نقد العقل البرهاني عند محمد عابد الجابري: الجزء الثاني
- المبحث الثالث: رؤية ومنهج جديد لتدشين نظام برهاني ناجح داخل الثقافة العربية الإسلامية:
المحور الأول: تعريف النظام البرهاني عند الجابري:
يعرف الجابري البرهان في اللغة العربية هو الحجة الفاصلة البينة، ولا تكاد المعاجم العربية تضيف تفاصيل أخرى{ …} أما في الاصطلاح المنطقي فالبرهان بالمعنى الضيق للكلمة هو العمليات الذهنية التي تقرر صدق قضية ما بواسطة الاستنتاج أي بربطها ربطا ضروريا بقضايا أخرى بديهية أو سبقت البرهنة على صحتها.
أما في المعنى العام فالبرهان هو كل عملية ذهنية تقرر صدق قضية ما باعتبار النظام المعرفي البرهاني، هو نظام متميز بمنهج خاص في التفكير وبتقرير رؤية معينة للعالم لا تعتمد سلطة معرفية أخرى غير ذلك المنهج. [1]
ويجسد هذا النظام بالأساس الفلاسفة وذوو الدراية وخصوصا الفيلسوف الكبير أرسطو الذي أسس لتقاليد هذا النظام المعرفي، حيت يقول الجابري”{……. } فإن البرهان يعتمد قوى الإنسان المعرفية الطبيعية من حس وتجربة ومحاكمة عقلية وحدها دون غيرها في اكتساب معرفة بالكون ككل و كأجزاء لا بل لتشييد رؤية للعالم يكون فيها من التماسك و الانسجام ما يلي طموح العقل إلى اضفاء الوحدة و النظام على شتات الظواهر ويرضى نزوعه الملح و الدائم إلى طلب اليقين” [2]
ولما كان هذا النظام المعرفي يصوغ منهجا للتفكير ورؤية للعالم يختلفان بل يتعارضان مع المنهج و الرؤية التي ساد في الثقافة العربية بفعل نظام المعرفة البياني السابق. “فإن عملية تأسيس هذا النظام المعرفي داخل الثقافة العربية اقتصرت على إعادة الترتيب العلاقة بين البرهان من ناحية و البيان من ناحية أخرى أي إفساح المجال لدخول النظام البرهاني في حقل تقافي تسوده البيان.
هنا تحولت الفلسفة تم العلم فيما بعد إلى موقف المعارض بما بقي الدين أو تأكد وضعه في موقع المركز أو الحاكم وصار على الفلسفة نفسها أن تلتمس لنفسها موطئ قدم بقبول الدين أو القائمين على تفسيره، على الرغم من محاولات الفلاسفة كالكندي و الفارابي على إعادة ترتيب العلاقة بين الدين والفلسفة أو بين البيان والبرهان على نحو يأخذ معه البرهان أو الفلسفة موقعه الطبيعي بعيدا عن هيمنة البيان أو الدين”. [3] وعلى هذا الأساس يميز الجابري بين بين نوعين من الممارسة العلمية:
الأول هو الممارسة النظرية التي تقع بكاملها داخل المنظومة الأرسطية وتتحرك بتوجيه منها حيت أن الرياضيات و الطبيعيات كما مارسها الكندي والفارابي وابن باجة وابن طفيل ابن رشد، كانت مؤطرة وإن بدرجات متفاوتة بالمنظومة الأرسطية ككل.، ولما كانت هذه المنظومة قد اكتملت وانغلقت مع صاحبها وتحولت إلى نظرية عامة في الكون و الإنسان والله أي، إلى منظومة ميتافيزيقية فإنه لم يكن من الممكن للعلوم الموظفة داخلها أن تتقدم أو تتجدد إلا بتكسير المنظومة العرفانية.
أما الثاني فهو من الممارسة العلمية التجريبية التي تتحرك بنوع من الحرية خارجها ولذا كانت تمة ممارسة علمية حقا وفي كتير من الأحيان كانت على درجة كبيرة من النضج و التقدم كما كان الأمر لدى الخوارزمي في الجبر والسمو المغربي الذي تصور ومارس منهج التحليل و التركيب في الرياضيات بشكل ناضج جدا، وابن الهيتم الذي أرسى هو الأخر الاستقراء العلمي و الاعتبار التجريبي بطريقة علمية تماما إلخ …غير “أن العلم العربي بهذا المعنى ظل خارج مسرح الصراع في الثقافة العربية حيت أن اللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي الإسلامي لم يحددها العلم وإنما كانت تحددها السياسة”. [4]
ولهذا ظل العلم العربي خارج مسرح الحركة في الثقافة العربية فلم يشارك في تغدية العقل العربي ولا في تجديد قوالبه وفحص قابلياته ومسبقاته فيبقى الزمن الثقافي العربي هو نفسه ممتدا على بساط واحد من عصر التدوين إلى عصر ابن خلدون،” مما جعل من هذا الزمن يعاني من الركود مند هذا العصر إلى النهضة العربية الحديثة والتي لم تتحقق بعد”. [5]
هذا بالنسبة للمشرق العربي الإسلامي وماذا بالنسبة للمغرب العربي الإسلامي؟
- المحور الثاني: انتصار البرهان في المغرب العربي الإسلامي:
لقد رافق فشل البرهان، بالمشرق العربي الإسلامي عملية موازية انتصرت له في المغرب العربي حيت قام ابن حزم محاولا إعادة تعريف مجال البيان وإعادة صياغة العلاقة بينه وبين البرهان على أسس جديدة تستبعد العرفان وتنزع مجال القياس الفقهي من البيان لتحد من نطاق تمدده حيت خلق الله العالم في أحسن صورة ودور العقل هو إدراك نظام العالم برعاية من النص المؤسس للشريعة )القران الكريم ( والسنة النبوية، وهنا ينفتح ابن حزم على طبيعيات أرسطو و نظرياته البرهاني في سياق تأسيس البيان على البرهان حتى أنه حاول توظيف المنهج البرهاني لإثبات وجود الله وحقيقة النبوة.
لقد تميزت الدولة العباسية بصفة عامة بشافعيتها و حنفيتها و حنبليتها ورشديتها التي كانت حاضرة بخلاف الدولة الفاطمية فلقد كان لديها فقهها الشيعي الخاص. ولتجديد عقلانية برهانية حقة كان لزاما الوقوف مع دعوة الجابري لاستحضار هذه التيارات كنماذج استحقا معهما التأسيس العقلاني الممنهج خاصة مع ابن رشد، كما سنأتي:
- ابن حزم:
من أبرز ملامح المشروع الحزمي هو انطلاقه من العقل أولا ليثبت به الدليل العقلي على وجود الله ووحدانية و نبوة محمد) ص( و صدق رسالته مما يصدق القرآن و السنة كذلك و يتخذهما بالتالي باعتماد اللغة العربية كإطار مرجعي في فهم نصوص القرآن و السنة كأساس في تأسيس عقلانية إسلامية و بناء ثقافة عربية برهانية. أما على المستوى الظاهري لابن حزم و خاصة من زاوية إبستمولوجية يقول الجابري “وجدناها مشروعا فكريا فلسفي الأبعاد يطمح إلى إعادة تأسيس البيان و إعادة ترتيب العلاقات بينه و بين البرهان مع إقصاء العرفان إقصاءا تاما“. [6]
وما ميز هذا المشروع الفكري هو الطابع النقدي و خلوه من هاجس التوفيق بين الدين و الفلسفة، حيت اهتم بضرورة المنطق الأرسطي و تعميمه داخل البيئة الثقافية العربية مما يحيل على إيمانه بكونية العقل و جعله مرجعا معرفيا. لقد كان توجهه هو قراءة أرسطو بواسطة أرسطو نفسه بالانقطاع إلى نصوصه و حدها و الإعراض عن تأويلات الهرمسية و الأفلاطونية المحدثة و امتداداتها السينوية، مما جعله يضطر إلى استعاذة مشروع أرسطو الإيديولوجي و الفلسفي لتأسيس جانب من المعقول البرهاني.
لقد شكل ابن حزم أبرز أعلام التجديد في الثقافة العربية الإسلامية في المغرب و الأندلس حيت امتد خطابه النقدي التجاوزي إلى جميع فروع الثقافة العربية الإسلامية وخاصة ميدان الأصول )الفقه( و أصول الدين ) علم الكلام(. حيت لم يكتمل أصول الفقه مع الشافعي إلا بظهور ابن حزم، الذي عمل على إثبات حجج العقول وذلك بإقصاء الإلهام و الإمامة و التقليد وإقصاءه من أيمة المذاهب الفقهية حيت أن منطلق ابن حزم هو حجة العقل واعتماده في الوصول إلى العلم انطلاقا من اتباع ما أوجبته بديهية العقل و أوائل الحس.
إن القياس الذي يعتبره الأشعري من بين الأصول الأربعة الفقهية يتجاوزه ابن حزم ويقول لا حاجة لنا بالقياس.
فماهي حجج ابن حزم في بطلان القياس في الشرع؟ وماهي ظروف وأبعاده الحقيقة لوجهة نظره هذه؟
يرى الجابري أن القياس البياني قياس الفقهاء و النحاة واستدلال المتكلمين هو عبارة عن منهج يؤسس الرؤية البيانية ويتأطر داخلها و العقل الذي يمكن أن يمارس داخل هذا النوع من الرؤية البيانية لن يكون سوى استدلال جزء على جزء، حيت أن قياس الفقهاء حسب ابن حزم باطل لأنهم يقيمون أشياء تختلف بالنوع وهو يؤكد أنه لا يجب بطلان القياس بإطلاق بل يقول بجوازه بين أفراد النوع الواحد. ولكنه يكون القياس باطلا إذا كان المقيس و المقيس عليه لا يدخلان تحت نوع واحد.
“يصدر إذن ابن حزم عن رؤية العالم ترفض جميع العناصر الأساسية في الرؤية البيانية العالمة التي شيدها المتكلمون وبعبارة أخرى، يرفض ابن حزم الفيزياء الكلامية ويتبنى طبيعيات أرسطو ومفاهيمها ونظرياتها البرهانية في أفق تأسيس البرهان بطريقة منهجية عقلانية، أي تأسيس البيان على البرهان على صعيد المنهج كما على صعيد المفاهيم و الرؤية” [7]
ما يمكن قوله هنا كخلاصة لرأي ابن حزم ودوره في تأسيس منهج برهاني داخل الثقافة العربية الإسلامية هو أنه قد دشن مرحلة جديدة من النقد في الثقافة العربية الإسلامية، حيت انتقد بشكل عام وشامل العرفان بنوعيه الشيعي و الصوفي منهجا ورؤية، وخاصة لعلم الكلام والتي انتقد قضاياهم سواء عند الفقهاء أو النحاة غير أنه في نقده هذا كان هدفه هو تجاوز أزمات النمو في الثقافة العربية التي خلفها السابقون عليه قوامه تأسيس البيان على البرهان تأسيسا منهجيا قائما على تجاوز الطابع الصوفي العرفاني بصفة عامة.
مما جعله يدعوا إلى ضرورة اعتماد القياس الجامع و الاستقراء كمنهج برهاني في العقيدة والشريعة، متخذا من أفكار أرسطو في الطبيعيات كأساس لتشييد رؤية بيانية تحترم مبادئ الدين كما جاء بها الكتاب المقدس، مما تتوضح الصورة حول ظاهرية ابن حزم حيت لا يقصد منها تلك النظرة المسبقة حول ظاهرية نصية متشددة تضيق من مجال العقل.
بل على العكس من ذلك إنها نزعة نقدية عقلانية تتمسك بالنص وحده وهو قليل و محصور حسب قول ابن حزم نفسه، لذلك يؤكد الجابري هنا أنه ” لا طريق إلى العلم أصلا إلا من وجهين، أحدهما ما أوجبته بديهية العقل و الحس، والثاني مقدمات راجعة إلى بديهية العقل و أوائل الحس”[8] أما الباقي فمن حق العقل أن يجتهد فيه وبالتالي هذه الرؤية و المنهجية التي أسسها ابن حزم سوف تكون لها امتدادات مباشرة من قبل ابن باجة و الذي أعلن عن مشروعه بشكل واضح أتناء ظهوره، في الأندلس و المغرب وهو إعادة تأسيس العلم الطبيعي في الثقافة الإسلامية متخذا من مقصد البرهان بديلا عن الفيزياء الكلامية التي شيدها المتكلمون.
- ابن باجة
إذا تفقدت ابن باجة وجدته يتخذ من أرسطو العنصر الأساسي في إطاره المرجعي لكن لا أتو لوجيا أرسطو و إنما أرسطو المعلم الأول.
إن توصل المعرفة عند ابن باجة تنطلق من البرهان بالانتقال من الحس إلى العقل من المشخص إلى المجرد من مقدمات صادقة يقينية إلى نتائج تلزم عنها ضرورة، وهي أساس بناء العلم وهذا ما أشار إليه الجابري حينما عبر أن للإمكان صنفان: “صنف طبيعي وصنف إلهي، فالطبيعي هو الذي يدرك بالعلم ويقدر الإنسان على الوقوف عليه من تلقائه أما الصنف الإلهي فإنما يدرك بمعونة إلهية …”[9]
لقد عبر ابن باجة عن موقف رفض واضح من العرفان على أساس تحليل علمي سيكولوجي للظاهرة المشاهدة الصوفية و تجاوز كل الاعتبارات الدينية أو المجادلات الكلامية لكن ما هو موقفه من البيان؟
لقد وضحت أن خطاب ابن باجة هو خطاب برهاني متحرر من كل إشكالات علم الكلام و مشاغله كونه خطابا فلسفيا يتحرك ضمن دائرة الفلسفة و البرهان مما يجعله يتعامل مع البيان كدائرة مستقلة مبنية على الوحي، و إقصاء العرفان و الفصل بين البيان و البرهان.
لقد نجح بالفعل ابن باجة في تدشين خطاب فلسفي جديد داخل الثقافة العربية الإسلامية متحررا من علم الكلام وإشكالياته ومن هاجس التوفيق و التلفيق الذي استولى على فلاسفة المشرق.
في ظل هذه الشروط السياسية و الفكرية المتميزة بالتحرر من الفلسفة المشرقية، التي حررت الفكر في بلاد العرب الإسلامي من هاجس التوفيق بين الحكمة و الشريعة ومن النزعة الهرمسية المسكونة بهاجس توظيف العلم لدمج الدين في الفلسفة، ودمج الفلسفة في الدين حيت نشأت الظاهرة الرشدية وترعرعت حيت تم استعادت مشروع ابن حزم عبر ابن تومرت وابن باجة ولكن، “على مستوى آخر أغنى و أعمق”. [10] حيت بدأت الفلسفة العربية في الأندلس تستعيد وعيها بذاتها وبالتالي دورها الطلائعي الريادي مع بداية التورة الثقافية التي دشنها ابن تومرت وواصل خلفاؤه من بعده.
إن إعراض ابن باجة عن الفلسفة المشرقية السينوية ورجوعه إلى الأصول إلى مؤلفات أفلاطون و أرسطو…كل ذلك كان بمثابة إعادة تأسيس للفلسفة في الفكر العربي و الثقافة العربية، بعد أن فشلت الفلسفة في تحقيق حلمها في المشرق و عليها الآن أن تبدأ من الصفر في المغرب.
درج المؤرخون للفلسفة في الإسلام و الباحثون في الثقافة العربية عموما على النظر إلى الفلسفة في المغرب و الأندلس كامتداد طبيعي للفلسفة في المشرق معتبرين فلسفة ابن باجة وابن رشد امتداد في الزمان لفلسفة الكندي و الفارابي وابن سينا واستعادة لموضوعاتها وإشكالياتها.
وهي نظرة يجب إعادة النظر فيها وهذه الدراسة للجابري هنا تستدعي اقتراح قراءة جديدة لفلسفة ابن باجة ومعقولية ابن رشد.
لقد نظر ابن باجة إلى مشروع الفارابي الحالم بعين الواقعية التي أملتها عليه أوضاع مجتمعه فعاش حلم الفارابي كأنه حلم المستقبل ولكن بصورة أكتر كمالا بمعنى، تجاوز تلك التحريفات التي مست معنى” السعادة” مثلا عند الفارابي من قبل الصوفية وجعلوها من لذة المشاهدة لكن في نظر ابن باجة اتخذت معنى السعادة منحى آخر إنها بمثابة بلوغ أقصى درجات العقل النظري أي الحاجة إلى العقل المجرد الرياضي الذي يتعامل مع الكائنات الرياضيات بدون وساطة الحس أو الخيال. وبالتالي فطريق الفلسفة في المغرب يرفض الطريق الذي سلكه بها فلاسفة المشرق.
“وبالتالي، فنقطة البداية في هذا المشروع هي تحرير الفلسفة الأرسطية واعتبارها أكمل فلسفة وهنا بالضبط سيتوج مشروع الجابري بنزعة ابن رشد كامتداد لنفس النزعة لدى ابن باجة، إنه جزء من خطاب عقلاني تميز به الفكر العربي الإسلامي في المغرب و الاندلس على عهد الموحدين”. [11]
لقد كان لابن باجة الفضل في تأسيس مشروعه الجديد والذي سيواصل عمله في هذا المجال ابن رشد حيت لا يخلوا مجهوده من فضل في تأليفه داخل العلم الطبيعي الأرسطي البرهاني من جوامع وتلخيصات وشروح متجاوزا بذلك كل من الفارابي وابن سينا وابن باجة نفسه.
حيت عمم مسألة التأسيس البرهاني للعلم الطبيعي لتشمل عدة مجالات وميادين بما فيها المنطق و الميتافيزيقا، “لقد كان شارحا وجامعا وملخصا لأعمال أرسطو وليس هذا فقط بل استعاد مشروع ابن حزم وابن باجة في إعادة تأسيس البيان وفي ميدان العقيدة بصفة خاصة وهو الميدان الذي كرس فيه ابن رشد جانبه النقدي، لنعرض إذن لهذا النقد؟”[12].
- المبحث الرابع: الروح الرشدية:
“لقد ميز الجابري في كل التراث بين المضمون الإيديولوجي و المحتوى المعرفي باعتباره جزءا من الماضي الذي لا يفيدنا في شيء، فإنه في المقابل لا يعتبر ذلك المضمون الإيديولوجي جزءا من صراعات الماضي وخصوماته التي انتهت وانقطعت ولم يعد لنا بها اليوم أية صلة بل إن له حياة أخرى يظل يحياها على مر الزمن في صور مختلفة.
إن ما يركز عليه الجابري هو تأكيده بأن ذلك المضمون الإيديولوجي لا يزال مستمرا ولم ينقطع يوما فالسينوية و الغزالية و الحنبلية …إلخ ما تزال مهيمنة مما يفسر كل النزعات الرجعية و الظلامية المهيمنة على الساحات الثقافية و الفكرية في العالم العربي الإسلامي هذه النزعات التي لا يمكن القطيعة معها مما يزيد من تكريس التخلف و الانحطاط ولا مجال للتخلص منها تقريبا حسب الجابري إلا بالتسلح بالرشدية باعتبارها مفتاح تحررنا على المستويات العلمية و الفلسفية.
وهذا في نفس الوقت يستدعي منا تجاوز الروح السينوية و الغزالية وتأثيراتها في مختلف عواصم الفقه الإسلامي واستبدالها بالروح الرشدية نظرا لما تتميز به من انفتاحها على الأصالة و المعاصرة”.
إن فترة ظهور ابن رشد، صاحبتها ضجة فكرية واسعة تمثلت في التشجيع على التفلسف و الاشتغال بها وذلك بحسب ما تقتضيه الضرورات الإيديولوجية و الاعتبارات الفلسفية السياسية وهذه الضرورات و الاعتبارات تفرض علينا اليوم استعاذة ابن رشد لفتح باب للاجتهاد في الفقه و تبيئة الفلسفة من جديد في أفق ترتيب عقلاني برهاني داخل العالم العربي الإسلامي.
لذلك يعتقد الجابري أن إصلاح الفقه الإسلامي و العقل العربي هو رهين باسترجاع الروح الرشدية، باعتباره يسلم بشرعية الفلسفة والقول بصلاحية مضمونها الإيديولوجي كما يعتقد بصلاحية محتواها المعرفي أيضا. وهذا ما يعلنه الجابري نفسه في كتابه” نحن و التراث “من أن المحتوى المعرفي للتراث عموما لا يمكنه مواكبة العصر وتجاوز رجعيته دون استعادته للروح الرشدية. ”[13].
- المحور الأول: إما أن تكون رشديا أو أن تكون رجعيا:
يحتل ابن رشد مكانة هامة في المشروع الإصلاحي لمحمد عابد الجابري لدرجة اعتباره مفتاح الحل لكل مشاكلنا الفكرية و السياسية العربية الراهنة حيت سعى الجابري إلى توظيف الفكر الرشدي في ترشيد دراسة التراث العربي وبيان موقع رؤية ابن رشد لهذا التراث كما وظفها الجابري في دراساته التراثية في “كتابه نحن والتراث” [14] و في رؤية الجابري للتراث يحدد تقدمه الرشدي في مجموعة من الاعتبارات أهمها:
أولا: “اعتبار الفلسفة الإسلامية بضاعة أصيلة للمجتمع العربي الإسلامي عكست مشاكله وآلامه وحملت آماله و أحلامه وكانت بالفعل ضميره”. [15]
تانيا: اعتبار أن تاريخ الفلسفة الإسلامية بدأ مع تعرفه إلى الفلسفة اليونانية ولم ينته بانتهاء حاجة الفكر الفلسفي الأوروبي المعاصر إلى قراءة حاضره أو مستقبله من خلال هذه الفلسفة اليونانية
تالتا: “الجزم بأن الرشدية هي ما يصلح لنا اليوم مما تبقى من تراثنا كله حيت ميز الجابري في تراثنا بين محتواه المعرفي ومضمونه الإيديولوجي ليستبعد ذلك المحتوى المعرفي لعدم فائدته بالنسبة إلى عصرنا”[16] ويفصل في هذا المضمون الإيديولوجي بين لحظتين اثنين:
- المحور الثاني: اللحظة السينوية و اللحظة الرشدية:
حيت يخرج الجابري باستنتاج حول “اللحظة الثانية التي طورها ابن رشد انطلاقا من ابن باجة وابن حزم بطريقة برهانية عقلية نقدية قطعت الصلة مع لحظة حلم الفارابي كما عاشه ابن سينا مؤكدا في الأخير أن عصرنا يحتاج إلى الرشدية للتأقلم داخل التراث والتاريخ مستبعدا كليا اللحظة الأولى كونها لن تفيدنا إلا بالتقوقع أكتر في الباطنية الهرمسية الصوفية خارج التاريخ”. [17]
وما يلاحظ في هذه الأطروحة هو أن دراسات الجابري التراثية ممثلة في نصوصه بكتابه “نحن و التراث” أنه كان يهدف بالحجة في هذه الأطروحة من خلال استعانته لابن رشد الفقيه المجتهد و العالم المفكر. ويتوضح ذلك:
إن ما يجعل الرشدية يتخذها الجابري كأساس للعقلانية البرهانية هو قطيعتها مع السينوية. لقد ظل التصوف غير مقبول لدى العلماء و الفقهاء المتمسكين بالطابع الغربي لأنهم كانوا يرون فيه بضاعة أجنبية وافدة من الفرس لا تنسجم مع الدين الإسلامي الذي يقوم على البساطة و الفطرة لأن الخطاب الغربي هو خطاب عقل وليس خطاب غنوص أو عرفان …
لم يقطع ابن رشد مع الروح السينوية الغنوصية وحدها بل قطع أيضا مع الطريقة التي عالج بها الفكر النظري والكلام و الفلسفة …لقد رفض طريقة المتكلمين في التوفيق بين العقل و النقل ورفض طريقة الفلاسفة الهادف إلى دمج الدين في الفلسفة.
لأن المتكلمون يقيدون العلم بالفهم الذي يكونوه لأنفسهم عن الدين فأخضعوا العلم لمستوى فهمهم ولم يطوروا مستوى فهمهم للعلم. مما اضطر ابن رشد على اقتراح البديل الكامن في الدعوة إلى فهم الدين داخل الدين وبواسطة معطياته وفهم الفلسفة داخل الفلسفة وبواسطة مقدماتها ومقاصدها وذلك هو أساس التجديد في الدين و الفلسفة معا.
لقد انطلق الجابري من اعتماده على الرشدية، “بتقويض اللحظة السينوية والقطيعة الإبستمولوجية معها أساسا، و الدعوة إلى الاستعانة بابن رشد”. [18] وباعتباري قارئة لهذا الباحث لا يمكنني إلا أن أسجل في سطور كتابه مختلف عبارات المدح و التنويه و التشجيع التي يخصها الجابري لابن رشد ومتال على ذلك: ”{…} و”بنفس الذكاء الرياضي بل العبقرية الرياضية يناقش ابن رشد اعتراض الغزالي على برهان الفلاسفة على قدم العالم…إلخ “[19]
وإذا كان عنوان مشروع الجابري الفكري هو السلاح النقدي لنقد العقل العربي البرهاني و الذي يشكل بمثابة وصية منهجية وفكرية أساسية في مؤلفات وكتابات الجابري من أجل الخروج من عطالة العقل العربي “فإن سلاح هذا النقد الذي يظهر في جل قراءاته التراثية يختفي لحظة استحضار الرشدية من خلال استلهام فكرة تحقيق حلم المدينة العربية القومية التقدمية الاشتراكية”. [20]
لقد وجد الجابري في “ابن رشد مميزات تؤهله ليكون نموذج التنوير و الحداثة في ملتنا وهي أخلاقه السياسية و الاخلاقية من جهة وفي كون ابن رشد قادر على مواجهة غلاة المستشرقين المتعصبين للغرب باتبات قدرة الذات على التجاوز و التجديد كونه تحمل مسؤولية حماية الفلسفة و العلم و تكريس وجودهما في تاريخ العقل العربي الإسلامي “. [21] وبالتالي فإن إعجاب الجابري بابن رشد مبرر “مادام حمله مسؤولية المواجهة الإيديولوجية المزدوجة ضد الاتجاهات الفلسفية و الإستشراقية على السواء”. [22]
إن غاية الجابري من الرشدية كانت إيديولوجية أساسا تنخرط في قضية النهضة القومية العربية و إشكاليته المختلفة، لذلك اعتمد الجابري على الرشدية كسلاح لمحاربة التقليد و الرجعية و الظلامية و الماضوية المهيمنة على الساحة الفكرية و السياسية العربية المعاصرة.
إنها الصورة التي رسمها الجابري لابن رشد في كتابه “نحن و التراث” و هي نفسها وجدتها في دراساته و أبحاثه اللاحقة ابتداء من مشروعه الضخم” نقد العقل العربي” وخاصة في مؤلفاته” تكوين العقل العربي” و” بنية العقل العربي” وهي كتب لم تخرج عن السياق العام لهذا المشروع النظري.
لقد شكلت الرشدية حسب الجابري قطيعة إبستمولوجية مع الفلسفات المشرقية السينوية و الفارابية على المستويات كافة، المنهجية منها و المفاهيمية و الإشكالية… الأمر الذي جعل من الرشدية مصدر تحرر العقل العربي و تقدم الفكر العلمي نظرا لما هدفت إليه من إصلاح و تجديد، على جميع المستويات، من أهمها: إعادة ترتيب العلاقة بين الحكمة و الشريعة، كما تم الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة ووضع قواعد لبداية المجتهد و نهاية المقتصد، وبيان تهافت الخطاب المناوئ للفلسفة.
أما في مجال البرهان فإنه يقتضي قراءة أرسطو بواسطة أرسطو نفسه بالانقطاع إلى نصوصه وحدها و الإعراض عن تأويلات الهرمسية و الأفلاطونية وامتداداتها السينوية، والتحرر من الإشكالات الفقهية والكلامية و الفلسفية.
لقد انطلق ابن رشد في تصوره المنهجي الجديد للعلاقة بين الدين و الفلسفة من مبدأ أساسي سبق أن أكدت عليه وهو الفصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة فصلا جذريا أساسه أن لكل منهما طبيعته الخاصة التي تختلف جوهريا عن طبيعة الآخر ومن هنا التأكيد على الخطأ الناجم من محاولة دمج قضايا الدين في قضايا الفلسفة أو العكس لأن عملية الدمج هذه تبقى غير ممكنة.
لنعد إلى مسألة كمال فلسفة أرسطو التي أشرت إليها و التي اعتبرها ابن رشد هو أساس العقلنة حيت يرى في الفلسفة الأرسطية بناء متماسكا، تفتقده باقي الفلسفات التي تعجز عن تحقيق هذا التماسك المنطقي. إن المبدأ الذي سار عليه ابن رشد في شروحه على أرسطو هو مبدأ أساسي القائم على الفصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة أما تحليله للقول الديني التأويلي هو ينطلق من مبادئ عدة يشرحها بتفصيل في كتابه “تهافت التهافت” دراسة وتعليق أبو عبد الرحمن بن علي أهمها:
أولا: أن القول الديني هو دوما على وفاق مع ما يقرره العقل يعني أن الحقيقة واحدة وإن الخلاف بين العقل الديني و العقل الفلسفي يتجلى فقط في طريقة التعبير عن الحقيقة و الإفصاح عنها.
تانيا: “العقل يستعمل البرهان، أما الوحي فيلجأ إلى الاستعانة بالحس. وهذا الاختلاف يرجع إلى اعتبارات عدة بيداغوجية بالأساس لأن القول الديني خطاب إلى الناس كافة إلى المتعلمين وغير ذلك لأن هدفه الأساسي هو تقويم السلوك البشري فهو يخاطب العقل و الحس معا، ويستعمل الطريقة البرهانية والطرق الجدلية و الخطبية ومن هنا كان التأويل معناه تحويل القول الجدلي والقول الخطابي إلى القول البرهاني، إلى حديت العقل المجرد. ”[23]
لقد شكل الخطاب الفلسفي الرشدي عقلانية نقدية واقعية حيت تحرر كليا من الجهاز الإبستيمولوجي الذي كرسته في المشرق مدرسة حيان بكيفية خاصة و الأفلاطونية الجديدة بكيفية عامة و ايديولوجيا من العوامل الاجتماعية التاريخية التي صاغت حلم المدينة الفاضلة الفارابية والحكمة المشرقية السينوية فاتحة المجال إلى معالجة العلاقة بين الدين و الفلسفة بعقلانية واقعية تحفظ لكل من الدين و الفلسفة هويته واستقلاله وتسير بهما نحو اتجاه البحت عن الحقيقة.
يقرر الجابري بأن اصلاح ابن رشد للشأن الديني هو في حد ذاته “دفاع عن العلم و الحرية من داخل الدين وبواسطته، وأيضا لفائدة فهم متفتح للدين وتوابثه أما تأويلات المتكلمين التي لم تتقيد بأقاويل العلم الأرسطي ومنطقه فلا يتردد في القول إنها اتخذت شكلا وتوقيا ودغمائيا منغلقا وتبريرات ذلك هو اقتصارهم فقط على فهم النصوص الدينية وفوائد ذلك في غرس الفضيلة وليس الانشغال بفهم الكون وتفسير ظواهره”. [24]
عموما إن رشدية الجابري لم تقف عند حدود استدعاء ابن رشد الفيلسوف من خلال قراءة معينة لكتبه بل تفسر المشروع الرشدي تفسيرا وتوظفه توظيفا سياسيا في الصراعات المعاصرة اليوم، لأن ما يميز فلسفة ابن رشد هو أنها عاشت مستقبلها في أوربا حيت لم تقم فلسفته البرهانية بعدها داخل الثقافة الإسلامية كما كان شأن مثلا الغزالي والفارابي …إلخ،
فحياته الشخصية متميزة لأنه خلف تأثيره الإيجابي ذو الطابع البرهاني لم يستطع أن يقيم مثلها غيره مما جاء بعده. لقد تميز على الغزالي و الفارابي دون أن يجعل من برهان أرسطو الذي وظفه داخل الثقافة العربية الإسلامية ضحية لتصوف أو لغيره…
إذا كانت لحظة الغزالي وابن سينا شكلت الأزمة على مستوى الثقافة العربية الإسلامية والتي بدأت أعراضها قبله بقرن أو أكتر فإن ابن رشد في نفس الوقت شكل مرحلة التجديد التي بدأت تباشره قبله كذلك بقرن أو يزيد.
والذي يجد نقطة بدايته في ابن حزم مما جعله يقف موقفا عدلا بين الخصمين الكبيرين الغزالي وابن سينا ويفصل في مختلف النزاعات بينهما وذلك بكشف انحرافات ابن سينا عن أصول الفلاسفة وتباين تهافت واعتراضات الغزالي على هؤلاء الفلاسفة بعد الفيلسوف الأصيل الذي حاول تصحيح تراث أرسطو بما يقتضينه مذهبه، أما أفق هذا التصحيح الرشدي فيتحدد في ترتيب العلاقة بين الملة و الحكمة ترتيبا يقوم على أساس الفصل بينهما كبديل عن منهج الدمج و التوفيق الذي سلكه فلاسفة المشرق الإسلامي.
- المحور الثالث: ابن رشد القاضي في الفلسفة:
يعتقد الجابري أنه إذا كانت الخلفيات الإيديولوجية هي التي حركت الخصوم بين الغزالي وابن سينا الذي حاول انطلاقا من انتمائه للمذهب الشيعي الاثني عشري، تأسيس بديل كلامي لعلم الكلام الأشعري الأمر الذي وقف ضده الغزالي دفاعا عن مذهبه الأشعري ضدا على كل الأطروحات المعارضة، إذا كان الأمر كذلك في المشرق الإسلامي.
فإن ابن رشد وبحكم انتماءه للغرب الإسلامي لم يكن معنيا بالخلفية الإيديولوجية لموقف كل من الغزالي وابن سينا لذلك اتخذ موقف القاضي الذي اعتمد في أحكامه على الإثباتات و الشهادات التي توجد أمامه فقط. هكذا ينتقد ابن رشد كما سبق أن أشرت في “تهافت التهافت” الغزالي الذي يحمله في كونه لم يلتزم طريق البرهان في كتابه تهافت الفلاسفة بل اتبع سبيل السفسطة ولم يبين تناقضات أرسطو كما ادعى بل تعامل فقط مع نصوص ابن سينا الذي نزل بالعلم الإلهي إلى مستوى علم الكلام ومنهجه الجدالي. وخير دليل على ذلك قول الجابري في “تهافت التهافت”: ص 47/48
اعتبر ابن رشد أن تعريفات الغزالي انحرافات، لأنها خرجت عن أرسطو. ربما أن الغزالي اضطلع على التأويل وأفصح فيه وبما يشبه البرهان لمن ليس من أهل التأويل ولا البرهان وبذلك أدى إلى خلط رهيب كادت تضيع معه الشريعة والفلسفة على السواء فالغزالي وابن رشد في حد ذاته يمتل سلطة مؤثرة على عقول العامة فضلا عن الخاصة.
لقد سجل ابن رشد مجموعة من الملاحظات على اعتراضات الغزالي على الفلاسفة أهمها أنه عمد إلى الخلط بين مواقفهم فهو يدعي الرد على أرسطو بينما يكتفي بتعميم ما قاله عن ابن سينا على سائر الفلاسفة تم بالحكم بالكفر على الجميع في قضاياهم، التي لم تكن تشغل الحكماء القدامى بالقدر الذي كانت تشغل بال المتكلمين المسلمين على خلاف ذلك.
يرى فيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها ابن رشد أن القدامى يعظمون الشرائع الدينية وكانوا أشد الناس إيمانا بها لأنها تدبير للإنسان بما يحقق سعادته الشخصية ولم يكن جائزا عندهم التكلم و الجدل في هذه العقائد الدينية التي كانوا يقدرونها أيما تقدير.
نتابع رصد منهج فيلسوف قرطبة في التصحيح الفلسفي و القائم على فكرة رئيسية تتمثل في أن الفلسفة الأرسطية تعرضت لتشويه كبير سواء مع ابن سينا أو مع الفارابي أو مع من سبقهم من الشراح القدامى وقد حان الوقت لتصحيح صورة تلك الفلسفة وتنقيتها من كل التشويهات و التعريفات التي لحقت بها وتلك هي المهمة التي سيضطلع بها الشارح الأكبر لهذه الفلسفة أبو الوليد ابن رشد.
لقد تعامل الشارح الأكبر مع المتن الأرسطي ككل موحد، تحكمه أصول محددة بتعين النظر إلى مختلف الفروع من خلالها وبذلك تمكن من تنقية المنظومة الأرسطية من كل الشوائب و التحويرات التي تعرضت لها على يد الشراح وفي مقدمتهم ابن سينا ومن هذه الجهة يعتبر الجابري أن سر إعجاب ابن رشد بأرسطو لا يرجع دوما إلى الاتفاق معه في هذه المسألة أو تلك ولكن يرجع إلى أن كل آراء المعلم الأول تجد لها ما يبررها داخل منظومته الأرسطية بعبارة أخرى، إن ما كان يجذب ابن رشد لأرسطو هو منهجه البرهاني الذي كان يرى فيه المنهج الأسمى القادر على تحصيل العلم و المعرفة اليقينية.
لا شك أن الجابري كان قارئا لابن رشد ومن خلال قراءتي للجابري ألاحظ داخله حضور ابن رشد و يمكن القول أن النص الرشدي يلعب دورا مهما في تشكل فكر الجابري حيت تمت صياغة فكر الجابري تحت تأثير جارف لابن رشد و موقفي من إبراز هذا الإشكال هو رصد خفايا ذلك الحضور و رصد إلى مدى حمل ابن رشد مسؤولية ترسيخ وتصحيح الخطاب البرهاني داخل الثقافة العربية الإسلامية.
لقد رأى الجابري في ابن رشد فيلسوفا مصححا و مدققا يتحرك في شتى الاتجاهات الفلسفية و الفقهية ووظفه لهذا الغرض مركزا على نقطة واحدة هي إعادة الأمور إلى نصابها بعدما لحقها من ضرر على يد السفسطائيين المغالطين و المتكلمين الخطابيين. فعمل ابن رشد بذلك يخضع لغاية موجهة تتمثل في إعادة البناء. إن ابن رشد حسب الجابري يعيد بناء كل من الفلسفة و العقيدة القرآنية بالعمل من جهة على تخليص الفلسفة من تأويلات ابن سينا و الرجوع بها إلى الأصول إلى أرسطو بالذات و العمل من جهة أخرى على تخليص العقيدة الإسلامية من تأويلات المتكلمين و في مقدمتهم الأشاعرة و الرجوع بها إلى الأصول.
و لأجل هذا تعامل الجابري مع النصوص الرشدية من خلال قراءة تتخدد نقطة ارتكازها عقلانية فيلسوف قرطبة و بعد تبين هذه النقطة و تحصينها جيدا يكشف الجابري عن الآليات التي اعتمدها ابن رشد و هو يتجه نحو المنطقة المظلمة في الموروث العربي لكي يسلط عليها أضواء الفلسفة الكاشفة و هذا ما نجده بشكل خاص في تعامله مع السينوية و الغزالية و مشتقاتها. وهكذا لمحاربة جدليات و خطابات السينوية الهرمسية سيلجأ إلى:
-شرح أرسطو وتقريبه إلى الناس.
-الكشف عن انحرافات ابن سينا في كتابه تهافت التهافت” و الرد على تشويش الغزالي.
-الرد على عموم الأشاعرة في كتابه فصل المقال فيما بين الحكمة و الشريعة من الاتصال حيت يبين أن النظر في المنطق و الفلسفة واجب شرعا نظرا لتكفير الأشاعرة للفلاسفة و تحريمهم المنطق و الفلسفة.
-إبطال منهجية المتكلمين و طريقة المتصوفة في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة.
يؤكد الجابري أنه يقوم بهذه القراءة على ضوء الأبستمولوجية، و ينأى بنفسه عن الإيديولوجيا إنها قراءة ابستمولوجية خالصة ومن هنا جدتها، ففي كتاب ) نحن و التراث( يشير إلى أنه يقدم قراءة جديدة لفلسفة ابن رشد مفصحا عن القطيعة الإبستمولوجية باعتبارها محددا من محددات تلك القراءة مبينا أنه ينظر إلى المدرسة الفلسفية التي عرفها المغرب الإسلامي على عهد دولة الموحدين كمدرسة مستقلة تماما عن المدارس الفلسفية في المشرق، فلقد كان لكل واحدة منهما منهجها الخاص و مفاهيمها الخاصة و إشكاليتها الخاصة.
من هنا تستند الأطروحة الأساسية للجابري إلى القطيعة بين المدرستين المغربية و المشرقية التي تتبدى برأيه على صعيد المنهج و المفاهيم و الإشكالية فالأمر يتعلق بفلسفتين مختلفتين نوعيا: اختلاف بين فلسفة مغربية عقلانية برهانية و إصلاحية، تستمد مقومات وجودها من تورة ثقافية كبرى، تمردت على التقليد وعادت إلى الأصول و ارتكزت على الأرسطية في صفائها و نقائها بعد أن تم تطهيرها مما هو دخيل عليها، وبين فلسفة مشرقية خلطت الديني بالفلسفي و تأثرت بالأفلاطونية المحدثة فابتعدت عن أرسطو الحقيقي و قدمت لنا أرسطو آخر متشبع بالعرفان و الغنوصية.
فالجابري لا يتعامل مع هذا الفيلسوف باعتباره هدفا في حد ذاته بل من حيت هو وسيلة يمكن أن تخدم قضية راهنة، فابن رشد قد مات لكن العرب مازالوا و إذا كانت هناك مهمة تستحق النهوض عليها فهي استدعاء الشيء الحي في ابن رشد ليؤدي وظيفة في زمان العرب.
إن هاجس الجابري هو إنجاز قراءة لم يسبق إليها أحد، يكون لها وقع في تحرير العقل العربي حيت القيام بتلك القراءة على ضوء مفهوم القطيعة الإبستمولوجية ففيه تتجلى تلك القطيعة في أبهى صورها بالنظر إلى الموقف الصارم الذي اتخذه اتجاه فلاسفة المشرق فما قدموه غريب عن الفلسفة و أقرب إلى التصوف.
إن الجابري هنا يخاطب قارئه من خلال فيلسوف قرطبة لكي يرسخ لديه البرهان و العقل و التحليل و النقد لكن نتساءل مع الجابري لماذا ابن رشد هو بالتحديد؟
لأن الجابري كان مدركا أن الصراع ضد ممتهني الخطابة الدينية لأغراض سياسية في عصرنا يشبه تماما عصر ابن رشد ضد متكلمي عصره فالطرفان المتصارعان متماثلان) العقل و الفلسفة( من جهة و )النقل والخطابة و الكلام( من جهة تانية، لقد رأى فيه محاربا ضد التعصب و الدغمائية فهو الفيلسوف الذي يواجه المتكلمين مواجهة شاملة.
فلا يستثني أقربهم إلى العقل و العقلانية و نعني المعتزلة طالما أن منهجهم و منهج غيرهم من الفرق هو عينه بمعنى تعارضه التام مع ما هو برهاني.
ما أهدف من خلاله هنا هو إبراز الأهمية الرشدية في ثقافتنا و حاجتنا إليه في تأسيس عقلية برهانية صرفة مركزة على تحقيق نهوض و تجديد عربيين و بالتالي استحضار الجابري لابن رشد ليست محاولة فلسفية تأملية فقط و إنما لها رهان عملي تروم إنجازه.
فهي منشدة إلى مشروع ينشد بديلا عقلانيا حداثيا لوضع عربي يسوده الجهل و الاستبداد. و الجابري لا يخفي هذا البرهان بل يبرزه إنه يطلب مقصدا واضحا و هو تجديد الثقافة العربية، هذا التحديد الذي لن يكتب له النجاح إلا إذا انطلق من عناصر عقلانية تتضمنها تلك الثقافة نفسها أما إذا استند ذلك التجديد إلى عناصر خارجية برانية فإن مصيره الإخفاق لا محالة.
فهو يرى أن هناك حاجة ماسة لابن رشد عربيا و أن هذه الحاجة علمية بالأساس و لكنها إيديولوجية أيضا، خاصة من جهة الاجتهاد و النقد و اتباع سبيل الفضيلة. فحاجة الرجل هي حاجة فقهية و فلسفية و علمية و هي ضرورة تفرضها علينا أوضاع العقل العربي المنهزم و حاجتنا إلى تجديده في إطار أساسي برهاني، بحجة العقل العربي دو روح علمية نقدية اجتهادية و اتساع أفقه المعرفي و انفتاحه على الحقيقة.
بقيت الإشارة إلى مسألة أخرى أساسية إذ هي، “تلبس ابن رشد في توب الفيلسوف المسلم الحريص على دينه و إيمانه الذي يحاول جاهدا أن يبرر الصورة الحقيقية لذلك الدين، فابن رشد يتقمص على يد الجابري توب المدافع عن العقيدة و الشريعة لكنه، لا يقوم بالدفاع كيفما سبق مع غيره من مدشني الطابع البرهاني و إنما يعتمد دفاعا عقليا برهانيا من خلال قراءة داخلية للدين تربطه بمقاصده العملية و خاصة الأخلاقية منها. ”[25]
ما نخلص إليه هنا هو أن ابن رشد قد تحرك في نفس الإطار العام ونفس الاتجاه النقدي الذي تحرك فيه ابن حزم. ويرجع له الفضل في رفع مستوى الفكر الفلسفي الناضج المتمكن من نفسه الواعي لنضجه، حيت يمتل أوج الفكر التاريخي والاجتماعي والسياسي في الثقافة العربية الإسلامية ويمتل قمة ما وصل إليه العقل العربي في ميدان الفلسفة لكن بظهور ” أبو اسحاق ابراهيم ابن موسى اللخمي الغرناطي الشاطبي” المتوفى سنة 790هجرية، متل قمة ما وصل إليه العقل العربي في ميدان الأصول وكل هؤلاء الشخصيات تمتل مستوى واحد من النضج العقلاني على درجة واحدة في مجال التجديد و الإبداع العقلي. كما سبقت الإشارة.
إن كل من ابن حزم وابن رشد سبق وأن مارسا الاستنتاج ) القياس الجامعي والاستقراء( وتكلف ابن رشد خاصة في التركيز على ضرورة اعتبار مقاصد الشرع حيت أبطل ابن حزم القياس وأحل محله ما عبر عنه “بالدليل” والذي شكل عنده قياس برهاني والتي تم توظيفه كبديل عن قياس الفقهاء في ميدان الشريعة والتي طبقها ابن رشد في ميدان العقيدة بمهارة بديلا عن منهج الاستدلال بالشاهد على الغائب الذي اعتمده المتكلمين.
ونفس التصور سنجده مع معاصريه أبرزهم الشاطبي وابن تيمية…فكيف تحدد معهم مفهوم العلم والقطيعة مع المعرفة السائدة و إعادة تأسيسها تأسيسا برهانيا؟
- ابن تيمية:
“والذي لا ننسى دوره في وقوفه في وجه كل من الباطنية والصليبية والفقهاء والأشاعرة المتجهين والذي كان تأثير الحزمية وابن رشد عليه واضحا في اتجاهه الحنبلي السفلي، حيت تأثر بجوانب من آراء ابن حزم والتقاءه معه في كتير من المسائل الأصولية كرأيه في “الإجماع” كما يجمل آراء ابن رشد في مسائل علم الكلام حيت أظهر ابن تيمية رفضه لفكرة الجوهر الفرد واعتبرها من أغاليط المتكلمين.
و يوافق ابن رشد في كتابه” الكشف عن مناهج الأدلة “في بعض المسائل الهامشية كاعتراض ابن تيمية على من نفى الجهة عن الله من المتكلمين وتأكيده إنه إذا كان المقصود بالجهة ما وراء العالم فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات، حيت خصص لهذه المسألة ابن رشد فصلا فرعيا في كتابه” الكشف عن مناهج الأدلة” مما يمكن القول أن كل ما يقرره ابن تيمية في مختلف كتبه من أن العقل والنقل لا يتعارضان إنما نجد مرجعتيه المباشرة عند ابن رشد.
ومع ذلك فلا يجوز أن نغفل مسألة الاختلاف الواسع بين الاتجاهات الثلاثة، )الحزمية والرشدية و ابن تيمية(. وما يهمني هنا بالخصوص هو إشارتي له مادام يشكل أحد الرواد الذين خلفوا أترهم داخل الثقافة الإسلامية. ”هذا إضافة إلى وجود مظاهر أخرى من مظاهر تأسيس البيان على البرهان في الفكر الأندلسي إنه شخصية علمية أندلسية عاصرت ابن خلدون وعاشت بعد ابن رشد بنحو قرنيين من الزمن، إنه الشاطبي”[26].
- الشاطبي:
“الذي تزامن ظهوره بجانب من التجديد و الإبداع في منهجه وهو قد اتبع نفس مسار الحزمية والرشدية حيت استلهم التطبيق الرشدي للخطوة المنهجية الحزمية ودشن مقالا جديدا في المنهج الأصولي أساسه: “إن كل دليل شرعي مبني على مقدمتين إحداهما نظرية تثبت بضرورة الحس والعقل والنظر و الاستدلال، أما الثانية فنقلية تثبت بالنقل عن الشارع نقلا صحيحا.
هذا بخصوص الخطوة المنهجية الأولى أما بالنسبة للاستقراء وكما تمتل مع ابن حزم وابن رشد، فقد دعوا إلى اعتماده منهجا في التعامل مع النص القرآني القائم على بديهية الحس و العقل، وقد سلك ابن رشد نفس المسلك في ميدان العقيدة. يأتي الشاطبي بهذا الخصوص ليوظف هذا التطبيق الرشدي للاستقراء الحزمي توظيفا جديدا قوامه استخلاص كليات الشريعة التي هي كليات استقرائية.
كما أخد الشاطبي فكرة ضرورة اعتبار مقاصد الشرع من ابن رشد الذي وظفها في مجال العقيدة ونقلها إلى مجال الأصول، فدعى إلى ضرورة بنائها، وبذلك يكون الشاطبي قد دشن قطيعة ابستمولوجية حقيقية، مع طريقة الشافعي وكل الأصوليين الذين جاءوا بعده من أجل إعادة بناء هذا العلم بالصورة التي تجعل منه علما برهانيا، علما مبنيا على القطع وليس على مجرد الظن ويتوضح هنا، أن الشاطبي يريد أن يجعل من علم الشريعة علما برهانيا. علما مبنيا على القطع. فكيف حدد مفهوم القطع ؟ وما هو مفهومه للعلم؟
القطع هو الجزم وهو ضد الظن حيت ما يرغب به الشاطبي هو بناء الشريعة كلها وذلك بإعادة صياغة أصولها بصورة تجعل منها علما برهانيا. فكيف تم ذلك؟
يرى الشاطبي أن الشريعة تتوافر فيها شروط العلم البرهاني وبالتالي فهي تفيد القطع لأنها وإن كانت وضعية لا عقلية، فالوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي وعلم الشريعة من جملتها {العلوم الوضعية المعطاة +المعطاة +النقلية}.
وعموما يمكن القول أن الشاطبي، “قد دشن نقلة إبستمولوجية هائلة في الفكر الأصولي البياني العربي نقلة أعطت تمارها حقا داخل الثقافة العربية الإسلامية، نقلة كانت جديرة بتحقيق المشروع الحزمي الرشدي، بتأسيس البيان على البرهان وذلك انطلاقا من البيان نفسه،) علم الشريعة(“[27].
“أما بخصوص ابن خلدون والذي كان بعيدا عن تأثيره للشاطبي، حيت من غير المحتمل أن يكون ابن خلدون قد اطلع على أفكار وموافقات الشاطبي نظرا لأن الشاطبي توفي سنة) 790هجرية (وقد مضت فقط عشر سنوات على انتهاء ابن خلدون من تأليف مقدمته) 779هجرية( حيت يعكس الأمر أن كلا منهما عملا على تحقيق المشروع الحزمي الرشدي، كل في ميدانه.
فإذا كان الشاطبي أراد أن يجعل من الشريعة علما بتأسيسها على البرهان فإن طموح ابن خلدون كان أكبر. حيت أراد أن يجعل من التاريخ بأكمله مؤسس على البرهان، فإذا كان الأمر قد تطلب من الشاطبي توظيف الطريقة البرهانية القائمة على المنطق القادر على تأصيل أصول الشريعة برهانيا فإن تأسيس التاريخ على البرهان قد تطلب من ابن خلدون خطوتين أساسيتين: أولهما أن يختار أنجع الطرق البرهانية الصالحة للتطبيق في ميدان التاريخ، بابتكار منطق خاص بالتاريخ وثانيهما أن يكون هذا المنطق قادرا على نقل التاريخ من ميدان اللاعلم إلى مستوى العلم.
ما يريد الإشارة له هنا الجابري هو تأكيده على أن الرجلين معا يمتلان مشروع فكري واحد قوامه تأسيس البيان على البرهان.
لقد أراد صاحب المقدمة ابن خلدون أن يرتفع بالتاريخ من مجرد سرد أخبار عن الأيام والدول والسوابق إلى عمل علمي قوامه نظر وتحقيق وتحليل الكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق.
لقد اكتملت نظرتنا الآن بوضوح حول ما يعنيه الجابري بعبارة تأسيس البيان على البرهان التي جعلها عنوان لذلك الاتجاه الفكري التجديدي العقلاني النقدي الذي عرفته الثقافة العربية الإسلامية في الأندلس والمغرب ابتداء من ابن حزم وصولا إلى ابن خلدون، مؤسس البيان التاريخي على الواقعات وارتباطها بطبائع العمران.
إن الأمر فعلا يخص لحظة ليست بسهلة وإنما لحظة لها أهمية كبيرة في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية. “إنها لحظة عرفت بنقد الأساس الإبيستمولوجي في تاريخ الفكر العربي والذي قام عليه الحقل المعرفي البياني منذ عصر التدوين، واقتراح أساس جديد توظف فيه مفاهيم البرهان العقلي باعتماد منهج المنطق والطبيعيات بصورة خاصة، القادر على رفع الممارسة النظرية في الحقل البياني إلى مستوى الممارسة العلمية البرهانية. ”[28]
حيت بدلا من تلك الممارسة التي شهدناها مع مرحلة البيان، القائمة على طلب المعاني من الألفاظ والنظر إلى الحوادث و الأشياء كأجزاء منفردة منفصلة بعضها عن بعض، و الاتجاه بآلية التفكير إلى المقاربة بينها بقياس الجزء على الجزء وهي أمور كانت تؤسس البيان منهجا ورؤية والتي تتنافى بطبيعتها مع التفكير المنطقي و اليقين العلمي.
ظهر في مقابل ذلك تيار تجديدي في الأندلس و المغرب والذي قام على منطلقات منهجية قائمة على المنهج المنطقي و العلم الطبيعي الأرسطي وهي منطلقات من الحقل المعرفي العلمي لذلك العصر بكل خصائصهما الاستقرائية و الاستدلالية و العموم و الاطراد و السببية و المقاصد… إلخ.
وأخيرا النظرة التاريخية الخلدونية، وهي مفاجئة العصر لأنها نظرة طموحيه كبيرة رمت تأسيس المنهج البرهاني على التاريخ ككل، وهي نظرة كانت جديدة تماما ليس على الفكر البياني وحده وإنما على الفكر الإنساني بإطلاق.
لقد اكتشفنا مع هؤلاء الشخصيات طرق التفكير الجديدة وكيفية توظيفهم لمفاهيمهم ورغم اختلاف وجهات نظرهم واختلاف طرقهم في توظيف مفاهيم، واختلافنا نحن جيل اليوم معهم، فما يهمنا من خلال هذا الاختلاف هو طريقة تفكيرهم وتنصيبهم للعقل البرهاني داخل الثقافة العربية الإسلامية ولا نملك إلا أن نصدع بالحقيقة التالية يقول الجابري: ”وهي أن ما ننشده اليوم من تحديت العقل العربي وتجديد الفكر الإسلامي يتوقف ليس فقط على مدى استيعابنا للمكتسبات العلمية و المنهجية المعاصرة مكتسبات القرن 20 وما قبله، وما بعده بل أيضا ولربما بالدرجة الأولى يتوقف على مدى قدرتنا على استعادة نقدية بابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون”. [29]
ونختم هنا مع الجابري في القول مع التأكيد معه، أن العقل البرهاني الذي كان لهؤلاء الشخصيات الفضل في تنميته داخل الثقافة العربية الإسلامية و الذي نحتاجه نحن كجيل اليوم إذا أردنا إعادة ترتيب علاقتنا بتراثنا بصورة تمكننا من إبداع عقل عربي داخل الثقافة العربية، التي هي مسكن هذا العقل أساسا. يؤكد الجابري أنه بدون التعامل النقدي العقلاني مع ذواتنا لن نتمكن قط من تعميم الممارسة العقلانية على أوسع قطاعات فكرنا العربي المعاصر.
إن تعاملنا مع التراث يستوجب ضرورة ممارسة عقلانية تدعوا إلى الحداثة و التجديد. وسيكون منبعنا أساسا حسب الجابري هو استعادة تلك العقلانية النقدية التي شكلت خطابا جديدا في الأندلس و المغرب ابتداء من ابن حزم وصولا إلى ابن خلدون. وباعتماد هؤلاء الشخصيات فقط، يمكن إعادة بنية العقل العربي من داخل الثقافة الذي ينتمي إليها مما يسمح لهاته الشروط الضرورية لتدشين عصر تدوين جديد في هذه الثقافة الإسلامية.
وهذا ما أكده في خاتمة كتابه “الخطاب العربي المعاصر” حيت يرى الجابري أن تغيير بنية العقل لا يتم إلا بالممارسة العقلانية النقدية لشؤون الفكر، لتجاوز سلطة البيان اللاشعورية للتراث وتأسيس أخرى. وبالتالي لا يصح هذا التجاوز و هذا التجديد، دون تجديد وسائل عصرنا المنهجية و المعرفية و توظيفها بالصورة التي تمارس قدرتها الإجرائية أي وظيفتها كأدوات علمية. لكن السؤال كيف نمارس التحديث من داخل تراثنا نفسه؟
يعود ويؤكد الجابري مرة أخرى، أن يبقى تراثنا الفكري الاجتهادي قابلا لأن تنتظم فيه عملية التجديد و التحديث المطلوبة الممثلة في تلك الجوانب التي سبق أن أبرزتها من منظور الجابري في المشروع الثقافي الأندلسي. وهي المتجلية في التورة القائمة ضد العقل المستقيل وضرورة الاجتهاد و تجاوز التقليد.
وحتى لا نبقى أوفياء للتقليد ولكي نكون حداثيين وما هدفنا من ذلك حسب الجابري هو النهوض بالعقل العربي الإسلامي وبعت الحياة فيه بالإبداع الفكري، ولنؤسس عقل برهاني نقدي، يدعونا الجابري إلى توظيف العقلانية النقدية، الحزمية و الرشدية …إلخ. حتى لا نتناسى تراث هؤلاء الشخصيات ونمتل نزعتهما كمنطلق لنا يربطنا بقضايا تراثنا، من أجل إعادة إحيائها ونقلها إلى حاضرنا و التعامل معها على أساس متطلبات العصر وحاجة المستقبل و الاستناد إلى فكر العصر، وهو بهذا الأساس يستنجد بزعماء الفكر المغربي، الأندلسي.
يتبين، من خلال هذه القراءة التي خصها الجابري للعقل البرهاني العربي قراءة بنيوية تكوينية قائمة على الاستقراء الداخلي النصي واستكشاف المرجع الخارجي التاريخي و الإيديولوجي، بيد أن ما يمكن أن نستنتجه من موقف الجابري من المستشرقين، حيت يعتبر رؤيتهم في التعامل مع العقل العربي و التراث رؤية سلبية إما تاريخية أو ذاتية.
وهو بهذا يريد بعث الحياة للعقل العربي الإسلامي انطلاقا من فلاسفة الفكر المغربي، متجاوزا بذلك الفكر المشرقي في طابعه الصوفي الصرف، لذلك أقام الجابري تمييزا نقديا بين الفلسفة المغربية والفلسفة المشرقية.
لقد وضع المفكر المغربي، الجابري فوارق حاسمة حددها بكون الفلسفة في المشرق العربي محكومة بإشكالية التوفيق بين الدين و الفلسفة )إشكالية علم الكلام( أما في المغرب و الأندلس فلم يكن هناك علم الكلام مما جعل فلاسفة المشرق يأخذون” بالميتافيزيقا “لأنهم كانوا يحتاجون إليها في التوفيق بين الدين و الفلسفة في علم الكلام.
- ابن رشد و القطيعة المزعومة:
“إنه شيخ الفلسفة المغربية الأرسطي ابن رشد، فالقطيعة مع أهل المشرق تصل عند الجابري إلى أقصى حد لها فهو يراه مصداقا خالصا للفلسفة الأرسطية البرهانية”[30] حينما يقول “لقد ضلت الفلسفة حية في أشكال أخرى ليس فقط على شكل تصوف باطني ابتداء من ابن عربي وعلى شكل فلسفة إشراقية ابتداء من معاصره السهر وردي، بل أيضا على صورة فلسفة برهانية أرسطية خالصة مع معاصر آخر لهم هو ابن رشد”.
وقد محور في كتابه” نحن و التراث” هذه القطيعة مع ابن سينا بالذات، فشيخ قرطبة و الشيخ الرئيس يعدان عند الجابري رمزين متنافرين ومتضادين، إذ ينتمي الأول منهما إلى الحقل الأرسطي الخالص بينما ينتمي الآخر إلى الدائرة الحرانية. أما القطيعة التي صورها بينهما فهي تمس كلا من الإشكالية و المنهج و المفاهيم، معتبرا أن الأول فكر داخل إشكالية هي غير إشكالية الآخر وبجهاز معرفي يختلف عما لدى نظيره مؤكدا أن الأول قد حقق تقدما على صاحبه في ميدانهما المشترك و داخل الثقافة نفسها التي ينتميان إليها معا”. [31]
- الإشكالية الرشدية و القطيعة المزعومة:
“تعني القطيعة على مستوى الإشكالية لابن رشد أنه قد فصل بين البيان و البرهان أو الدين و الفلسفة فصلا كليا بخلاف ما هو الحال عند ابن سينا وجماعته من فلاسفة المشرق العربي والإسلامي وهذا سبق أن أشرت له سابقا. [32]
- المنهج الرشدي و القطيعة المزعومة:
فما سبق أن أكده الجابري، “يتعلق بتصحيح النظر في الزعم القائل بوجود قطيعة إبستمولوجية في إشكالية الدين و الفلسفة بين ابن رشد، وبين فلاسفة المشرق العربي و الإسلامي، أما فيما يتعلق بالقطيعة المنهجية بينهما فعد الجابري طريقة الاستدلال لدى فلاسفة المشرق غير برهانية لقولهم بقياس الغائب على الشاهد، خلافا لما التزم به ابن رشد من منهج برهاني، وهو يؤكد هذا التمييز حتى من خلال أقوال ابن رشد نفسه”. [33].
إذ كثيرا ما كان يتهم ابن سينا “بأنه يستدل وفقا لذلك القياس متلما يفعل المتكلمون، فهو في نظره ذو مواقف بسيطة بين المشائين و المتكلمين كموقفه من العلم الإلهي مثلا…وما يستنتجه الجابري هنا هو أن فلاسفة المشرق لهم منطقا بثلاثي القيم فهو يتهم ابن سينا بإضافة القيم الثلاثية للموضوعات التي كان يعالجها كإضافة لمقولتي الممكن و الواجب، مقولة وسطية هي الممكن بذاته أو الواجب بغيره”. [34]
عموما ما يمكن قوله، أنه لا يمكن إنكار مسألة أساسية، وهي أن الجابري يظل أحد أهم رموز الإنسانيات العربية خلال الربع الأخير من القرن العشرين، نظرا إلى ما قام بن من حفريات في طبقات النصوص التراثية والتأسيسية للحضارة العربية الإسلامية، وراح يفكك ما تجمع من الركام الميثولوجي الذي اعتبره شاهداً على استقالة العقل.
لكن أهميته تعود إلى التأسيس لقراءة منهجية للتراث العربي الإسلامي وفق مقاربة نقدية، والعمل على ترغيب القارئ العربي لقراءة ما اختاره من نصوص التراث، وخير دليل، هو نقاشات نقاده المتزايدة حول فكره ويبدو أن الجدل حول أطروحاته سيستمر حتى بعد وفاته، الأمر الذي يؤكد على أهمية اشتغاله الفكري، وعلى أثره الفعّال في الفكر العربي المعاصر، بحيث يمكن القول بأن استمرار النقاش حول ما قدمه الجابري خير دليل على تكريمه بعد رحيله، كونه سيبقى حياً وحاضراً بآرائه ومقارباته وأطروحاته، وهذا يبقى هدف هذه الورقة في الأخير.
