ابن باجة الأندلسي.. فيلسوف السعادة الذي قتل مسموما!
سرقسطة مسقط الرأس
ولد أبو بكر محمد بن يحيى الصائغ المشهور بابن باجة في مدينة سرقسطة شمال شرقي الأندلس ولا نعرف على وجه الدقة السنة التي وُلد فيها، لكن المرجح أنه وُلد في الربع الأخير من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي.
ولد ابن باجة لأسرة تعود أصولها إلى الإسبان اللاتين الذين اعتنقوا الإسلام، في تلك المدينة التي كانت تواجه خطر الهجوم الصليبي المتكرر من جهة مملكة أرغون القريبة في أواخر عصر بني هود.
وفي هذه المدينة درس ابن باجة علوم الإسلام النقلية والعقلية وعلوم العربية على كبار شيوخها.
وكان ابن باجة يُلم إلماما حسنا باثني عشر علما مثل الرياضيات والفلك والطب وعلوم العربية وغيرها، على أن أكثر ما استهواه دراسة الفلسفة.
واستطاع ابن باجة حين دخل المرابطون سرقسطة واستولوا عليها، أن يحظى بتقديرهم، واتخذه عاملهم أبو بكر بن إبراهيم اللمتوني، كاتبا ووزيرا له، وكان ابن باجة حينذاك متعمقا في الفلسفة وعلوم الطب والفلك.
ولما سقطت سرقسطة في يد الأرغونيين هجرها إلى إشبيلية ومنها إلى بلنسية ثم إلى شاطبة، ممتهنا الطب الذي كان حاذقا فيه بجانب علومه الفلسفية.
المغرب الوجهة
من هناك قرر أن يتجه إلى المغرب حيث تقرّب من الحضرة المرابطية، وهو في ظل هذه السنوات الطويلة من التنقل والترحال، حرص على تدوين فلسفته في عدد من المؤلفات المهمة على رأسها كتابه الأشهر “تدبير المتوحِّد”.
أما عن فلسفة ابن باجة الخاصة، فإنه استطاع وضع تصور من عدّة مستويات حول مكانة الإنسان ودرجاته، فأدناها عنده، الإنسان البهيميّ الذي يقوده هواه وتُسيطر عليه انفعالاته وجوارحه، ثم يأتي في درجة أعلى، الإنسانُ الذي يفكر تفكيرا نظريا، وعلى أن أعلاهم شأنا، ذلك الذي يتحقق لديه العقل في أكمل صورة، فيدرك الأشياء عن طريق الحدس أي من أعماقه وداخله، بعد معاناة وتدرج وتدريب.
ولم يغفل ابن باجة ما للعلم من قيمة وفلسفة ولذّتين متحصّلتين، أولهما لذة اليقين عندما يصلُ المرء إلى إدراك المعاني الصائبة أو الحقائق.
وهذه اللذة العقلية تشبه اللذة الحسّية على نحو ما، فكما أن اللذة الحسية كمال للجسم، كذلك اللذة العقلية كمال للنفس، لكن اللذة الحسّية قد تعودُ على الجسم بالضرر، في حين أن اللذة العقلية لا يُمكن أن تورث ضررًا كما يقول.
أما اللذة أو الثمرة الثانية للعلم فهي تلك التي يشعر بها كل من أدرك شيئا جديدا، وهذه لا اسم لها، وتلك صفة ملازمة دائما للعالم، والباحثُ لا يبحثُ عن المعرفة من أجل هذه اللّذة، بل هي تحدثُ عَرضا.
يقول ابن باجة: “فمَن طلب العلمَ للذة كمن يطلبُ من الأكل والشرب الالتذاذ بما لا يصح به جسمه”، ولذلك فإن العلم الحقيقي عند ابن باجة هو الذي يُحقّق السعادة الكبرى في السكينة والفرح والبهجة التي يشعر بها الإنسان الكامل حين يُدرك جوهره الحقيقي، كما يقول الشيخ كامل عويضة في كتابه “ابن باجة الأندلسي الفيلسوف الخلاق”.
إن غاية الإنسان في تصور ابن باجة هي قدرته على الانتقال والتغير من حال إلى آخر، وأصناف الغايات عنده كثيرة، منها العبادة التي يبغي بها رضا الله تعالى، ومنها الجاه وما يلحق به من التزين والتلذذ، ومنها النظر العقلي الذي ينتهي بالاتصال بالعقل الفعّال.
والغاية التي يجب أن يسعى إليها الإنسان هي البُعد عن المادة والاقتراب من الكمال الإلهي الذي لا يُدرك إلا بمعونة إلهية، لذا بعث الله الأنبياء والرسل تتميما للعلم الناقص عند الإنسان.
تأثيره في الفلاسفة
وقد تأثر كثير من الفلاسفة العرب والأوروبيين بفكر ابن باجة، ومن بينهم ابن طفيل، وابن رشد الذي أُعجب بابن باجة للغاية، وموسى بن ميمون الفيلسوف اليهودي الذي اتفق معه في مسألة الفضائل الأخلاقية.
كما وُجد أثر ابن باجة في فلاسفة الغرب ولا سيما الألماني إكهارت (1260- 1328م) الذي انتهج التصوف العقلاني، والهولندي باروخ سبينوزا (1632- 1677م) الذي نجد في كتابه “علم الأخلاق” نقاط التقاء كثيرة مع ابن باجة.
وبخلاف أعماله الفلسفية عُرف عن ابن باجة كذلك اهتمامه بعلوم السياسة والفلك والموسيقى والموشحات والرياضيات والطب والعلوم الطبيعية، واشتهر بتأسيس الفلسفة على أسس علمية رياضية وطبيعية.
وبعد حياة حافلة بالتأليف والدرس، وبعد لمعان نجمه وسط البلاط المرابطي في المغرب، واجهته الدسائس والمؤامرات والمكائد وتأليب الجماهير عليه، واتهامه بالإلحاد والزندقة.
وقد تولى زعامة معارضته الطبيب الشهير ابن زهر والمؤرخ والكاتب الفتح بن خاقان فضلا عن طائفة من فقهاء المالكية، وفي نهاية المطاف مات ابن باجة على الأرجح مسموما سنة 533هـ/1138م، بعدما خلّف وراءه 27 كتابا لا تزال معتمدة في دراسة العلوم الفلسفية حتى عصرنا الحاضر.