فكر وفلسفة

المعنى الحقيقي للحياة

ترجمة: ياسين إدوحموش

يُثير سؤال معنى الحياة اهتمام الفلاسفة وغير الفلاسفة على حد سواء، فالسؤال بحد ذاته يلفه الغموض بشكل ملحوظ وربما يعد مبهماً، في السؤال عن معنى الحياة، قد يسأل المرء عن جوهر الحياة، وعن غرضها، وعمّا إذا كان هناك شيء مهم، أو أشياء أخرى.


لم يُبتلى جميع الناس بالأسئلة حول معنى الحياة، لكن بعضنا كذلك. إن الظروف التي يسأل فيها المرء عن معنى الحياة هي تلك التي يكون فيها المرء ميسور الحال، ولكن يقض مضجعه الإحساس إما بعدم الرضا أو احتمال حدوث أمور سيئة.


أو أن يكون المرء في ريعان شبابه ويتملكه شعور بالحيرة، أو أن يشعر المرء بالحيرة إزاء التعددية المتضاربة للأشياء ويريد أن يجد بعض الوحدة في كل التنوع، أو أن أحدهم قد فقد إيمانه بالقيم والروايات القديمة ويريد معرفة كيف يعيش من أجل الحصول على حياة ذات معنى.


ثمة في القرن الحادي والعشرين، عدد متزايد من الفلاسفة التحليليين المستعدين لأخذ هذا السؤال على محمل الجد، وهم في ذلك يسايرون العديد من الأشخاص “غير الفلاسفة” الذين يأخذون هذه المسألة أيضاً على محمل الجد، غير إن التمييز القائم هنا بين الفلاسفة وغير الفلاسفة قد لا تكون جذوره عميقة، لأن الموت يجعل منا جميعا فلاسفة؛ إن سؤال معنى الحياة يضغط علينا بحدة في ظل فنائنا.


ومما يزيد من غرابة الأمر، إن عبارة “معنى الحياة ” لم تكن دائماً حاضرةً معنا، في الحقيقة، لها مصدر تاريخي معين، حيث تعتبر العبارة الألمانية “معنى الحياة الفلسفي” (Lebenssinn) سلفها المباشر، والتي وردت في رسالة بتاريخ 9 يوليو 1796 كتبها (يوهان فولفغانغ فون غوته) إلى (فريدريش شيلر)؛ كان (غوته) قد نشر للتو الكتاب السابع من روايته “سنوات تعلم فلهم مايستر”.


وكان يدافع عن نفسه من (شيلر)، الذي كان يحثه على جعل فلسفته أكثر وضوحاً. يشير (غوته) إلى العقد الذي استلمه (ويلهلم مايستر) من (مجتمع البرج) الغامض – وهو عقد يربط سلوكه أثناء قيامه بمهمة لفائدة المجتمع. يقول (غوته) إنه لو لم يكن قد أُجبر، لأسباب فنية، على اختصار قسم “العقد”.


فإنه كان سيستمر في إبداء آراء حول معنى الحياة. وفقاً لـ (غوته)، فإن هذا القسم يتحدث بشكلٍ رئيسٍ عن الفن (على الرغم من أن القراء الحديثين قد يختلفون معه حول ذلك). وبالفعل، فإن الجملة الأولى تردد حكمة (أبقراط) الأولى، حيث “الفن” المقصود هو فن الطبيب:


الفن طويل، والحياة قصيرة، الحكم عسير، والفرص عابرة. من السهل التصرف، ومن الصعب التفكير. التصرف وفق فكرنا يثير الإزعاج … إنه جزء من الفن الذي يمكن تعليمه؛ الفنان في حاجة له كله، من يعرف نصفه، يتحدث كثيراً، ودائماً ما يخطئ؛ ومن يعرفه بشكل كامل، يميل إلى التصرف، ويتحدث إما نادراً أو متأخراً…


الكلمات جيدة، لكنها ليست الأفضل، الأفضل لا يمكن التعبير عنه بالكلمات … لا أحد يعرف ما يفعله… في حين إنه يتصرف بشكل صحيح، لكننا ندرك دائماً مكمن الخطأ، من يعمل بالرموز فقط، كل من يعمل بالرموز فقط، إما متحذلق أو منافق أو مدمن؛ يوجد الكثيرون من هذا القبيل، ويحبون أن يكونوا معاً، تعرقل ثرثرتهم الباحث؛


فرداءتهم المتوسطة تُغيظ حتى الأفضل، والتوجيهات التي يعطينا إياها الفنان الحقيقي تفتح العقل، لأنه في حال خذلته الكلمات، ستتحدث الأفعال. يتعلم الباحث الحقيقي ممّا هو معروف لكي يكشف المجهول، ويقترب أكثر فأكثر ليكون سيداً.


قرأ الشاعر والناقد الأدبي والفيلسوف فريدريتش شليغل (1772 – 1829) كتاب “سنوات تعلم ويلهلم مايستر” عن كثب وبشوق، وكان يعتقد بأن أعظم ثلاث ظواهر عرفها عصره كانت الثورة الفرنسية، وفلسفة (يوهان غوتليب) و (ويلهلم مايستر)، كما يوجد معجب آخر بـ (ويلهم مايستر)، على الأقل في البداية.


وهو صديق شليغل المقرب، الفيلسوف والروائي (نوفاليس) (1772-1801). لقد كان (نوفاليس)، على حد علمنا، أول من استخدم عبارة “dersinn des lebens” – “معنى الحياة”، حيث كتب في مخطوطة مؤلفة ما بين أواخر عام 1797 ومنتصف عام 1798 قائلاً: “الفنان فقط من يمكنه أن يجد معنى الحياة”.


بعدها أصبح (شليغل)، عام 1799 أول من يطبع عبارة “معنى الحياة”؛ في نهاية روايته الفلسفية “لوسينده”:


”تفهم الروح الآن رثاء العندليب وابتسامة الطفل المولود حديثًا، وتفهم الأهمية العميقة للهيروغليفية الغامضة في الزهور والنجوم، وتفهم المعنى المقدس للحياة وكذلك لغة الطبيعة الجميلة، كل الأشياء تتحدث إلى الروح وفي كل مكان ترى الروح المحبة من خلال الحجاب الرقيق”.


من الصعب البت فيما إذا كان (شليغل) قد تأثر بـ (نوفاليس) أم أنه تأثر بشكل مباشر بالمحادثات التي أجراها مع (غوته) و(شيلر)، إذ كانت هذه مجموعة متماسكة متمركزة حول جامعة (ينا).


بيد إن، وعلى الرغم إشادة أصدقاء (شليجل)، فيشتر وفريديريك شلايرماخر (جزء من المجموعة)، بالرواية إشادة كبيرة، فإن (لوسينده) لم تحقق نجاحاً فورياً، إذ اعتبرها الكثيرون بأنها إباحية؛ في الواقع، في وقت أقرب إلى عصرنا، وصفها (إشعياء برلين) بأنها “رواية إباحية من المرتبة الرابعة”.


ومن ثم، فلا عجب أن عبارة “معنى الحياة” لم تلق قبولاً فورياً، حيث لم تبدأ بالتداول بصورة متكررة إلا بعد صدور نسخة ثانية عام 1835. في عام 1843، وجدت العبارة طريقها إلى اللغة الدنماركية باسم «Livets betydning» في كتاب (كايديغارد) الذي يحمل عنوان “إما/أو”، والذي يحتوي على جزء يسخر من رواية “لوسينده” للكاتب (شليغل).


وهكذا بدأ الارتباط الطويل للعبارة بالفلسفة الوجودية؛ وبمجرد أن أصبح التشاؤم الكوني لـ (شوبنهاور) موضوعاً ساخناً للنقاش، بدأت تنتشر على نطاق أوسع في الفلسفة الألمانية أيضاً (على الرغم من أن (شوبنهاور) نفسه لم يستخدم هذه العبارة).


في غضون ذلك، نشر (توماس كارلايل)، ما بين 1833 و1834 كتابه «Sartor Resartus» في صيغة متسلسلة، حيث إنه في هذه الرواية ذات النفوذ الكبير، والتي تعد في حد ذاتها محاكاة ساخرة للفلسفة الألمانية، دخلت عبارة “معنى الحياة” إلى اللغة الإنجليزية؛ أخذ (كارلايل) العبارة من (لوسينده)، إذ كان شديد الإعجاب بالرومانسيين الألمان الأوائل، وبـ (فيشته) و(شليغل) و(نوفاليس) على وجه الخصوص.


  • خلق معنى للحياة

ينبغي علينا، فيما يتعلق بالخلفية الفلسفية العامة، أن نأخذ في الحسبان مكانة (فيشته) في القصة، فعلى الرغم من إنه لم يستخدم هذه العبارة بنفسه، فإن كلا من (نوفاليس) و(شليغل) تتلمذا على يديه، كما كان (فيشته) منشغلاً بالعلاقة بين الحياة والمعنى في عمله الذي يعد “مهمة الإنسان” المنشور سنة 1799.


كان (فيشته) يرغب في الذهاب أبعد من فلسفة (إيمانويل كانط) من خلال القول بأن طبيعة الأشياء في حد ذاتها -أي طبيعة الواقع كما هو موجود بشكل مستقل عن تجربتنا معه- يمكن أن تكون معروفة، وبمعنى ما، تٌخلق بمحض إرادتنا، بصفتها تمظهراً للإرادة اللانهائية.


إن هذه الفكرة بالذات هي التي عقَب عليها (نوفاليس) ليصل لفكرته القائلة بأن “الفنان وحده القادر على إيجاد معنى للحياة”. حسب رأي (نوفاليس)، يمكن تفسير معنى الحياة، لأن الحياة خُلقت فنياً، إذ نحن أنفسنا من نكتب كتاب الحياة؛ “يجب ألا تكون الحياة رواية تُعطى لنا.