[1] إنه ذلك النظام البرهاني الذي يعتمد على قوى الإنسان الطبيعية في إدراك الحقيقة إدراك تحليليا عبر ملكتي الحس والعقل حيت يمكن تأسيس التجربة بقصد إدراك حقائق أشمل وهكذا في سياق متدرج وتحليلي ومنطقي يعتمد على الخبرة الإنسانية إذ يتسم بالتماسك و الانسجام ويلبي طموح العقل إلى معرفية عقلية يقينية بالكون من حوله.
[2] مرجع استبق، الجابري، بنية العقل العربي، ص 384
[4] محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي, سلسلة نقد العقل العربي,1 بيروت: دار الطليعة »1984 «ص345
[5] المصدر نفسه ص 347
[6] نفسه ص 309
[7] مرجع استبق، الجابري، تكوين العقل العربي ص 520
[8] محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، ضمن سلسلة نقد العقل العربي (1)، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، ص 309
[9] المصدر نفسه ص 315/316
[10] هذا يحيلنا إلى مسألة ظهور الفلسفة في المغرب والأندلس مع مشروع قراءة لفلسفة ابن باجة التي أكدت أن الفلسفة العربية بدأت فعلا بداية جديدة في المغرب و الأندلس ومع ابن باجة بالذات، بداية تأسست معه هذه المرة إلى مستوى القطيعة الأبستمولوجية انطلاقا من أن الفلسفة العربية في المشرق كانت لاهوتية الإبيستمي و الاتجاه بسبب استغراقها في إشكالية التوفيق بين الدين و الفلسفة و أن الفلسفة العربية في المغرب و الأندلس كانت ومع ابن باجة خاصة علمية الأبيستيمي علمانية الاتجاه بفعل تحررها من تلك الإشكالية.
[11] اكتسى الدفاع عن الفلسفة في المغرب و الأندلس لا سبيل الدمج بينهما كما حدت في المشرق بل سبيل الفصل بينهما واضفاء المشروعية على كل منهما وذلك بالتماس المشروعية للفلسفة من الدين والتماس المشروعية الدين من الفلسفة تم البرهنة الأخيرة على أنهما يتكاملان. إن الأمر يتعلق إدن بمقال منهجي عقلاني جديد يفرض نفسه منذ البداية لابن رشد.
[12] محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، ضمن سلسلة نقد العقل العربي (1)، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، الفصل الثاني عشر الفقرة 5 ص 316/317
[13] مقال الباحث عبد النبي الحري، مدى الحاجة إلى استرجاع ابن رشد في الإصلاح الديني المعاصر ص 1
[14] محمد عابد الجابري نحن و التراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي بيروت دار الطليعة 1980وستتم الإحالة في هذا البحت إلى الطبعة الخامسة الصادرة عن المركز الثقافي العربي في بيروت عام 1986.
[15] المصدر نفسه
[16] المصدر نفسه ص 49
[17] لقد ميز الجابري في هذه الصيرورة لحظتين أولا لحظة حلم الفارابي كما عاشه ابن سينا وتانيا لحظة حلم باجة كما طوره ابن رشد وبالتالي ما تبقى من التراث سوى اللحظة الثانية التي ألغت الأولى. يؤكد الجابري أن ما تبقى من تراثنا الفلسفي وما يمكن أن يكون قادرا أن يعيش معنا في عصرنا لا يمكن أن يكون إلا رشديا.
[18] ومعنى ذلك, فإن يكن ابن رشد قد حقق قطيعة إبستمولوجية مع ابن سينا معناه أنه فكر داخل إشكالية غير إشكاليته وبجهاز معرفي غير جهازه و أيضا حقق تقدما عليه في ميدانهما المشترك وداخل نفس الثقافة التي ينتميان إليها معا.
[19] ن محمد عابد الجابري، نحن و التراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي المركز الثقافي العربي الطبعة السادسة 1993 ص 221
20] حيت يتساءل الجابري في ص 53 من نفس الكتاب السابق: كيف يمكن للفكر العربي المعاصر أن يستعيد ويستوعب الجوانب العقلانية و الليبرالية في تراثه و يوظفها توظيفا جديدا في نفس الاتجاه الذي وظفت فيه أول مرة اتجاه محاربة الإقطاعية و الغنوصية وتشييد مدينة العقل و العدل مدينة العرب المحررة الديمقراطية و الاشتراكية.
[21] مرجع استبق، الجابري نحن والتراث، ص 88
[22] إن اهتمام الجابري بالرشدية مبرر مادامت هذه الروح الرشدية يقبلها الواقع العربي الإسلامي لأنها تلتقي مع روحه حسب تعبير الجابري في العقلانية و الواقعية والتعامل النقدي.
[23] مرجع استبق، الجابري، نحن والتراث، ص 222
[24] حيت يعتقد الجابري أن تأويلات علماء الكلام للعقائد الدينية لم تكن في نظر ابن رشد من أجل حفظ عقيدة المسلمين بل من أجل أغراض سياسية تسترت بالعقيدة الإسلامية الأمر الذي أدى إلى ظهور صراعات سياسية فكرية و إيديولوجية.
[25] محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، ضمن سلسلة نقد العقل العربي (1)، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، الفصل الثاني عشر الفقرة 5 ص ص 319/320/ 321/322
[26] بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية )ط11) بناية “بيت النهضة” شارع البصرة ص. ب: 6001\113 الحمراء\بيروت \لبنان القسم الرابع، الفصل الثاني ص 537
[27] المصدر نفسه، القسم الرابع، الفصل الثاني، ص 539/540
[28] مرجع استبق، الجابري، بنية العقل العربي، ص 549/550
[29] مرجع استبق، بنية العقل العربي، ص 552
[30] مرجع استبق، الجابري، بنية العقل العربي، ص 487
[31] مرجع استبق، الجابري نحن و التراث، ص 212
[32] ص 316 ص و322و348 1 بيروت: دار الطليعة » محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي, سلسلة نقد العقل العربي
[33] مرجع استبق، الجابري، تكوين العقل العربي، ص 319
[34]. ورد في “نحن و التراث ” {قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي بيروت دار الطليعة الطبعة السادسة الصادرة عن المركز الثقافي العربي في بيروت عام 1993} ص 85 نص غير دقيق لعلاقات هذه المسألة فهو يقول “فإذا كان التقليد الأرسطي يميز بين الواجب و الممكن ,فإن ابن سينا أضاف قيمة ثالته هي الواجب بغيره وكذا أصبحت الموجودات ثلاثة أصناف: واجب بذاته ,وواجب بغيره وممكن بذاته نقف هنا و الخطأ هو أن التقليد الأرسطي يقول بهذه الأصناف ذات المنطق الثلاثي متلما هو الحال عند المشارقة.
فهو ليس منطقا ثنائيا كما يريد النص أن يلوح إليه فابن رشد صريح في اعتباره أن مبدأ الوجود الأول هو واجب أو ضروري بذاته وأن الحدوث و الحركة في عالمنا هي ممكنة للوجود وأن عالم ما فوق القمر هو الواجب بغيره من دون إمكان إلا ما يتعلق بحركة الأجرام “تهافت التهافت” ص 395و 418و422و423مما يعني أن ابن سينا و المشارقة جميعا لم تكن لهم خصوصية في القول بقيمة الواجب بغيره فهي قيمة يتقبلها التقليد الأرسطي. إنما الشيء الذي أضافه ابن سينا وقبله الفارابي ذلك المتعلق بقيمة الممكن بذاته أو الواجب بغيره وهو الذي لم يقبله التقليد الأرسطي متمثلا بابن رشد على ما هو مفهوم من حيت الظاهر لهذه العبارة لهذا فإن فيلسوف قرطبة اعتبر هذه العبارة أي ردية محاولا توجيهها إلى معنى مقبول صحيح.
وإضافة لموضوع القدم و الحدوث للعالم مقولة الحادث بالذات القديم بالزمان وكذا الحال بالنسبة للعلم الإلهي حيت أضاف إلى العلم بالكليات مقولة العلم بالجزئيات على نحو كلي, هذا على الرغم من أن الفارابي قد سبق الشيخ الرئيس بالقول بجميع أو أغلب تلك القضايا المنسوبة إليه.
والمهم في الأمر إنه يعمم هذا المنطق ويمايزه فيعتبر الفارق بين فكر اليونان و الفكر العربي في المشرق سواء لذى الفلاسفة أو المتكلمين , وهو أن فكر اليونان متمثلا بآراء أرسطو يمتلك منطقا تنائي القيمة بخلاف الفكر في المشرق ذي المنطق الثلاثي القيمة مشيرا بذلك إلى أن هناك قيمة ثالثة وسطا بين قيمتين حديثتين واستشهد على ذلك بجملة من الشواهد الخاصة بآراء المتكلمين.
المصدر السابق ص 85و84 وحقيقة الأمر لاحظت أن الجابري لا تهمه الفكرة العلمية بقدر ما تهمه الإيديولوجيا إذ أجده يعظم كل إنتاج ونهج يمارسه الفكر الأرسطي و المغربي ويذم ويحتقر في المقابل كل إنتاج ونهج يتعلق بالفكر المشرقي و العرفاني ولم يعي أن هناك الكثير من الاتفاقات بين الفريقين إن لم أقل أنه وقع في التناقض و التهافت.