز بها الجسم، وهو ما يصب في خانة النظرة الواحدية التي تضيق الفروق بين النفس والجسم إلى أقصى الحدود.

تطرح الثورة البيوتكنولوجية اليوم على الفكر الإنساني بنوعيه الحداثي والتقليدي تحديات فكرية كبرى؛ لأنها تلامس قضايا في غاية الدقة والحساسية: الطبيعة الإنسانية- الحياة- الموت- الخلود. إنها بالتأكيد موجات معرفية وتقنية جديدة تلطم كل الثقافات التقليدية وتخلخلها وتحفزها على التفكير وإعادة النظر في كثير من مسلماتها.

  • هوامش:

(1) في سنة 2007م قام عالم البيولوجيا الجزيئية الأميركي بتركيب كروموزوم صناعي عدَّه «خطوة فلسفية مهمة في تاريخ نوعنا البشري» أي خطوة أولى في طريق صناعة أشكال من الحياة. وفي سنة 2011م قام فنتير وفريقه بإنشاء خلية جينوم تركيبي وهو ما عُدَّ لحظة إنشائية أساسية في مجال البيولوجيا التركيبية.

(2) F. Bacon : La nouvelle Atlantide, Flammarion 2000, p133

(3) كل هذه الانتقادات مستقاة مما يروج من مواد في الشبكة العنكبوتية.

(4) Craig Vener سنة 2011 قام العالم الأميركي Craig Vener المؤسس المشارك في برنامج Synthetic Genomix في كاليفورنيا.

(5) سلوتردايك (2003) يتحدث عن «البيولوجي المدني في جلباب الفيسلوف»

(6) يمكن أن يدرج M.Besnier (فرنسا) وG.Hottois (بلجيكا) في هذا السياق.

(7) من المراجع: رضوان شقور، أستاذ الكيمياء الحيوية: تأملات في سر الحياة، الرباط 2016م.

(8) Luc Ferry, RT p

(9) Nicilas Le Devedec : la démocratie à l’epreuve du posthumain de l’himanisme au posthumanisme الشبكة العنكبوتية

(10) FARID El Moujabber : Le posthumanisme : Un epi phénomène moderne du dualisme. Ometabasis. It) الشبكة العنكبوتية

المصدر

محمد سبيلا

كاتب ومفكر مغربي، اهتم بالدرس الفلسفي واشتغل بسؤال الحداثة والدولة المدنية و"عقلنة" الخطاب الديني. عمل أستاذا جامعيا في كلية الآداب بالرباط، ورئيس شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس بكلية الآداب بفاس ما بين عامي 1972 و1980. وتولى رئاسة الجمعية الفلسفية المغربية ما بين عامي 1994 و2006، وإدارة مجلة "مدارات فلسفية" من العدد 1 إلى 18، وساهم في تحرير مجلة "المشروع". انشغل بأسئلة الحداثة وما بعد الحداثة، و"عقلنة" الخطاب الديني، وقضايا الدولة المدنية والفرق بينها وبين الدولة الكهنوتية، وما تطرحه الحركات الإسلامية في هذا الصدد. تابع تحولات المجتمع المغربي وتطورات ثورات الربيع، واعتبر صعود الأحزاب الإسلامية للحكم مسارا طبيعيا يقودها أكثر إلى الديمقراطية وتعديل أفكارها وتجديدها والتفاعل مع المجتمع بشكل أفضل بناء على الواقع وليس على الرغبات والأحلام والمُثل. كتب محمد سبيلا عددا من الكتب والمقالات والدراسات في حقل الفلسفة والفكر، ونشرها في صحف ومجلات مغربية وعربية، منها: مجلة "أقلام" و"آفاق الوحدة" و"الفكر العربي المعاصر" و"المستقبل العربي". ساهم في الترجمة في التأليف المدرسي والجامعي، ومن مؤلفاته المنشورة "مخاضات الحداثة" و"في الشرط الفلسفي المعاصر" و"حوارات في الثقافة و السياسة" و"الحداثة وما بعد الحداثة" و"الأصولية والحداثة"، وترجم كتاب "الفلسفة بين العلم والأيديولوجيا" للوي بييرألتوسير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى