تاريخفكر وفلسفة

“تاريخ بين الأيديولوجيا والميثالوجيا”.. موضعة التوراة بين الأيديولوجيا والخرافات

قرون طويلة مرّت على تأليف كتاب التوراة اليهوديّة غير المقدّس، ولا يزال هذا الكتاب مثار جدل وأسئلة وإشكاليّات، على غير صعيد ومستوى، سواء على مستوى بنية النصّ التوراتيّ المختلّة، أو على صعيد مضامينه التي تلتقي فيها الوقائع (الشحيحة) بالفنتازيا والأسطورة والخرافة، لتشكّل خليطًا أشبه بـ”طحين الشحّاذين”، كما يقال في المثل، بلا ضوابط أو روابط في أحيان كثيرة.


فمن كتبوا التوراة من الكهنة اليهود، وأبرزهم عزرا، جمعوا مادّة هذا الكتاب من مصادر شتّى، ووجّهوا تأليفهم هذا بما يخدم مصالح وأيديولوجيا وأسطورة يريدون صنعها، أسطورة شعب الله المختار، والأرض الموعودة، حتّى أنّهم لم يتورّعوا عن جعل الربّ (التوراتي) ينطق بلسانهم وبما يريدون، وقد صنعوا أسطورتهم حقًّا.


وبينما شكّل الكتاب، لزمن طويل، مادّة كان يجري التعامُل معها بوصفها من أسس التاريخ، وصالحة للتأريخ بها، بات من الممكن منذ سنوات وعقود نفي هذه الرؤية، حيث تبيّن “تهافت” نظرية التأريخ بالتّوراة، وليس هذا من صنيع الباحثين العرب وحسب، بل سبقهم إليه باحثون غربيّون، ربّما على رأسهم مؤرّخو وباحثو مدرسة كوبنهاجن،


وتبعهم في ذلك مؤرّخون وآثاريّون وأركيولوجيّون يهود، إسرائيليّون أيضًا، وعلى رأس هؤلاء يسرائيل فنكلشتاين ونيل سيلبرمان (مؤلّفَا كتاب “التوراة اليهوديّة مكشوفة على حقيقتها”)، وسواهما. فهل كانت التوراة في جذور الصهيونية العنصرية المعاصرة؟

  • في تزوير التاريخ

الباحثة والناقدة بديعة أمين، صاحبة الكتاب الشهير “هل ينبغي إحراق كافكا” وغيره الكثير في مجال التاريخ والميثالوجيا، تتصدّى في كتابها الجديد “تاريخ بين الأيديولوجيا والميثالوجيا” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2022) لمهمّة كشف عورات التوراة ومثالبها،


ومن خلال ذلك تعرض الباحثة تاريخ “الشعب” اليهودي منذ “أبيرو” و”خابيرو” (Apiro)، والعبرانيّين، ثم بني إسرائيل، وحتّى القرن العاشر قبل الميلاد، حيث أنّ “تعبير إسرائيل وإسرائيلي لم يكن يحمل أيّ معنى”، بحسب الأركيولوجي الأميركي وليام ديفر.


يكتسب كتاب بديعة أمين أهميته من عناصر عدة، تبدأ بكون موضوعه مثار جدل واسع في إسرائيل الرّاهنة، كما في دوائر البحث العلميّ الغربية، فضلًا عن تناولها من قبل باحثين عرب وفلسطينيين.


يضاف إلى ذلك تعدّد مصادر الكتاب وتنوّعها، ما بين العربي الإسلاميّ، والغربي المعاصر، وحتى المصادر الإسرائيلية من باحثين ومراكز بحث. هذا فضلًا عن قدرة عالية في دراسة المعلومة وتحليلها وتفكيكها من جوانبها كافّة، ما يمنح الكتاب هذا العمق والجذب للقراءة.


ومع كتاب بديعة أمين هذا، أستطيع ربّما استعادة جهد الباحث في التاريخ الفلسطيني القديم وفي التوراة والإسرائيليّات، البروفيسور الفلسطيني عصام سخنيني (رحل منذ عامين تقريبًا) في كتابه “تهافت التأريخ التوراتيّ: مقدمة لكتابة تاريخ مختلف لفلسطين القديمة”. فهو يشتغل في المنطقة نفسها، والمنطق نفسه، تقريبًا.


فبعد قرون من التخبّط والضّياع في متاهات التوراة، يأتي العلم الحديث، الآثار والأركيولوجيا، لينفي عن التوراة أي صفة تاريخية، وأيّ إمكانية لاعتماد رواياتها وحكاياتها على أنّها تاريخ.


وممّا تنقله الباحثة بديعة أمين عن عالِم الآثار يسرائيل فنكلشتاين (الإسرائيلي الجنسية والإقامة)، في كتاب “التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها”، بالاشتراك مع اليهودي الأميركي سيلبرمان، قوله: “إذا لم يكن هناك آباء ولا خروج ولا غزو لكنعان ولا حكمَ ملكيًّا ناجحًا تحت قيادة داود وسليمان،


فهل يمكننا أن نثبت عندئذٍ أن إسرائيل التوراتيّة المبكرة، كما جاء وصفها في أسفار موسى الخمسة، وأسفار يشوع والقضاة وصموئيل، كان لها وجود من الأصل؟”.

ويذكر المؤلّفان الخبيران بعلم الآثار والتنقيبات أن هذه الأخيرة لم تثبت وجود دليل واحد على الخروج ولا على المعارك (الدونكيشوتية) التي تدعي التوراة أن العبرانيين وبني إسرائيل خاضوها ضد الكنعانيين، وأن دخولهم إلى أرض كنعان كان يتم بالتسلل والتجسس والتزاوج والاندماج وقليل من الغزو.


وفي ما يخص “الخابيرو”، يرى عبد الوهاب المسيري أنهم ظهروا ضمن القبائل العربية التي هاجرت من شبه الجزيرة العربية، أما العبرانيون فجاءوا إلى أرض كنعان عبر هجرات ثلاث، الأولى من بلاد الرافدين في القرن 18 ق. م، والثانية في القرن 14 ق. م، أي منذ هجرة إبراهيم حتى هجرة يوسف إلى مصر،


وكانت الثالثة بقيادة موسى ويشوع بن نون في النصف الثاني من القرن 13 ق. م، وبعد موت موسى حدثت عملية تسلل العبرانيين (نحو 1250 ق. م)، إلى أرض كنعان التي كانت تغص بالقبائل الكنعانية السامية، واستقرّوا في بعض الجيوب غير المتصلة.


والأرجح أن العبرانيين وهم جماعة بدائية تفتقر إلى أدنى المقوّمات الحضارية قد أخذوا لغة الكنعانيين وديانتهم “فعَبَد بنو إسرائيل عَجلون ملكَ مؤاب ثماني عشرة سنة” (سفر القضاة 3: 14).

 


  • الواقعيّة التوراتيّة

ثمّة، في هذا الكتاب الذي نحن في صدده، الكثير مما يستحقّ التوقّف أمامه، وما هو جديد ربّما على قرّاء العربية حول التوراة وخرافاتها، ولكننا سنقف على محطّات بارزة منه.

ومن ذلك سخرية الباحثة ممّا تسمّيه “الواقعية التوراتية”، إنها واقعية خرافيّة في وصف “خرافة الخروج من مصر، مثلًا، من حيث أعداد الخارجين (ستمائة ألف، مع مواشيهم من غنم وبقر وغيرها)، في الوقت الذي يوصف الخروج بأنه في زمن انهيار الاقتصاد المصري.


فكيف حملوا كل ما حملوا؟ ثم كيف اختفَوا عند الحدود، ولم تسجّل خروجهم الوثائق المصرية؟”، وكذلك المبالغة في وصف معارك العبرانيين ضد الكنعانيين، والمبالغة حدّ الجنون، حيث ترى بديعة أمين هنا أنّه “لم يكن هناك غزو ولا أبواقٌ تنهار على صوتها الأسوار، فتتساقط مدنٌ كنعانية مدينةً بعد مدينة.. إلخ”، بل إنّ واحدًا من أبطال داود “هزّ رمحه على ثمانمائة قتلهم دفعة واحدة”!


وبالنسبة إلى ظهور اليهودية، أصلًا، ترى الباحثة أن وراء ذلك يقف أمر رغبة الكهنة، كتّاب التوراة، في تشكيل ما يسمّى “بني إسرائيل”، لذلك فكر كتَبةُ التوراة هؤلاء إلى أن وجدوا في الميثالوجيا وصنع الأساطير ما يحلّ لهم مشكلة صناعة شعب من العبرانيين،

فكانت قصة صراع الربّ التوراتي مع يعقوب، وانتصار هذا الأخير على الربّ، ومنح يعقوب اسمَ إسرائيل ليكون ثمة “بنو إسرائيل”، فقبل هذا الصراع (المزعوم) لم يرد اسم إسرائيل في أيّ وثيقة أبدًا، ولم يكن له وجود.

 وإلى ذلك، ثمّة أمران أساسيّان وراء ظهور اليهود و”بني إسرائيل”، أوّلهما الموقف الأيديولوجي السياسي، وثانيهما الحلم الإمبراطوري بدولة تمتد من النيل إلى الفرات، وهذا يتطلب خلق الأسطورة واستخدامها في تحقيق هذا الحلم، وهو ما تطلب استخدام القوة العسكرية لاحقًا، حتى إنه، ولتحقيق هذه الغاية، تم تحويل الرب (يهوه) من إله خصب لدى الكنعانيين، إلى قائد عسكري يقود حروب إسرائيل.


ولكن ذلك كان في غياب “الشعب” المتماسك اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا ونفسيًّا، فلم يتحقّق الحلم تمامًا. بل إنّ كتَبَة التوراة استعانوا بالملك كورش، والإمبراطور الفارسي ارتحشستا، لتسويغ العودة من السبي البابلي وتأليف التوراة (كتاب الربّ)، وبناء “بيت الربّ” في أورشليم، والقضاء على سكّان “أرض كنعان” التي “عبْر النهر”، أي نهر الأردنّ.


هذا في حين أن التاريخ يسجّل عبور شعب كنعان إلى مصر في أزمنة متفاوتة، كما يكشف علم الآثار عن قدوم جاليات كبيرة من الساميّين في العصر البرونزي من جنوب كنعان (غزّة غالبًا) لتستقر في الدلتا الشرقية للنيل.. إلخ.


هذا على مستوى التوراة والتاريخ، ولن نتحدث عن انتحال التوراة للكثير من أساطير بابل وآشور وأكّد والمصريين والكنعانيين، بل إن الإسرائيليّين الأوائل أنفسهم، بحسب فنكلشتاين، العالِم اليهوديّ المذكور سابقًا، “كانوا أصلًا كنعانيين”.


ولكن سننتقل إلى ما يخصّ الراهن، وإسرائيل الدولة الصهيونية العنصرية، وما يهمّنا منه هنا أن اليهود المقيمين في هذه الدولة قادمون من دول شتّى، عربية وغربية وشرقية، وهؤلاء لا تزال انتماءاتهم مشتّتة، بحسب الدول التي جاءوا منها،

ولعلّ من أغرب ما تورده الباحثة رأيًا حول يهود اليمن مثلًا، الذين أقاموا في اليمن آلاف السنين، وحين هاجروا إلى “إسرائيل” ظلّوا يمنيّين، وكذلك يهود العراق وأوروبّا، خصوصًا الشرقيّة، لجهة ارتباطهم بعادات وتقاليد وطقوس وذائقة تلك البلدان.


ونختم بالسؤال الذي ختمت به بديعة أمين كتابها: “كيف حدث أن منحَ إله ميثالوجيّ لا وجودَ له، أرضَ كنعان، لقَوم ما كان لهم حينها وجود”؟


ضفة ثالثة

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى