“ماركس” و”نيتشه”
لقد كان ماركس ونيتشه من بين أهم المفكرين في القرن العشرين، على الرغم من أن أيا منهما لم يعش فيه، إذ كان تأثيرهما على مفكريه وأحداثه عميقًا حيث أحدثا تغييرا جذريا في طريقة تفكيرنا في الفرد والمجتمع والحالة الإنسانية.
يؤكد نيتشه في كتاب إرادة القوة”( (190، أن كل السلوك البشري والتفكير يعد مظهرا من مظاهر “إرادة القوة”.
ومن ناحية أخرى، جادل ماركس بأن النظم الاجتماعية تتميز بشكل أساسي بالصراع الطبقي، حيث تتحكم الطبقة الحاكمة في وسائل الإنتاج من خلال استغلال الطبقات الأخرى (على سبيل المثال، الرأسمال، 1867).
لذلك دعونا نلقي نظرة على آراء ماركس ونيتشه فيما يتعلق بالدين وأصول الأخلاق المسيحية والفلسفة الغربية، ونبحث في أوجه التشابه والاختلاف في تفكيرهما في هذه المجالات.
- إرادة القوة والصراع الطبقي والدين
في كتاب “العلم المرح” (1882)، يتأمل نيتشه في التأثير المتناقص للمسيحية في المجتمع الأوروبي، حيث يكتب بمبالغة شاعرية، “مات الإله. ويظل الإله ميتا، ونحن من قتلناه”.
وعلى الرغم من أن الإله لا يزال على قيد الحياة في عالم اليوم، حيث لا زال المليارات من الناس ينتمون إلى شكل ما من أشكال الدين المنظم، فإن ما قصده نيتشه هو أن العقلانية الحديثة قد أزالت الإله من الفهم الغربي المعاصر للكون، واستبدلت الدين ب”عبادة” العلم.
لكن في حين أن إعلان نيتشه عن موت الإله غالبًا ما يوصف بأنه بداية العدمية، فقد عارض نيتشه صراحة العدمية على أساس أنها تضعف شغف الفرد بالحياة، إذ يكتب : “ماذا تعني العدمية؟ – إنها تعني أن القيم العليا قد فقدت قيمتها “(Sämtliche Werke: Kritische Studienausgabe، المجلد 2 ، صفحة 311).
لذا أدرك نيتشه الدور المتناقص للدين في المجتمع الأوروبي، وكذا الحاجة إلى نظام غير مسيحي قيم يمكن بواسطته للبشرية أن تعيش حياة هادفة وتتقبل دراما الوجود.
إن أحد الجوانب الرئيسية لاستجابة نيتشه تكمن في مفهوم إرادة القوة، حيث تعني على نحو عام الفكرة القائلة بأن كل كائن حي يسعى جاهدا لتحقيق التفوق في الحياة، وينمو باستمرار عوض مجرد البقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نيتشه، فإن إرادة القوة هي الدافع الذي يوجه جميع أشكال التفكير والسلوك البشري أيضًا.
أما في كتابه “ما وراء الخير والشر” (1886) ، فيشرح كيف يسترشد حتى الفلاسفة بشكل لاوعي بطموحاتهم ودوافعهم وقيمهم الشخصية وبيئتهم، حيث يكتب بسخرية صريحة أنه بدلاً من البحث عن المعرفة، “تكمن مصالح ‘الباحث’ الحقيقية عمومًا في غير محل؛ في العائلة مثلا أو في كسب المال أو في السياسة”.
يمكن أن يقدم لنا تحليل نيتشه أيضًا نظرة ثاقبة حول العلاقة القائمة بين الدين والسلطة، وكذلك في بعض الأسباب النفسية التي تجعل الناس يمارسون الشعائر الدينية.
فالدين يمكن أن يمنحنا شعورا بالسيطرة في ظل حياة تتسم بالفوضوية، ويقلل من شعورنا بالعجز أمام المعاناة من خلال إعطاء تلك المعاناة معنى، ويساعدنا على ممارسة السلطة على الآخرين. ولا يحتاج المرء إلا إلى النظر في الوضع المالي للقساوسة المسيحيين الأثرياء أو جبروت الأساقفة في العصور الوسطى للاعتراف بالكيفية التي يمكن بها للدين أن يعمل على تعظيم رخاء الفرد.
لقد رأى ماركس أيضا الدين كمظهر من مظاهر القوة، غير أن مفهومه للقوة يختلف اختلافًا كبيرًا عن مفهوم نيتشه. ففي كتاب “الرأسمال”، يقول ماركس إن الدين المنظم في المجتمع الغربي هو أداة في يد النخبة الرأسمالية لإبقاء الشعوب في التبعية الاقتصادية؛ أو كما يكتب في كتاب “مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل ” (1844): ” الدين زفرة الإنسان المسحوق.
روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. إنه أفيون الشعوب.” وفي حين أن اقتصاد السوق يوفر السلع والمنتجات والخدمات، إلا أنه لا يقدم أي معنى ذو غرض ذي أهمية فائقة.
والمعنى الضمني هنا هو أن الجماهير تنفر من ظروف الرأسمالية التي يعيشون فيها بحيث يتحولون إلى الدين من أجل تلبية احتياجاتهم الروحية. غير أن ماركس يكتب أيضًا أن ” إلغاء الدين، من حيث هو سعادة وهمية للشعب، هو ما يتطلبه لصنع سعادته الفعلية. ” (المرجع نفسه).
يرفض ماركس الأسس الميتافيزيقية للدين بطريقة مشابهة لنيتشه، معتبرًا إياه ظاهرة تم إنشائها اجتماعيًا، كما يؤكد أن ” الإنسان يصنع الدين، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان. يقينا أن الدين هو وعي الذات والشعور بالذات لدى الإنسان الذي لم يجد بعد ذاته، أو الذي فقدها. “(المرجع نفسه).
بالنسبة لماركس، فإن مفهومي ” الإله ” و “الروح” لا أساس لهما في الواقع، غير أنهما مجرد راحة لأولئك الذين يفتقرون إلى معنى الحياة. تشبه هذه الفكرة فكرة نيتشه بأن الناس يستخدمون الدين كوسيلة لتمكين أنفسهم؛ ومع ذلك، لا يربط ماركس تمكين الدين بمفهوم الإرادة الشاملة للقوة.
فبدلاً من ذلك، يرى الحاجة النفسية للإيمان الديني كمنتج ثانوي للحرمان الناتج من الظروف القمعية للرأسمالية. لذلك يحلل ماركس الدين من منظور اجتماعي-اقتصادي غائب عن فلسفة نيتشه. لا يبدو أن أيا من المفكرين يعالج الحجج الفلسفية للحقيقة الدينية، إذ بدلاً من ذلك، يسعيان إلى فهم الدين كظاهرة اجتماعية وثقافية ونفسية.
- الأخلاق المسيحية باعتبارها مظهرا من مظاهر القوة
تقدم نظريات ماركس ونيتشه للدين أفكارًا تتعلق بأصول الأخلاق المسيحية؛ أي أنه على الرغم من أن ماركس لم يعلق أبدًا على هذا الموضوع مباشرةً، إلا أنه يمكن تطبيق نظريته حول الصراع الطبقي على تطور الأخلاقيات المسيحية.
من هذا المنظور، تصبح الأخلاق المسيحية أداة في يد النخبة الحاكمة للحفاظ على السيطرة على وسائل الإنتاج. إن المبادئ الأخلاقية المسيحية، مثل “أدر الخد الآخر” أو “الأول يجب أن يكون الأخير والأخير يجب أن يكون الأول” ، تفيد النخبة من خلال تشجيع التبعية السلبية بين الطبقات العاملة؛ فإذا قاومت البروليتاريا الاستغلال الرأسمالي بحدة، ستندلع ثورة اشتراكية.
مع ذلك، فإن الوداعة المسيحية تُمكن النظام الرأسمالي من مواصلة استغلاله للطبقات العاملة. لذلك يمكن القول أن فكرة الدخول إلى الجنة على أساس أخلاق المرء تساعد الطبقات الحاكمة على السيطرة على وسائل الإنتاج، لأن المسيحية لا تشجع السلوك المرتبط عادة بالثورة.
مثل الحزم العدواني، والعنف والرغبة في الانتقام. بالتالي، من منظور ماركسي، تستخدم البرجوازية الدين كآلية مؤسسية يمكن من خلالها التلاعب بالطبقات العاملة وجعلهم في حالة من عدم المقاومة.
يُشبه نيتشه ماركس نظرا لأنه يعتبر الأخلاق المسيحية جانبًا من جوانب القوة. ومع ذلك، بطرق أخرى، فإن وجهة نظره تتناقض مع وجهة نظر ماركس.
فبالنسبة إلى نيتشه، المسيحية هي تعبير عن “أخلاق العبيد” – الأخلاق التي ينشرها أولئك الذين يفتقرون إلى القوة لمعانقة الحياة. في كتاب “جنيولوجبا الأخلاق” ميز الإغريق القدامى خصال الأقوياء والأشداء بأنها “جيدة” وصفات الضعفاء بأنها “سيئة”.
مع ذلك، وفي استياءهم تجاه الطبقة الأرستقراطية، قبلت الطبقات الدنيا النموذج الثقافي وأوجدت نظامًا أخلاقيًا يمجد سمات الضعفاء، حيث كان هذا الانعكاس الأخلاقي هو بدايات المسيحية، أي إنها مجّدت صفات الضعفاء، مثل الشفقة وعدم الأنانية، بينما شوهت صفات الأقوياء، مثل الحزم والاعتماد على الذات.
وهذا يدل على وجود اختلاف جوهري بين المفكرين: فبينما اعتقد ماركس أن الطبقات الحاكمة طورت الدين كأداة في يد النخبة الرأسمالية، للحيلولة دون ثورة البروليتاريا، يجادل نيتشه بأن المسيحية وفرت للطبقات الدنيا وسيلة لتشويه فضائل الأرستقراطية وتحقيق التفوق الأخلاقي.
على الرغم من أن نيتشه لم يعلق أبدًا على نظريات ماركس، إلا أنه كان بلا شك سيعارض رؤية ماركس لمجتمع متساوٍ. ففي كتاب “غسق الأوثان” (1889)، أعلن نيتشه بجرأة “مبدأ المساواة! …
ولكن ليس هناك سم أكثر تسميما من هذه النظرية : فهي تبدو كما لو أنها تعليم من تعاليم العدالة نفسها، بينما هي نهاية العدالة”. يوضح هذا البيان وحده التناقض القائم بين رؤى نيتشه وماركس للإنسانية.
- تفكيك التقاليد الفلسفية الغربية
في كتاب ” ما وراء الخير والشر” يؤكد نتيشه على أن الفلسفة ليست موضوعية أبدا في سعيها للحقيقة، حيث يكتب : “بالنسبة للفيلسوف، لا يوجد عنده شيء لا شخصي البثة ؛ وتعطي أخلاقه بخاصة شهادة حاسمة وجازمة حول من هو”.
لذلك من المستحيل بالنسبة لنيتشه أن يظل الفلاسفة محايدين، لأنهم يتأثرون دون وعي بقيمهم ومعتقداتهم وتجاربهم الشخصية. وعلاوة على ذلك، يهاجم نيتشه، في كتاب “غسق الأوثان”، بشدة حجة إيمانويل كانط الداعية إلى الحقيقة الأخلاقية الشاملة، على أساس أنها تعزز شكلاً من أشكال الأخلاق المسيحية.
فوفقًا لنيتشه، يسعى كانط إلى فرض فكرته الشخصية حول ما هو صحيح على العالم وإرضاء إرادة القوة الخاصة به من خلال ستار الفلسفة الأخلاقية الموضوعية، واصفا إياه ب”المسيحي المتخفي، في نهاية المطاف”.
إن انتقاد نيتشه لكانط وغيره من الفلاسفة المعاصرين يسلط الضوء على الانتقاد الذي وجهه للفلسفة الغربية على نطاق أوسع، وهو أنه بدلاً من كون جميع الأفكار الفلسفية نتيجة لتحقيق موضوعي، فإنها مظهر من مظاهر إرادة أولئك الذين يبدعونها.
وبهذا المعنى، يمكن القول أن نيتشه كان أب ما بعد الحداثة، لأنه ندد بوجود الحقيقة المطلقة وأكد أن الفلاسفة لا يمكن أن يظلوا موضوعيين في تفكيرهم.
يختلف ماركس عن نيتشه في هذا الصدد لأنه يتوسع في أفكار الفلسفة الحديثة. مع ذلك، فإن نقد ماركس للهيمنة البرجوازية كان بمثابة أساس لشجب واسع للتقليد الفلسفي الغربي.
إن الفلسفة، كما قال ماركس، برزت في ظل ظروف الرأسمالية وفشلت في تحرير الطبقات الدنيا من الاضطهاد الاقتصادي. وكما جاء في قولته المشهورة، “لقد اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم بشتى الطرق، إلا أن تغييره هو الأهم”(11 أطروحة حول فيورباخ، 1888).
وكما ترون، ينتقذ كل من نيتشه وماركس الفلسفة الحديثة. غير أن شجب ماركس لها ينبع من إدانته للاقتصاد الرأسمالي، في حين يعتقد نيتشه أن جميع الأفكار الفلسفية هي مظهر من مظاهر إرادة القوة وليس نتيجة للتفكير المنطقي.
ومرة أخرى، يبدو أن الفرق بين نيتشه وماركس يكمن في حقيقة أن ماركس يحلل تطور الفلسفة الغربية ضمن السياق الاجتماعي والاقتصادي للنزاع الطبقي، بينما ينظر نيتشه إليها كتعبير عن الإرادة الديناميكية للقوة التي توجه كل السلوك والتفكير البشري.
مجلة “فيلوسوفي ناو” العدد 131
المصدر: هنا