أين النقص في دراسة الجابري عن النظم المعرفية الثقافية؟
اعتبر محمد عابد الجابري في دراسته عن النظم المعرفية في كتابيه عن العقل العربي وهما: “تكوين العقل العربي” و”بنية العقل العربي”، أن هناك ثلاثة نظم هي: “البيان، والعرفان، والبرهان” في الثقافة العربية.
وبين أن هذه النظم كانت تصطرع فيما بينها، واعتبر أن “البيان” هو الممثل للحضارة الإسلامية، والذي أبرزته البيئة العربية الإسلامية، وقد كانت مرجعيته “اللغة العربية“، أما العرفان فقد كانت مرجعيته “العرفان الهرمسي“، وأما البرهان فمرجعيته “فلسفة أرسطو ومنطقه”.
ونحن حتى نستطيع أن نجد بعض مواطن الخطأ في حديث الجابري عن النظم الثقافية العربية، سنستعرض ما نقله الجابري عن لالاند فيما يتعلق “بالعقل المكوِّن والعقل والمكوَّن”.
فقد اعتبر لالاند أن “العقل المكوِّن” أو الفاعل هو “النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة ليصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ”، وبعبارة أخرى إنه “الملكة التي يستطيع بها أن يستخرج من إدراك العلاقات بين الاشياء مبادئ كلية ضرورية، وهي واحدة عند جميع الناس”.
كما اعتبر لالاند أن العقل المكوَّن هو: “مجموع المبادئ والقواعد التي نستخدمها في استدلالاتنا”. ويقول لالاند أيضا: “إن العقل المكوَّن والمتغير ولو في حدود، هو العقل كما يوجد في حقبة زمنية معينة. فإذا تحدثنا عنه بالمفرد،
فإنه يجب أن نفهم منه العقل كما هو في حضارتنا وزمننا” وبعبارة أخرى: “هو منظومة القواعد المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما، والتي تعطى لها خلال تلك الفترة قيمة مطلقة”.
وعندما طبّق الجابري كلام لالاند على الوضعية العربية، اعتبر أن “اللغة العربية” هي “المكوَّن العقلي”، بل جعلها “المكوّن الأهم” في مفردات العقل العربي، ليس هذا فحسب بل جعلها “السلطة المرجعية الأولى” والأساسية التي تحكم التفكير البياني العربي،
وأضاف “نحن عندما نقول اللغة لا نقصد اللغة كمجرد أداة للتواصل بل اللغة العربية كحامل للثقافة، واللغة العربية بهذا المعنى هي التي جعلت من الأعرابي صانع العالم العربي”.
أفرز “نظام القرآن المعرفي” عقلاً جديداً مخالفاً لما جاء به “العقل البياني” يقوم على مبدأ “السببية” ومبدأ “الاتصال”، وهما نقيض النظام البياني الذي يقوم كما ذكرنا على مبدأي: “التجويز” و”الانفصال”. |
لقد أخطأ الجابري في ذلك، فليست “اللغة العربية” هي “السلطة المرجعية” للعقل العربي، بل “القرآن الكريم” هو السلطة المرجعية للعقل العربي، وهو “العقل المكوَّن” حسب تعبير لالاند. فهو قد أعطى العرب المعاصرين له نظرة جديدة إلى كل شيء، فقد أعطاهم نظرة جديدة إلى نشأة الكون والحياة والإنسان.
كما أعطى الوجود الإنساني هدفا محددا وهو العبودية لله، كما بنى عقل المسلم بناء خاصا يقوم على معرفة ربه، وأن هذا الرب مباين للكون، منفصل عنه، لا يشابه أحدا من مخلوقاته، يمكن أن تدعوه فيسمعك، وهو يراك ويعلم بحالك ويستجيب دعاءك.
كما بين القرآن الكريم خطأ كثير من العقائد الجاهلية مثل عبادتهم الأصنام، وتسمية الملائكة بنات الله، وأخذ عليهم اتباع الظن والأهواء في كل ما يبنون عليه عقائدهم. كما دعاهم القرآن الكريم إلى إعمال الفكر والنظر والتأمل في آيات الكون المحيطة بهم من ليل ونهار وشمس وقمر ونهر وبحر، وكيف أنها مسخرة لهم،
وهي من نعم الله عليهم، ونعم الله لا يحصيها عد. كما رافقهم القرآن الكريم في كل أعمالهم من هجرة، وغزوات من بدر إلى أحد والأحزاب والعسرة والفتح إلخ…..، وبيّن أخطاءهم وقصورهم وعجزهم أحياناً، وأشار إلى إحسانهم أحياناً أخرى.
أعتقد أن هذه الحقائق التي طرحها القرآن الكريم، والتي وعاها المسلمون هي التي ملأت عقولهم وقلوبهم، جاءت في مقام “العقل المكوَّن”، وتجعلنا نقول إنها مثلت نظاما معرفيا جديدا يمكن أن نسميه “نظام القرآن المعرفي” وهو يختلف عن “نظام البيان المعرفي”.
وقد اعتبر الجابري أن أبرز مبدأين اتصف بهما العقل البياني هما: “مبدأ الانفصال، ومبدأ التجويز”، وجاءا نتيجة اعتبار اللغة العربية هي “المرجعية الأولى”، والتي عكست بيئة العرب الجغرافية والاجتماعية والفكرية، وإذا دقّقنا في هذه البيئة وجدنا الانفصال يحكم جميع معطياتها: فالطبيعة رملية، وكل الأجسام في الصحراء وحدات مستقلة، والعلاقات التي تربطها هي المجاورة لا التداخل.
وقد أفرز “نظام القرآن المعرفي” عقلاً جديداً مخالفاً لما جاء به “العقل البياني” يقوم على مبدأ “السببية” ومبدأ “الاتصال”، وهما نقيض النظام البياني الذي يقوم كما ذكرنا على مبدأي: “التجويز” و”الانفصال”، ويمكن أن ندلل على ذلك بالوقائع التالية على سبيل المثال لا الحصر:
1- نقلت الرواية أن عمر بن الخطاب عندما زار بيت المقدس، أراد أن يذهب إلى عمواس، فقيل له إن فيها طاعوناً، فعدل عن السفر، فقال له أصحابه: أتفر من قدر الله؟ فقال: “بل نفر من قدر الله إلى قدر الله”، وهذا يدل على إيمانه بالسببية،
فهو عندما احتج عليه بعض الصحابة بتهربه من قدر الله، بيّن لهم أنه أخذ بالأسباب لأن ذلك من قدر الله، وهذا الإيمان بالسببية نتيجة من نتائج “نظام القرآن المعرفي”، وهو مختلف عن “العقل البياني” المستند إلى “التجويز” في العلاقات بين السبب والنتيجة.
2- أما ما يتعلق بالمفاصلة فإن العلاقة في “المجتمع الجاهلي” كانت علاقة “مجاورة” لأن القبيلة كانت هي الأصل، أما في المجتمع الإسلامي فقد أصبحت العلاقة بين أفراد المجتمع الإسلامي هي علاقة “أخوة”، وتولدت “أمة” بين مختلف الأعراق والأجناس من ترك وعرب وفرس وهنود وشركس إلخ…..،
وكانت العلاقات بين هذه الأجناس علاقات التحام وامتزاج كل هذه الأعراق والأجناس والقبائل في الأمة الواحدة، وساهمت في بناء الحضارة الإسلامية في كل جوانبها العلمية والعسكرية والثقافية والفنية والتربوية إلخ..
3- لقد قام الصحابة ومن بعدهم التابعون بجهود علمية جبارة للمحافظة على القرآن والسنة من جهة، وبناء الدولة والحضارة من جهة ثانية، بدءا من جمع القرآن وتشكيله وتنقيطه، والمحافظة على السنة، وابتكار علوم الجرح والتعديل والرواية والدراية، وتصنيف الأحاديث من صحيح وضعيف وحسن.
وجمع الحديث في مصنفات، وجمع اللغة في معاجم، وابتكار علوم النحو والصرف والبلاغة والبديع والبيان، ثم ابتكار العلوم الدنيوية من جبر وفلك ورياضيات من أجل تحديد المواريث، وتقسيم الخراج في أرض سواد العراق، وتحديد القبلة إلخ..
إن هذه الابتكارات العلمية في مختلف المجالات تدل على أن عقلاً علمياً جديداً مؤمناً “بالسببية” ومؤمناً بارتباط “الأسباب” ب “النتائج”، وليس “بالتجويز” كان وراء كل هذه الابتكارات. والسؤال الآن أين النقص والقصور فيما كتب الجابري عن نظم المعرفة الثقافية؟
لقد جاء النقص عند الجابري من أنه لم يعتبر أن القرآن الكريم قام بإنشاء نظام معرفي جديد في النظام الثقافي، ويمكن اعتبار أن “النظام البياني” الذي تحدث عنه الجابري يمثّل المعتزلة، لأن المعتزلة اعتبروا أن “اللغة العربية” هي مرجعيتهم العليا في فهم القرآن الكريم،
واعتبروا أن “الدلالة اللغوية” هي بالضبط “الدلالة الشرعية” التي يريدها الدين، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ“. (سورة إبراهيم،4).
وفي هذا خالفهم أهل السنة والجماعة، واعتبروا أن هناك لكل لفظ ثلاث دلالات: دلالة لغوية، وأخرى شرعية، وثالثة عرفية. لذلك اختلفوا في مفهوم الإيمان. فاعتبر المعتزلة أن الإيمان “يعني التصديق” لأن الله تعالى قال: “وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا“(سورة يوسف،17)،
فالإيمان هو التصديق عند المعتزلة ويجب أن يتطابق “المعنى اللغوي” مع “المعنى الشرعي”، في حين أن أهل السنة والجماعة اعتبروا أن الدلالة الشرعية للإيمان لا تتحدد بالمعنى اللغوي فقط، لذلك أدخلوا العمل في مسمى الإيمان، في حين أن المعتزلة لم يدخلوه، وقوفاً عند الدلالة اللغوية فقط.
الخلاصة: لقد أشار الجابري في كتابيه عن العقل العربي أن هناك ثلاثة نظم معرفية في الثقافة العربية هي: “البيان، العرفان، البرهان”، والحقيقة أنه كان يجب أن يقول إن هناك أربعة نظم معرفية في الثقافة العربية هي: “البيان، العرفان، البرهان، القرآن”، وأن “نظام القرآن” المعرفي كان يملك أكبر جمهور في الأمة الإسلامية، وله أكبر الأثر في بناء الحضارة الإسلامية.