الذاتية والوعي الفلسفي بالوجود في نظرات ناصيف نصار
يرى جيل دولوز أنه يتعين على الفلسفة، باستمرار، إبداع أنماط جديدة من التفكير، أو وضع تصور جديد للفكر، أو بالأحرى تصور لما نعنيه بـ «التفكير» ملائماً ومنصتاً لما يجري في العالم.
لذلك لا يمكن للفلسفة سوى أن تكون «نقداً» (Une Critique). لكننا نجد أنفسنا أمام نهجين في النقد: إما أن ننقد «التطبيقات الخاطئة»، بما فيها نقد الأخلاق المزيفة، والمعارف الباطلة، والأديان «الكاذبة».
وهو التصور الذي بنى عليه كانط عمله النقدي؛ وإما أن ننتبه إلى عائلة أخرى من الفلاسفة الذين اختاروا خلخلة ما يراه الآخرون «حقّاً» أو «حقيقياً»، وانخرطوا في معمعة تفكيك الأخلاق «الحقة»، والإيمان «الحق»، والمعرفة المثالية قصد بلورة صورة جديدة للفكر.
لأننا ما دمنا نكتفي بنقد ما يبدو «باطلاً» فإننا لا نلحق ضرراً بأحد (فالنقد الحق هو نقد الأشكال وعدم الاكتفاء بالمضامين).
هذه العائلة من الفلاسفة يمثلها لوكريس (Lucrèce)، سبينوزا، نيتشه… ويعتبر، جيل دولوز، أن هذه السلالة استثنائية في الفلسفة لأنها تمثل «اتجاهاً مكسَّراً، انفجارياً، وبركانياً تماماً»[1].
تبحث الفلسفة، حسب دولوز، عن صورة جديدة لفعل التفكير، ولنمط اشتغاله. فنحن كثيراً ما نعيش على صورة ما للفكر. قد نملك قبل التفكير فكرة غامضة عما يعنيه فعل التفكير، أو ما يمكن أن يحمله من وسائل وأهداف.
ويمثل المفهوم في الفلسفة ما يمثله الصوت بالنسبة إلى الموسيقى، واللون عند الرسام. يبدع الفيلسوف المفاهيم، يموضعها داخل «مسار مفهومي» كما يضع الموسيقي لحنه داخل «مسار موسيقي»[2].
وتظهر الغاية من ذلك في محاولة تشكيل مفاهيم تتفاعل وتتشابك وتتمفصل فيما بينها بشكل رفيع ومتمايز للانفلات من المفاهيم الثنائية، وإبراز «الوظائف المبدعة» في الفكر[3].
ومن ثم فالفيلسوف الكبير «هو الذي يبدع مفاهيم جديدة بحيث تقوم هذه المفاهيم بتجاوز ثنائيات الفكر العادي، وتعطي للأشياء حقيقة جديدة، توزيعاً جديداً، وتقطيعاً هائلاً»[4].
نجد من يعتبر أن للفلسفة دوراً لا جدال فيه لسببين اثنين: الأول، يتمثل بكون التراث الفلسفي العالمي يزخر بأدوات فكرية لا حصر لها من شأنها أن تسعفنا على فهم التحولات الجارية أمامنا؛ وثانياً، لا يتعلق الأمر بمطالبة الفلاسفة، في الماضي والحاضر.
بتقديم أجوبة جاهزة بقدر ما يتعين الرجوع إلى ذلك الخزان الهائل من الأفكار والمفاهيم الذي تقدمه الأنساق والمذاهب الفلسفية. فهي تقترح علينا عناصر وأدوات لإعادة صوغ القضايا الراهنة بطرق جديدة.
لقد وجدت كل التيارات الفلسفية أصداءها، بنسب متفاوتة، في الدرس، أو التأليف الفلسفي في الوطن العربي، سواء تعلق الأمر بالشخصانية، أو الوجودية أو الماركسية الأرثوذوكسية أو في تعبيرها الآلتوسيري، أو فلسفة العلم، أو فلسفة التفكيك… إلخ.
المهم أن الخطاب الفلسفي العربي يتكئ، دوماً، على مرجع منفصل عن سياقه الثقافي، وهو ما جعل هذا الخطاب يعاني غربة مزدوجة: غربة عن الواقع الثقافي الذي كثيراً ما يعاند كل تفكير عقلاني، تنويري، وغربة عن الروح الفلسفية من حيث هي قوة سلب، وميل نحو خلق المسافة مع المألوف، أو بما هي «معرفة فرحة» تنشط بالسؤال وفيه، وتصغي لتحولات المرحلة لالتقاط مكوناتها وتفاصيلها.
ولعل غربة الاهتمام العربي النشط عن الفلسفة وعن الواقع، أدى بالمشتغلين بها إلى تناول موضوعات وقضايا بأساليب أقرب إلى ما أسماه هشام جعيط «فلسفة الثقافة» أكثر مما هي في صلب التفكير الفلسفي.
صحيح أن أسئلة عديدة تهم الذات، والهوية والآخر، والتقدم، والسلطة، والتاريخ طرحت منذ مدة، ولا تزال تصاغ بأشكال مختلفة، لكنها نادراً ما تعالج برؤى ومناهج وأنماط أسئلة تحركها مقتضيات «الفعل الفلسفي».
- أولاً: في النزوع نحو الفعل الفلسفي
تخرج نصوص ناصيف نصار عن سرب الكتابات العربية حول الفلسفة، أو حول التفكير الفلسفي في القضايا التي تهم الوجود، والزمان والإنسان في الفضاءات العربية. فالرجل مسكون بهاجس التفلسف وبإصراره القوي على تعبئة النصوص الفلسفية التي تعضد مساره الفكري بشكل يجعل منه نصاً فريداً في الإنتاج الفلسفي المعاصر.
أو بالأحرى في الإنتاج الفلسفي الذي يمنح الغلبة للسؤال والبحث والتفكير أكثر مما يكتفي باجترار المقولات والصيغ السهلة. اختار نصار، منذ البدء، ركوب سبيل الصعوبة ومغامرة التأمل الفلسفي. وهي ظاهرة فكرية نادرة في الإنتاج الفكري العربي.
قد نجد كتابات عربية حول الفلسفة الشخصانية أو تستلهم تصوراتها، كما الحال مع محمد عزيز الحبابي، وروني حبشي، أو الوجودية مع عبد الرحمن بدوي، أو الوضعية المنطقية مع زكي نجيب محمود أو الديكارتية مع نجيب بلدي، وغيره، أو الماركسية مع عدد كبير من المثقفين العرب، أو التفكيكية مع عبد الكبير الخطيبي.
أو بعض الكتابات الشذرية لعبد السلام بنعبد العالي… إلخ. لكن ناصيف نصار، ومنذ كتابه طريق الاستقلال الفلسفي[5]، يبدو حريصاً على ممارسة ما يسميه «فعل التفلسف» أو «الوعي بدور الفعل الفلسفي»، وبالبحث عن «فكر فلسفي يكون عربياً ومعاصراً»، والعمل خلال «رحلاته الاستكشافية» والكتابة، على نحت أسلوب وصوغ نمط سؤال ورسم طريق يؤدي إلى فكر فلسفي عربي جديد.
كل ذلك قصد خلق «فلسفة نابضة بالحياة انطلاقاً من موقف استقلالي نقدي»، و«ليس الموقف التوفيقي الحامل لشعار التجديد».
ولهذا الغرض، كان يتعين على ناصيف نصار توضيح تموقع الفيلسوف العربي الذي يستحق صفة الاستقلالية والقادر على الإبداع. فهو يرى «أن العلاقة بين موضوع الفلسفة وتاريخ الفلسفة مختلفة نوعاً عن العلاقة بين الفيلسوف وتاريخ الفلسفة.
وقد يخفى ذلك على بعضهم، فيظن أن التأريخ للفلسفة شكل من أشكال التفلسف. وهو في الحقيقة عمل علمي، له شروطه الخاصة كجزء من التاريخ العام للفكر البشري، ويمكن أن يكون مصحوباً بموقف فلسفي أو صادراً عن نزعة فلسفية.
إلا انه ليس في حد ذاته عملاً فلسفياً»[6]؛ بل ويحرص على التشديد على أن «مفهوم الفلسفة» يتقرر و«تتحدد مهمتها عند الفيلسوف في العالم العربي المعاصر من خلال حله لمشكلة علاقته بتاريخ الفلسفة»[7].
يعتبر نصار أن للفلسفة مهمة، وإذا ما نظرنا إلى مجال التأمل الفلسفي العربي فإننا نعثر على موقفين: «موقف التبعية، وموقف الاستقلال. أما التابعون فإنهم ينقسمون قسمين: التابعين لتاريخ الفلسفة الوسيطة، والتابعين لتاريخ الفلسفة الغربية المعاصرة.
وهم على اختلاف نزعاتهم، أهل اقتباس أكثر مما هم أهل ابتكار»[8]. والحال أن الاستقلال، في نظر نصار، يعني «تقبل النظريات الفلسفية، أيّاً كان عصرها، بالنقد المنطقي والسوسيولوجي، وهضم عناصرها الصالحة وتحويلها في عملية إبداعية أصيلة، انطلاقاً من الوعي بدور الفعل الفلسفي في الواقع الثقافي المجتمعي المتعين في الزمان والمكان»[9].
لذلك فمهمة الفيلسوف ليست بسيطة، أو ادعاءً أن الاستقلال الفلسفي مسألة إنشائية سهلة، لأن الفيلسوف العربي، مهما كانت نزعته وانحيازه، يجرُّ اغتراباً تاريخياً حضارياً، وعليه الانخراط في مجابهة فكرية مع «عقدة تاريخ الفلسفة».
فالاستقلال الفلسفي «ليس رفضاً لتاريخ الفلسفة ولكنه رفض للتبعية المذهبية الاغترابية واستيعاب نقدي للأفكار والنظريات التي تكوّنت تباعاً فيه»[10].
ذلك أن «تركيز البحث الفلسفي على مشكلة المعرفة يقود مباشرة إلى ربط الوعي الفلسفي بتاريخ الفلسفة القديمة والحديثة، ربطاً آسراً وإلى إبعاد الفعل الفلسفي عن محور الحركة الثقافية التاريخية»[11].
هكذا تطلع نصار، منذ البدء، أي بدء إعلان الانخراط في عمليات التفلسف، إلى أن «تكون فكرة الاستقلال الفلسفي قاعدة ينطلق منها محبّو الحكمة في المجتمعات العربية لكي يعمقوا أو يوسعوا، إلى أبعد الحدود الممكنة وفي كل الاتجاهات الممكنة، وعي الإنسان بوجوده وبالسر الأعظم الذي هو خلق الذات بالذات»[12].
أدرج ناصيف نصار، منذ كتاباته الأولى، علاقته بالتفلسف في إطار «رجاء»، وفي سياق فلسفة الوعي؛ وعي الذات بذاتها حتى ولو اعتبر أن «فعل التفلسف هو نظر في الوجود الإنساني من حيث هو وجود تاريخي»[13]، باعتباره وجوداً «شخصياً ومجتمعياً وتاريخياً، وبوصفه متعلقاً، بعمق، بالمشكلة الأساسية في الوجود الإنساني، مشكلة العمل»[14].
ورهان نصار على الوعي بالوجود التاريخي، في إطار المهمة الملقاة عليه وعلى غيره من الفلاسفة العرب ـ وليس فقط المشتغلين بالفلسفة ـ ضمن الوضعية الحاضرة للثقافة العربية «يتمثل في سؤال المجال الذي ينبغي لنا أن نمارس فيه فعل التفلسف، أي سؤال عن المجال الذي يشكل دخولنا فيه إعلاناً عن ارتفاع الثقافة العربية إلى مستوى العقل الفلسفي»[15].
وعلى الرغم من إصرار ناصيف نصار على مفهوم «الاستقلال الفلسفي» سواءٌ بالقياس إلى تاريخ الفلسفة أو باستدعائه لقاموس فلسفي من قبيل، التفلسف، وفعل التفلسف، والوجود الإنساني والتاريخي، والعقل الفلسفي، ومحبة الحكمة، ومشكلة العمل، و«خلق الذات بالذات»… إلخ،
فإنه في كتاب الاستقلال الفلسفي لا يتردد في إدراج ما ينعته بـ «الفكر الأيديولوجي العربي الحديث» في «صميم الفكر الفلسفي»، باعتبار أن هذا الفكر طرح وتناول قضايا «كالحرية، أو الاستبداد، أو المساواة أو العدالة أو التقدم»؛ فضلاً عن أنه يوجد «عند زعمائه صفات أخلاقية وفكرية هي من صفات زعماء الفكر الفلسفي كصفات الصدق والإخلاص، والاجتهاد وفي ربط النظر بالعمل»[16].
يرى ناصيف نصار أن كل نظام أيديولوجي يتضمن نواة فلسفية، هي بالنسبة إليه كالجذع بالنسبة إلى الشجرة، وعليه ليست الفلسفة شكلاً من أشكال الأيديولوجية وإنما هي المستوى النظري الأعمق فيها[17].
وهذا لا يعني، عنده أن «احتواء الأيديولوجية على مضمون فلسفي أنها شكل من أشكال الفلسفة، إذ إن الخصائص الرئيسية للروح الفلسفية كنظرية في العمل تنزع إلى أن تتحول إلى طريق في الحياة، أي أن تتجسد في ممارسة اجتماعية تاريخية معينة»[18].
ومن ثم فما دام الفكر الأيديولوجي العربي يحتوي على «مضمون فلسفي» فإنه يستلزم الاشتغال على ما يختزنه من كثافة فلسفية ولا سيَّما تلك النصوص التي اعتبرها ناصيف نصار تدخل ضمن دائرة «أعمق إنتاج أيديولوجي عربي حديث» المتمثل بكتابات نديم البيطار، هشام شرابي، أنطون سعادة، وزكي الأرسوزي[19].
وهو في ذلك يعلن، بوضوح، أن الارتباط العضوي للفكر الأيديولوجي بوجود ومصير جماعة معينة، بكل ما يستلزم هذا الارتباط من تقدير مصالحها، وأشواقها، يتطلب ـ أي هذا الارتباط ـ سلوك سبيل يسميه «النهج الانحيازي»[20].
مهما كانت الفروق الحاصلة بين المفكر الأيديولوجي و«المفكر الفيلسوف» بحكم أن الأول يسعى لتأمين مصلحة الجماعة التي هو منشغل بحياتها، وأن الثاني يرنو إلى اكتناه حقيقة الوجود الإنساني، فإن «البحث عن المصلحة لا يتنافى مع اعتبار الحقيقة وطلبها والبحث عن الحقيقة الوجودية لا يتنافى مع اعتبار المصلحة وطلبها. وفي نهاية الأمر لا تتم المصلحة بدون حقيقة ولا يخلو امتلاك الحقيقة من جلب مصلحة»[21].
إزاء إلحاح ناصيف نصار على فعل التفلسف، وتجاوز اشتراطات تاريخ الفلسفة، والحث على الاستقلال الفلسفي، وعلى الإبداع فيه، كيف يمكن استساغة تبنّيه نصوصاً لأهمّ منظري التيار القومي، ولا سيَّما الحزب السوري القومي الاجتماعي، واعتبارها نصوصاً حاملة لمضمون فلسفي.
يمكن أن ترقى إلى درجة الوعي بالوجود التاريخي؟ وهل اختيار نديم البيطار، وأنطون سعادة، وزكي الأرسوزي، في العمق، اختيار أيديولوجي أم فلسفي حتى ولو كان الدافع هو البحث عن الدلالة الفلسفية لأعمالهم الأيديولوجية؟
إن ناصيف نصار، في هذه الفترة من مساره الفلسفي، يقر بأن الوجهة العامة لكتاب طريق الاستقلال الفلسفي «تتحدد كوجهة انتقال من الأيديولوجية إلى الفلسفة»[22].
وكأنني به يحمل معه همّ هذه المفارقة في دواخله، أي مفارقة الإصرار على استقلالية فعل التفلسف والولاء للفكر الأيديولوجي الذي يبدو أنه متأثر بنصوصه كما بزعمائه أيّما تأثر.
وحتى ولو بدا ناصيف نصار مقنعاً في نسج الروابط وتسجيل الفوارق بين الأيدولوجيا والفلسفة، فإن توزعه الظاهر سيستدركه بطريقته الخاصة في نهاية المبحث، حين يؤكد أن مجال الوجود التاريخي هو «المجال المطلوب لنزع الاغتراب عن الوعي الفلسفي فينا.
الاغتراب في تاريخ الفلسفة عن التاريخ الحي والاغتراب في التاريخ الحي عن تاريخ الفلسفة، وهو المجال الذي يعطينا الأصول الحقيقية للنقد الاجتماعي، بعبارة واحدة، إنه المجال المنفتح أمامنا لكي نقوم بتجربة الإبداع الفلسفي»[23].