بل رواية نخلقها نحن”، إذاً، في الوقت الذي حثنا (بونافنتورا) في القرن الثالث عشر على قراءة كتاب الحياة، أفصح (نوفاليس) في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر عن نيته في كتابته.


لقد رأى الكثيرون هذه النظرة على أنها تعني ضمنياً وحدة الأنا أو العدمية؛ وفي الواقع، فإن وجهات نظر الرومانسيين الأوائل تبدو لنا في نهاية المطاف أنها ترقى لمرتبة العدمية، لأنه إذا كان من واجبنا خلق معنى خاص بنا.


فإن هذا يشير إلى إنه لا “وجود لأي شيء” لاكتشافه، باستثناء لو استرشدنا بالإيمان لخلق هذا المعنى، كما اعتقد الرومانسيون، (وما يثير الاهتمام، أن كلمة “العدمية” قد استخدمت لأول مرة بمعناها الحديث – أي بمعنى عدم وجود معنى للحياة – في عام 1799 في رسالة مفتوحة مكتوبة إلى (فيشته) من طرف (فريدريش جاكوبي).


وهكذا، فإن كلمتي “معنى الحياة” و”العدمية” بمعنيهما الحديث قد ظهرتا لأول مرة في عام 1799.


إن الإيمان والحب الرومانسي كانا مقترنين لدى كل من (نوفاليس) و(شليغل)، فقد اعتبر (نوفاليس) الحب الرومانسي بأنه “مفتاح العالم والحياة”، ففي الحب الرومانسي نأمل في دمج الحلم بالواقع؛ في رواية (نوفاليس) غير المكتملة Heinrich de Ofterdingen) 1802) يرمز تحقيق هذا الطموح إلى زهرة زرقاء.


ونظراً للأهمية المركزية للحب الرومانسي في فلسفته، قد تؤخذ الزهرة الزرقاء أيضاً رمزاً إلى التوق إلى معنى الحياة (وقد ذهب البعض إلى أن لون الزهرة مستوحى من نظريات (غوته) للألوان، لكننا نعتقد أن الإلهام الرئيسي ربما جاء من اهتمام (شليغل) بالبوذية.


حيث ترمز اللوتس الزرقاء المفتوحة جزئياً في الأيقونات البوذية إلى الحكمة المتوسعة). لقد كانت رواية (نوفاليس) مستوحاة في الأصل من (ويلهم مايستر).


ولكن في عام 1800 بدأ (نوفاليس) بإبداء تحفظات بشأن رواية (غوته)، إذ من وجهة نظره كان البطل الذي تحمل الرواية اسمه يهتم بشكل مفرط بالعمل المبتذل لكسب العيش بدلاً من السعي وراء الإلهام الفني.


يبدو الآن أن الفكرة القائلة بأنه يجب علينا أن نخلق معنى خاص بنا للحياة أوسع انتشاراً من أي وقت مضى، وأن الفكرة المعاصرة لا تختلف من الناحية الفلسفية عن فكرة (نوفاليس) و(شليغل).


يوجد بطبيعة الحال، تأييد واسع النطاق للفكرة القائلة بأن الحب الرومانسي هو “مفتاح العالم والحياة”، إذ تعتبر فكرة لا يمكن تجنبها في الثقافة الشعبية منذ ستينات القرن الماضي، في معظم الأغاني الشعبية على سبيل المثال، علاوة على ذلك.


وبحكم الوضع الاجتماعي الرفيع الذي يعطيه المجتمع المعاصر للفنانين الناجحين تجارياً، قد يظن المرء أنه ما زال بعض الدعم متواجداً لرأي (نوفاليس) النخبوي التي يقول “إن الفنان وحده هو الذي يستطيع إيجاد معنى الحياة”،


بالتالي، هناك عنصران مثيران للدهشة في القصة: الجذور الحديثة نسبياً لمصطلح “معنى الحياة”، وتشابه الأفكار المعاصرة مع تلك الخاصة بالسنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر في الوقت الذي ابتُكرت فيه العبارة التي أصبحت الآن مألوفة؛ يبدو إن المعنى الأصلي لـ “معنى الحياة” قد نجا وازدهر.


وهذا لا يعني إنه يجب أن نقبل بدون تردد ميراثنا، بل على العكس، يجب أن نكون مدركين لجذوره، وأن ندرك أيضاً بأن معنى الحياة له تاريخ قديم، إذ منذ البداية تمت مناقشة جميع الأسئلة حول السياق المطلق للحياة والغرض منها وقيمتها لآلاف السنين.


مع ذلك، إذا نظرنا إلى أصل عبارة “معنى الحياة” – ذلك الموضوع الذي يجعل منا جميعاً فلاسفة – وأيضاً في أصل الفكرة التي تقول بأننا نخلق معنى خاص بنا، يجب أن نستنتج أن العصر الحديث بدأ في جامعة (ينا)، في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر، في دائرة (غوته) و(شيلر) و(شليغل) و(نوفاليس).


مجلة Philosophy Now العدد المزدوج يونيو/يوليوز 2018

المقال باللغة الإنجليزية: هنا


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى