فكر وفلسفة

عبد الله العروي والفلسفة

 تطرح علاقة المفكر المغربي عبد الله العروي بالفلسفة وضعا سجاليا مع “أهل الفلسفة”: أصحاب التخصص الأكاديمي، ذلك أن هذه العلاقة ارتبطت لديه بحدثين أساسيين ساهما في تحديد موقفه منها: الحدث الأول هو أن بدايته الفكرية نشأت داخل بيئة تدعو إلى الإرتباط بالسياسة والمجتمع بحكم حضور الإستعمار والموقف الوطني منه. يقول في هذا الصدد: ” كنت أميل إلى التجريد فلم أنفلت منه إلا بمعانقة التاريخ، عندما قررت، في لحظة ما، الإندماج الكلي في المجموعة البشرية التي أنتمي إليها و أربط مآلي بمآلها.”.

أما الحدث الثاني هو أن دراسته الجامعية بدأت في إطار العلوم السياسية، التي تهتم بآراء الفلاسفة في القضايا الإجتماعية و السياسية دون الأخذ بعين الاعتبار أسسها الميتافزيقية و المعرفية، متأثرا بكتابات “ج.ج. شوفاليي”، التي كانت تكتفي بتلخص أفكار الفلاسفة الكبار من أفلاطون إلى ماركس، مرورا بهوبس و روسو، في المسائل السياسية والاجتماعية فقط.

هذا الأمر أدى به، في النهاية، إلى اختزال مفهوم الفلسفة في الميتافيزيقا، في حين ظلت الجوانب الاجتماعية و السياسية هي التي توجه تعامله مع إنتاجات الفلاسفة، وهو ما يفرض علينا طرح السؤال التالي: إلى أي حد شكل هذا الهاجس، السياسي و الاجتماعي، عائقا أمام العروي وجعله، بالتالي، غير مؤهل للخوض في إشكالات الفلاسفة و قضاياهم عملا بمبدأ التخصص، العزيز على قلبه من جهة، و بالنظر إلى كونه مؤرخا في الأصل من جهة أخرى؟

محاولة منا لتقديم إجابة أولية عن هذا السؤال، يمكننا القول أنه إذا نظرنا إلى الفلسفة بوصفها بحثا و معرفة تتأسس على “طمس الزمان في اللازمان”، أي رفض التطور و التاريخ بدعوى أن التفكير الفلسفي لا زماني، أي أن الفلاسفة كلهم معاصرون: أفلاطون، ابن رشد، ديكارت، كانط و الآخرون.. كلهم مازالوا أحياء يتساكنون في ذهن كل شخص حي، دون حاجة إلى تصور أن ديكارت، مثلا، جاء قبل كانط، فقد نسير من الأول إلى الثاني أو العكس، لأن الإثنان متساكنان في ذهن الفيلسوف.

إذا كان الأمر كذلك فإن هذا سيؤدي إلى الحكم على التاريخانية بالتفاهة، و بالتالي يمكن، في هذه الحالة، التشكيك بسهولة في أهلية العروي للخوض في قضايا الفلسفة و إشكالاتها. يقول  عن نفسه في هذا الصدد: ” درجتُ على مطالعة كتب الفلسفة، لكن على غير عادة المتخصصين. منذ البدء رفضت الخضوع لدستور المهنة.

قرأت جمهورية أفلاطون قبل طيماوس ، سياسة أرسطو قبل ما بعد الطبيعة، السياسة و الدين لسبينوزا قبل الأخلاق، فلسفة الحق لهيجل قبل الفينومينولوجيا.. ماركس قبل برجسون.. إلخ. هل سلوكي هذا النهج الشاذ جعلني غير مؤهل لفهم مقاصد الفلاسفة؟ هذا بدون شك ما يقوله المتعصبون، لولا أن الحكم قابل للانعكاس” .

لكن ، بالمقابل،  يمكننا اعتبار العروي  مؤهلا لمناقشة القضايا الفلسفية إذا ربطنا الفلسفة بالتاريخ واعتبرنا السابق يؤطر ضرورة اللاحق. هنا نجده يساجل الفلاسفة عندما يخوضون هم في السياسة والمجتمع، أي يتناولون ما يراه هو خارج اختصاصهم، و في هذه الحالة لابد من استحضار الزمن، والمقصود هنا “زمان” المؤرخ أي رفض “طمسه في اللازمان”.

كما يحلو للفيلسوف أن يفعل. إذا استحضرنا الزمان إذن، أي التطور التاريخي و ربطناه بالفلسفة، فإننا نصبح ملزمين، حسب العروي، بالإنصات إلى ما تقوله الأبحاث التاريخية و الأركيولوجية و اللغوية حول اكتشافات ملاحم الهند و الفرس، والتي إن أخذناها في الاعتبار يتضح أن هناك ” فكرا سابقا على الفكر”، أي سابق على سقراط و الفلاسفة الطبيعيين، فكر ميثولوجي، ينتمي إلى الحقبة التي سبقت “المرحلة الهلنستية” و المقدرة بألف سنة.

هنا يطرح السؤال: ماذا كان قبل الإغريق، و يوجد ضمنيا في فلسفتهم ؟ وهو سؤال يزعج الفلاسفة التقليديين، لأن أول من طرح السؤال هم اللغويون و دارسوا الأساطير، الذين تنبهوا لقرابة اليونانية بالآرامية القديمة و السانسكريتية. هذه المرحلة السابقة تمازجت فيه الفلسفة و تداخلت مع كل أنواع التفكير و التعبير المنتشرة على طول البحر الأبيض المتوسط، من فلسفة طبيعية و فلسفة إلهية و تيوصوفيا و ثيولوجيا.

يلاحظ العروي، الذي يستحضر الزمان باعتباره تاريخانيا – على العكس من الفيلسوف الميتافزيقي الذي يطمسه في ” اللازمان”- أن هذا الفكر السابق ترك بصماته الواضحة في التفكير الفلسفي، فهو يتعامل مع نفس الموضوعات أو الإشكالات أو المباحث من قبيل: “هل الفضاء فراغ أم امتلاء؟ و هل الزمن هو الحركة أم غيرها؟ و هل الصورة عين المادة أم غيرها؟ و هل الكون مخلوق أم لا؟ و هل الزمن و الامتداد محدودان أم لا ؟..إلخ.”.

هذه الاسئلة و غيرها يقول العروي: ” ضمّنتها الميثولوجيا، أبرزتها الفلسفة، أحيَتها الثيولوجيا، و نقول اليوم إنها، في حدود ما يُعقل منها، موكولة إلى العلم التجريبي”. و يضيف في مكان آخر: ” إن المسائل التي صورتها الميثولوجيا وحللتها الفلسفة  و ركبتها الثيولوجيا يستقل بها اليوم العلم الموضوعي”.

إذن فالفلسفة نشأت في حضن الميثولوجيا و لم تتنكر لها، كما أن الثيولوجيا تولّدت عن الميتافيزيقا و لم تنفصل عنها، و لا  عن الميثولوجيا. فما الذي يميز إذن الفلسفة عن هذا الفكر السابق تاريخيا و عن أنماط التفكير الأخرى؟

يجيبنا العروي: إن التمييز يوجد على مستوى المنهج، الميثولوجيا لها منهج، حاول ليفي ستروس و آخرون استنباطه، و يمكن القول، في ذات السياق، أن أنماط التفكير الأخرى اللاحقة من فلسفة  وثيولوجيا و علم لهما أيضا مناهجهما الخاصة، لكن ما يسجله العروي هو أن هذه المناهج الاربعة تلاقحت و تساكنت، فيما بينها، خلال المرحلة الهلنستية.

وها هي اليوم تتلاقح في عصرنا وتتساكن ضداً على تصور “أوغست كونت”، في قانونه حول المراحل الثلاث، القانون الذي يعتبر أن الفكر البشري بدأ ثيولوجيا ثم تحول ميتافيزيقيا و أصبح علميا موضوعيا. يقول العروي في هذا الصدد: “نعيش اليوم عهدا هلنستيا جديداً حيث تتداخل المناهج الأربعة”، الميثولوجيا، الفلسفة، الثيولوجيا و العلم، وبالتالي فمن يتفلسف اليوم يحمل معه آثار الميثولوجيا و الثيولوجيا.

عندما نستحضر، إذن، التاريخ والتتابع الزمني يمكننا أن نلاحظ مع العروي أمرين إثنين: الأول هو التماثل بين المفاهيم و التصورات و المواقف داخل نمطي التفكير الفلسفي و الثيولوجي، لكن في حالة العكس، أي عندما نلغي التسلسل الزمني، كأن نقول إن الفلسفة الحديثة إحياء للفلسفة القديمة، والعلم الحديث تولّد عن التأمل اليوناني القديم، متجاوزين “زمنية” العصر الوسيط بكامله.

فإن هذا الأمر له ثمن باهظ حسب العروي. يقول في هذا الصدد: ” إن الثمن الذي نؤديه على التنكر للسياقات التاريخية باهظ، إذ يجعلنا نتعامى عن التماثل بين الفلسفة و علم الكلام”. إذا كانت الفلسفة تتساءل: ” لماذا الوجود وليس العدم؟”، فإن الثيولوجيا تقرر: ” الأمر إما ممكن و إما ضروري”، وهنا يتساءل العروي: ” هل هناك تعادل أم لا بين الصيغتين؟”، ويجيب بالقول: ” لو كان النظام الجامعي غير ما نعرف، لو كان أكثر انفتاحا على الغير، أكثر تقبلا للجديد، لو فتح باب المنافسة للجميع  لتساوت الحظوظ و ظهرت بوضوح المماثلات التي نشير إليه”.

الأمر الثاني هو التساؤل عن مدى امتلاك الفلسفة و الثيولوجيا لبنية “ضمنية” واحدة. يقول العروي: “ندرك اليوم أن الفيلسوف المحترف، الذي لا يكف عن الحديث عن و جود بنية ضمنية، إنما يعني في واقع الأمر الانسجام الالهي”، وبالتالي لم يعد بالإمكان، في نظره، إثبات الآراء الفلسفية إثباتا قطعيا مثلها في ذلك مثل الثيولوجيا.

يقول في هذا الصدد: ” لم يعد في الكون ما يُثبت إثباتا قطعيا مزاعم الفيلسوف و دعاوى المتكلم. هذا ما رسب في خاطري منذ أن بدأت أطالع كتب الفريقين.. مشددا على المسائل والأدلة، متغافلا عن النتائج و الخلاصات”، لأن العروي لا يعتقد أن بمقدور أي إنسان كان النجاح في إلزام الحقيقة المطلقة كي تتجلى أمامه، كل ما يمكن أن ينكشف أمامنا هو حقيقة نسبية مشتركة، متوافق حولها، تمكننا من العيش المشترك، لأننا نتكلم عن الحياة في المجتمع.

وهذه الحقيقة، الموضوعية لا المطلقة، هي،  بكل واقعية و تواضع، أقصى ما يمكن للإنسان تحقيقه، ولهذا السبب لم يرفع لا راية الفلسفة و لا الثيولوجيا، بل اكتفى بالتاريخانية، لأنه يعتبر أن ليس بالإمكان، في زمننا هذا و في مكاننا هذا، أن نعطي جوابا فلسفيا، كل ما يمكننا قوله هو أننا نحاول أن نقف موقفا فلسفيا من قضية ما، و هو بالضرورة موقف تاريخاني.

إلا إذا اختار الانسان أن ينفصل عن الزمان والمكان، و هذا الانفصال هو الذي جعله يقول: “لا فيلسوف ولا متكلم ولا شاعر، أبدا، على رأس الدولة، كلما و أينما حصل ذلك عمّت الفوضى و الخراب”. و لا داعي للتذكير أن هذا الأمر لا علاقة له بضرورة وأهمية التكوين الفلسفي، الذي يرى العروي أنه من ” العبث انكار حاجتنا و حاجة كل مثقف إليه”.


  • مراجع الدراسة:

عبد الله العروي، ” السنة والإصلاح”، المركز الثقافي العربية، الطبعة الأولى.2008،
عبد الله العروي، ” نقد المفاهيم”، المركز الثقافي للكتاب، الطبعة الأولى، 2018.
حوار مع عبد الله العروي، مجلة “إيكونوميا”، العدد: 4، أكتوبر 2008، ص. 121-134
بنسالم حميش، “معهم حيث هم”، بيت الحكمة، 1988،

حسن زهير

كاتب وباحث من المغرب؛ أستاذ مادة الفلسفة، حاصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في شعبة الفلسفة، تخصص: "فضاءات الفكر في الحضارة العربية الإسلامية" من جامعة محمد الخامس بالرباط. كاتب مقالات حول علاقة الفكر بالسياسة، والثقافة بالمجتمع في المجلات والمواقع الإلكترونية و الصحف المكتوبة والمنصات الرقمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى