فكر وفلسفةلسانيات النص - تحليل الخطابنقد

طيفُ الجابري في مرايا النقد اللغوي

لم يعد مدعاة للاستغراب أن يقدم الباحثون على العناية بمتون الفلاسفة العرب المعاصرين؛ إذ الحديث عن فلسفة عربية، عن متن يمكن الارتفاع به إلى مستوى الموضوع الفلسفي، بات اليوم في جملة الأمور المسلم بها بعد كل ما بذله الفلاسفة العرب من جهدٍ نظريٍ جبهوا به إشكاليات راهنهم، وسعوا، من خلاله، إلى تقديم فهم معقول لوضعهم التاريخي، صادرين في ذلك عن وعيهم بوضعية التأخر التاريخي التي باتت، عندهم، مقدمةً حاكمة لكل تفكير فلسفي ممكن. لم يكن محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمان بمنأى عن هذا المنحى العام الذي اتخذه الفكر الفلسفي العربي، فكتاباتهما تنضح بمعالم وعي قلق تجاه واقع التأخر، وبرغبة في الحسم في الأسئلة التي يحاصر بها الواقع ذاك الفكر العربي منذ ما يزيد عن القرنين من الزمن. لذلك يمكن للمرء أن يتفهم هذه العناية المتزايدة بالرجلين من طرف الباحثين. فإلى كونهما يصدران عن الهم الفكري عينه، ويتشاركان الأسئلة الحضارية المقلقة نفسها، فإن كل واحد منهما شق لنفسه دربا في فهم شرطه التاريخي وتبين معالم الخروج منه، وهو ما يفسر، بالتبعة، الاختلاف القائم بينهما على مستوى الموقف من الحداثة والتراث. يمكن أن نقر، إذن، بأن مناولة هذين المفكرين من شأنها أن تمثل مدخلا لفهم السجال المستعر في أوساط الفكر الفلسفي العربي حول الحداثة والتراث والنهضة، بل ولتمثل الصعوبات التي ما تزال تكبل الوعي الفلسفي العربي وهو في مضمار تنقيبه عن أجوبة عن تلك الأسئلة. في هذا السياق، تحديدا، يرد كتاب  محمد همام جدل الفلسفة العربية*؛ فهو مساهمة في تحليل بعض تجليات هذه الفلسفة انطلاقا من فكر الجابري وطه، لكنه، أيضا، يعبر عن اصطفاف صاحبه إلى جانب فكر الثاني في مقابل نقد فكر الأول، إن لم نقل في مقابل رفض هادئ له.

ليست الغايةُ من هذه الورقة عرض الأفكار التي قدمها كتاب همام وهو في مضمار تحليله لفكر الجابري وطه عبد الرحمان، ولا مساءلة موقف الباحث من أي واحد منهما، بقدر ما تروم التفكير في ملامح الصورة التي رسمها الكتاب عن الجابري تحديداً، على ضوء استراتيجيته في تحليل فكره من جهة، وفي ظل استلهامه كثيرا من عناصر رؤية طه عبد الرحمان في بناء موقفه من جهة ثانية. بل إننا نزعم أن رسم تلك الصورة لم يراع كثيرا من عناصر فكر الجابري، لاسيما ما تعلق منها بالوعي بالسياق الفكري والإشكالي، بل والسياسي أيضا، الذي في تربته أينعت جل أطروحات الجابري من جهة، وبسبب بتر مشروعه عن مقدماته النظرية الكبرى، وحصره في قضية جزئية تتمثل في مكانة اللغة العربية من مشروعه الفكري، وفي ما يلي بيان ذلك؛

أولا: قولٌ في مشروع فلسفي من خارج دائرة الفلسفة.

أ-   يشي عنوان الكتاب بمسألتين اثنتين؛ أن الغاية منه هي الوقوف على بعض مناحي جدل الفلسفة العربية من خلال دراسة نموذجين بارزين في الحقل الفلسفي العربي هما الجابري وطه عبد الرحمان أولاً؛ والتركيز على قضية بعينها في هذا الجدل هي مناولة كل منهما للغة ودورها في بلورة المشاريع الفلسفية العربية من خلال ذينك النموذجين ثانياً. ما الذي يعنيه الجدل في هذه الحالة؟ يجب أن نكون واضحين منذ البداية. من الصعب تحديد المعنى الذي يعطيه المؤلف لهذه الكلمة التي اتخذ منها عنواناً لكتابه؛ يفترض الجدل وجود متجادلين وجدلية، في حين أن ما جاء في الكتاب هو عرضٌ لموقف الجابري ونقدٌ له تارةً، وعرضٌ لفكر طه وموقع اللغة فيه تارة أخرى. فالجدل يقتضي علاقةَ نديةٍ وتفاعلاً وخصومةً إلى حدٍ ما، وما نقرأه في الكتاب هو تقديم لنقد طه للجابري واستلهام له، في تغييب تامٍ لموقف الجابري من فكر طه وفلسفته، بما قد يستلزمه ذلك من بحث عن صدى ذلك النقد في تطور فكر الجابري ومشروعه. فأي معنى يبقى للجدل في هذه الحالة؟

أراد همام لكتابه أن يكون قولا في الفلسفة العربية من مدخل مكانة اللغة العربية فيها، فهو ليس قولاً فلسفيا في الفلسفة العربية، وهذا ما يعني أننا أمام اختيارٍ استراتيجي جعل صاحبه يُطل على قضايا الفلسفة العربية من زاوية البحث اللغوي، بل وأن يتصدى لتلك القضايا من مدخل محورية مسألة اللغوية في الفكر الفلسفي العربي. نقرأ له في هذا المعرض قوله : “وقد ركزنا في هذا الكتاب على الجدل الفلسفي بين الجابري وطه عبد الرحمان من خلال البحث اللغوي، إيماناً منا بأن البحث اللغوي، بمفهومه المعرفي، يختزل الترابط بين اللغوي والديني والفلسفي والنفسي، وهي التي يعبر بها الفيلسوف عن بنائه الفلسفي وقدرته التفسيرية ونموذجه المعرفي”. يمثل هذا القول المقدمة الرئيسة الحاكمة لعمل همام، وهي التي تضيء كل الاستنتاجات التي انتهى إليها في بحثه. غير أن الملاحظ عليها أنها تختزل القول/الخطاب الفلسفي في جانبه اللغوي، بل وتجعل من اللغة مفتاحاً سحرياً لفهم طبيعة القول الفلسفي وتمفصلاته، وهذه دعوى دافع عنها كثير من المشتغلين بالفلسفة والناقمين عليها أيضا، بل وصدر عنها البعض في ادعاء موت الفلسفة وتشييعها إلى مثواها الأخير. لذلك أتساءل، منذ الآن، عن أثر هذه المقدمة في فهم همام لمعنى الفلسفة أولا، ولمعنى جدل الفلسفة ثانياً، ثم لموقع اللغة عند كل من الجابري وطه ثالثاً.

لتخوفي من نزعةٍ لُغوية ضيقة ما يبرره، خاصة في هذه الفقرة التي ذيل بها همام نقده للجابري إذ يقول : “كان أجدر بالجابري أن يؤطر تحليله هذا في إطارٍ علمي مضبوط، وليس في إطار الإسقاطات الفلسفية كما كان عند النحاة والفلاسفة. وكان عليه تجاوز تلك العلاقة المبهمة والغامضة ذات الطابع الميتافيزيقي بين اللغة العربية والفكر العربي. إن طغيان التصور الفلسفي في التحليل هو ما أسقط الجابري في عدد من الأخطاء ليس أقلها الخلط بين تناول اللغة في إطار عمل لساني موضوعي له محدداته وضوابطه، وتناولها في إطار ثقافي عام تحكمه دعاوى غير مدلل عليها، إن كانت لها مسوغاتها الواقعية والتاريخية فهي تبتعد عن الحقيقة العلمية” ( ص.105) بصرف النظر عن الأحكام القاسية التي ينطق بها هذا القول في حق الجابري، فإن ما يعنيني منه تشديده على أولوية المقاربة اللسانية في فهم جدلية اللغة والفكر، بعيداً عما سماه همام العلاقة “المبهمة” و”الغامضة” ذات الطابع “الميتافيزيقي” بين اللغة والفكر العربيين؛ أي أن اللجوء إلى المقاربة اللسانية، في نظر الباحث، هو ما يقينا شر السقوط في فهم غامض لتلك العلاقة، ويقودنا، بالتبعة، إلى بلورة فهم “علمي” و”موضوعي” “دقيق” لها. وهذا ما يقتضي نوعاً من التبرم من المنظور الفلسفي الذي طغى على مقاربة الجابري وأسقطها في أخطاء شنيعة في نظره.

لا شك في حاجتنا إلى المنظور اللساني والمنطقي في فهم قضايا اللغة والوجود، غير أن الاعتداد به شيء، والإيمان بأنه “منقذنا من الضلال”، وأنه وحده يخرجنا من غموض العلاقة الإشكالية بين اللغة والفكر والوجود شيء آخر. وبعد ما كتبه الفلاسفة عن اللغة منذ مارتي ورايناخ وأوكهام وفدجنشتين، ومنذ هسرل وهيدجر وآرندت ودريدا…الخ، سيكون من الصعب ادعاء إمكانية استلال الوجه اللغوي للغة من بعدها الأنطولوجي والميتافيزيقي، أو تصور خط أحمر يفصلُ بين البعدين، وكأن اللغة مسألةٌ لغوية لا صلة لها بأسئلة الوجود والميتافيزيقا. صحيحٌ أن الجابري بالغ، إلى حدٍ ما، في تأسيس هوية العقل التراثي على عربية اللغة، لكن هل هذا يكفي للطعن في سهمه بالقول إنه “لج بنا في تأملات فلسفية ميتافيزيقية بعيداً عن التناول الابستيمولوجي الذي ألزم الجابري نفسه به” (ص. 98 ). لستُ أدري ما المعنى الذي يُعطيه  همام لمفهوم الميتافيزيقا هنا، وما مدى تمايزها عن الفلسفة من جهة، والبحث الإبستيمولوجي الموضوعي من جهة أخرى، وإلى أي حد يمكن الجزم بأن التحليل اللغوي اللساني قادر على الإفلات من قبضة الميتافيزيقا وتقديم فهم موضوعي للغة والفكر معاً، أوَ ليست الموضوعية من بين السرديات الميتافيزيقية الكبرى التي أنتجها العقل الحديث اللاهث وراء العلمية والموضوعية!.

ومهما يكن من أمر، فإن ما يهم  همام هو الإسهام في تقديم صورة منسجمة عن دينامية الخطاب الفلسفي العربي من مدخل تحليل مناولته لمسألة اللغة. وقع اختياره على كل من الجابري وطه، وهذا اختيارٌ له ما يبرره من نصوصهما معا. فالجابري اتخذ من اللغة العربية أساس هوية العقل التراثي الذي درسه في مشروعه، لاسيما في جزأيه الأولين، أما طه فقط جعل من اللغة أساس كل قول فلسفي منذ رسالته الجامعية عن اللغة والفلسفة. بذلك انقسم الكتاب إلى جزأين؛ انصرف أولهما إلى النظر في فكر الجابري، عرضاً ونقداً و”تصويباً”، في حين اختص القسم الثاني بعرض تصور طه بأمانة عز نظيرها عند الشغوفين بفكر هذا الفيلسوف، المهووسين بفلسفته. لذلك يشعر القارئ في الكتاب بوجود سرعتين في التفكير مختلفتين على حد تعبير دلوزla vitesse de la pensée) )، طغت على المبحث الأول منهُ رغبةٌ جارفةٌ في النقد والتصويب، شوشتْ في أحيان كثيرةٍ على الفهم، وفي أحايين أخرى على التأويل والمجازفة بالتصويب، في حين طغت على الفصل الثاني سُنَة العرض والشرح، إن لم نقل التلخيص في بعض الأحيان.

ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة إلى كتاب يقدم نفسه كبحث في قضية فلسفية، وكتشخيص لوضعية الفلسفة في العالم العربي؟ ألا يعني ذلك نوعاً من التحيز “غير الموضوعي” لطه على حساب الجابري؟ أولم يستوح السيد همام نقده للجابري من نقد طه في أساسه؟ لا يعني هذا أن الرجل استنسخ نقد صاحب فقه الفلسفة، بقدر ما يعني أنه استلهم روحه المنطقية الصورية، بل والألسنية كذلك، دون أن يعير الخلفيات الفكرية والفكرانية (على حد تعبير طه) أي أهمية تُذكر، فيكون بذلك استمراريةً غير واعية لنقد طه للجابري. لست بحاجة إلى كثير من الجهد لإثبات هذا المنزع في كتاب السيد همام، فهو يقيمه على قاموس مفاهيمي يضرب بجذوره في قاموس الأستاذ طه؛ حديثه عن التصويب، التأثيل، الآفات، النسق الاستدلالي وافتقارُ الجابري إليه (ص.33)،…الخ، كما أن حديثه عن تكامل المعارف الإسلامية في إطار دائرةٍ منسجمة ليس بالبعيد عن حديث طه عن التداخل والشمولية والتجزيء في تعاطي الجابري لموضوعة التراث. لا ينبغي أن يفهم من هذا أننا أمام نص لا يعي تموقعه الفكري واختياره المنهجي، بقدر ما نحن أمام نص اختار بوعي موقعه النقدي، وأراد الانطلاق منه في مراجعة بعض المناهج التي اعتمدها الباحثون العرب في التعامل مع التراث ودراسته.

ثانياً؛ اللغة وهوية العقل التراثي.

كانت هوية العقل التراثي في جملة القضايا التي جرت على الجابري كثيرا من جحافل النقد الذي بلغ حد التشنيع. رأى البعض في الحديث عن عقلٍ عربي غفلةً عن حضور العامل الديني في تحديد هوية ذلك العقل، وعاب عليه آخرون إيمانه الميتافيزيقي بقدرة اللغة على صناعة الأفق التأويلي والرمزي والوجداني الذي في تربته أينعت أبرز مقولات الوعي العربي، في حين ظل الجابري متمسكا باختياره ذاك، معتبرا أن العقل التراثي إنما ينبغي أن يتحدد باللغة العربية. بدا الجابري منسجما مع نفسه بموقفه هذا، لاسيما وأنه ختم نص الخطاب العربي المعاصر بدعوة إلى تحصيل أسباب الاستقلال التاريخي للذات العربية، بسبب ما لاحظه من تبعيتها لسلطتين مرجعيتين حالتا دون تمثلها لراهنها؛ سلطة التراث وسلطة الحداثة. بذلك وجد هذا المفكر نفسه في مواجهة إعضال التراث والحداثة، وكان عليه أن يتخذ موقفاً نقدياً مُزدوجاً منهما معاً قبل أن يدلف مجال العقل التراثي وينجز في بنيانه ما أنجزه من نقد. هناك إذن هم حضاري، تحرري، ينتظم فكر الجابري، ويلقي بظلاله على وعيه بالتراث والعقل الثاوي في تضاعيفه، وهذا المعطى يُمثل مقدمةً رئيسًة لفهم كل ما تضمنه مشروع نقد العقل العربي من أحكام في شأن هذا القطاع أو ذاك من جغرافيا العقل، حتى ما يتعلق منه بهويته العربية. عندما يَعيبُ أحدهم على هذا المفكر تمسكَه المتشنج بعربية العقل، ويدعوه إلى الحديث عن عقلٍ إسلامي، فهو لا يعتبر الصلة التي يقيمها الرجل بين راهن الثقافة العربية وامتداداتها في الزمن وتشكلاتها التاريخية الواعية وغير الواعية. لقد اعتبر الجابري أن كثيراً من آليات العقل التراثي انتهلت هويتها من اللغة العربية، وهذا يعني، في جملة ما يعنيه، أن العقل واللغة صارا، من منظوره، آليتين لإنتاج المعنى والحقيقة في الثقافة العربية، وهو ما يفسر اعتماده تعريف لالاند للعقل، وتمييزَه بين العقل المُكوَن والعقل المُكوِن. في هذه الحالة لا يبقى السؤال المهم هو؛ من الأسبق في تحديد ماهية العقل؛ اللغة العربية أم الدين الإسلامي؟ بل لابد من طرح السؤال في صيغة أخرى؛ أيهما وجه الآخر وفرض عليه أفقه التأويلي؛ اللغة أم الدين؟ بالجواب عن هذا السؤال ينأى الجابري بمشروعه عن مشاريع أضرباه من المفكرين الذين تصدوا لدراسة التراث من حيث هو سليل عقل إسلامي، ويكفي أن نشير، هنا، إلى مشروع محمد أركون الذي اتخذ من عبارة العقل الإسلامي عنوانا كبيرا له. فضل الأستاذ همام الحديث عن عقل مسلم، لكن ليس بالمعنى الذي يعطيه الراحل أركون لمفهوم العقل الإسلامي، باعتباره نتيجة الحدث أو الظاهرة القرآنية، بل انطلاقاً من القول بضرورة اعتبار “موقع اللغة العربية في تشكل العقل المسلم، ليس كلغة يتكلم بها قوم مخصوصون، ولكن كلغة قرآن إلى الناس كافة وليس إلى العرب وحدهم. فنستنتج، إذن، أن مشكلات العقل المسلم تصلح هي الأخرى لتشكيل العقل العربي، وإلا فالفصل الذي أقامه الجابري ينم عن فهم “ميتافيزيقي” للعقل، أبعد ما يكون عن الضبط الإيبستيمولوجي الذي اختاره بشكل لا رجعة فيه” (ص.29).

لا يبدو أن هذا اعتراضٌ مشروعٌ على الجابري، والسببُ في ذلك هو أن فهم النص القرآني خضع للسياقات الثقافية المختلفة التي تلقته، لاسيما تلك التي أدركته من طريق الترجمة أو النقل إلى لغات أخرى غير العربية، وهنا نقف على ما أقلق الجابري؛ أثر اللغة في فهم النص الديني وتأويله، أوَلا يقود الحديث عن عقل مسلم، أو آخر يهودي، وآخر مسيحي إلى نظرة ميتافيزيقية، بل وخرافية، إلى العقل، تخلط بين القدرة على إنتاج الحقيقة والمعرفة، وبين ملكة الإيمان والتسليم. لذلك كان العقل العربي بمثابة الأفق الأعم الذي أولت فيه الثقافة العربية نصها القرآني التأسيسي، وعلى ضوء هذه المُسلمة يُمكن أن نفهم الأحكام القاسية التي أصدرها الجابري في حق الوظيفة التي اضطلعت بها اللغة العربية في بلورة مكونات ذلك العقل.

تلك الأحكام معروفة عند الذين يقرأون نصوص الجابري؛ ارتباط اللغة العربية بالمجال الصحراوي، ضيق أفقها الوجودي، ارتباطها بالعالم الحسي، والنتيجة أن صار الأعرابي صانع العالم الذهني العربي على حد تعبيره. وهمام لا يتردد في القول إن الجابري أعاد إنتاج مقالة المستشرقين في حق الثقافة العربية، تلك المقالة القائمة على التمييز بين المركز والهامش، والنظر بتعال إلى الثقافات الواقعة خارج المركزية الأوربية، بل إنه يذهب إلى حد القول؛ “وإننا نخشى أن نقول إن الجابري أعاد مقولة رينان بلسان عربي مبين”. إلى ما تثيره هذه الممثالة في نفس الباحث من استغراب، فإنها تدفع إلى التساؤل عن الصورة التي يروجها هذا الحكم عن مثقف نذر حياته للدفاع عن الثقافة العربية واستلالها من براثين المركزية الغربية، وأسهم من موقعه في نقد المناهج الغربية في دراسة التراث والثقافة العربية. نقرأ لهمام قوله في هذا المعرض؛ “إن المتتبع لسياق النقدي الذي أورد فيه الجابري هذه الآراء اللغوية، لن يخرج برؤية نقدية متماسكة (…) فالجابري في أحكامه اللغوية يتحدث مرة عن فقر لغة الأعراب وهو يعتبرها في الوقت نفسه أوسع من لغة الواقع، ويرى اللغة مرة أخرى ‘محصورة الكلمات’، ويستقبح في مكان آخر ‘التضخم في الكلمات’. إن هذه الهجانة من الأحكام تبرز فقدان وعي الجابري اللساني لنسقه الاستدلالي المؤسس على تصور لغوي متماسك” (ص.33). لا مرية أن هذه الأحكام قد وردت في حديث الجابري عن اللغة العربية، غير أن همام قام ببترها من السياق العام الذي وردت فيه؛ سايق توصيف العالم الذهني الي نقلته اللغة العربية إلى العقل بعد عملية تدوينها. لذلك ينبغي التساؤل عن مدى مشروعية محاسبة الجابري انطلاقا من النظر إليه كباحث لغوي يحتاج إلى وعي لغوي مؤسس ومتماسك؛ فالرجل لم يرد لمشروعه النقدي أن يكون مشروعاً في نقد اللغة، بل في نقد العقل الثاوي وراء تلك اللغة. هل اللغة سبب من أسباب العقل أم نتيجة له؟ إنها هذا وذاك، لأن اللغة والفكر وجهان لورقة واحدة، وهي جسم الفكر على حد تعبير كريستيفا. لا يكفي القول، هنا، إن هذا اللغوي أو ذاك، هذا النحوي أو ذاك، صححَ وصوبَ وقومَ عمل غيره، بقدر ما ينبغي التفكير في مدى حضور خصائص العقل البياني في المنطق المعتمد من طرف هؤلاء جميعهم في نحت معنى الكلمات، وتسمية الأشياء، وتحديد فعالية الآليات الاستدلالية في مختلف المجالات التي اعتمدت فيها. فهل يمكن أن ننفي مثلاً، عن فقهاء السياسة، اعتمادهم منطق القياس في اشتقاقهم أحكام الدولة ومؤسساتها، بصرف النظر عن مفعول هذا القياس أو كيفية توظيفه؟ وهل يمكن أن ننكر أن لعبة القياس استطاعت التسلل حتى إلى المجالات المساحلة للعقل الصوري؛ إلى الذاكرة والمخيال التاريخي، عندما غدت السيرة غائباً يُقاس عليه في فهم معنى الزمن والحدث، وتمثل التاريخ. لا أدعي تقديم جواب عن مثل هذا السؤال المزعج، لكن أدعو الجميع إلى التفكير فيه وربطه بالمعنى الذي يعطيه الجابري، وأركون، للعقل القياسي من حيث هو آلية لإنتاج المعنى والخطاب والحقيقة. في هذا السياق، تحديدا، تأتي مناولة الجابري للغة، ومن هذا المنطلق وجب أن نسائله؛ هل تضمنت اللغة، بالقوة أو بالفعل، البنية القياسية للعقل؟ كيف استطاعت فرض رؤيتها على العقل وتمثله للوجود والزمن معاً؟ يبدو أن الأستاذ همام لم يأبه بمثل هذه الأسئلة، وفضل المضي قدما في مقابلة أدلة الجابري، التي حشدها في مضمار توصيفه للغة العربية وطريقة تقعيدها، بأدلة تثبت خلاف ما ذهب إليه الرجل، فانتهى به الأمر إلى موقف سجالي يساحل الموقف المعرفي الذي رام الانتهاء إليه في كتابه.

أما عند طه عبد الرحمان فالأمر مختلف تماماً عن الجابري، فهو يصدر عن مسلمة مفادها وجود تعالق بين اللغة والفكر الفلسفي، ومنها ينبغي الانطلاق في كل بحث عن الإبداع، ومشروعه في فقه الفلسفة يبقى العلامة الفارقة على ذلك، إذ طفق ينقب عن أثر الترجمة في كبح القوة الإبداعية لدى المتفلسف العربي المسلم، فكانت النتيجة أن نفى الإبداع عن كثير من رموز الفلسفة الإسلامية بدعوى عدم وجود ترجمة تأصيلية تهدي الناس إلى الصراط المستقيم في التفلسف. وهذا ما حمله على فتح آفاق بحثه على قطاعات أخرى تطلب فيها معالم التفلسف والإبداع، كالخطاب الصوفي والأصولي الفقهي، وهذه خطوة ينبغي التنويه بها بحكم المساحات الشاسعة التي فتحتها أمام البحث الفلسفي في العالم العربي، بأن حملت الباحثين على الانفتاح على خطابات طالما اعتبرت خارج منطقة الفلسفة، غير أنه يطرح السؤال عن مدى صحة ربط تاريخ الفلسفة العربية بالترجمة ومصيرها، بما يقتضيه ذلك من تفكير في مدى وعي الفلاسفة المسلمين بما يكتنف النصوص المترجمة نفسها من غموض كثيرا ما شوش على فهمهم للنصوص الفلسفية المترجمة، كما عن مدى مشروعية إسقاط فهم حديث ومعاصر لمفهوم الإبداع على باراديغم وسيطي ينتمي إليه الفلاسفة المسلمون، والذي كان يقضي بأن أقسى ما يمكن للمرء إدراكه هو شرح نصوص المعلم الأول الذي عنده اكتمل العلم على حد تعبير ابن رشد.

ثالثاً؛ في بيانية العقل والموقف من التراث.

أ-   واضحٌ، في أعقاب ما سبق، أن الأستاذ همام لا يضع مشروع نقد العقل للجابري في سياقه النظري والإشكالي كما تصوره صاحبه، أي من حيث هو مشروع نقد حضاري يتغيا تحصيل أسباب الاستقلال التاريخي للذات العربية؛ استقلالها المزدوج عن مرجعية التراث كما عن مرجعية الحداثة الذي يتأتى من طريق علاقة نقدية بهما معاً. وإنما يضعه في سياق جزئي يفقده كثيرا من قوته النظرية؛ سياق البحث اللغوي الذي قاده، رأساً، إلى العناية بتصور الجابري للبيان من حيث هو القطاع الأصلي والأصيل في جغرافيا العقل العربي، نظراً إلى الصلة المتينة بينه وبين اللغة العربية. ويمكن أن نفهم كل الأحكام القاسية التي ينضح بها كتاب همام في حق مقاربة الجابري للبيان. يذْكر همام التقسيم الثلاثي الذي أقامه الجابري داخل مساحات العقل العربي الكلاسيكي، من بيان وعرفان وبرهان، غير أنه يعلن عن تحفظه إزاء هذا التقسيم المنهجي ويعتبره خطأ أشبه بالذي سقط فيه كونت بحديثه عن مراحل أو حالات الوعي الإنساني الذي أخذ في التقدم من المرحلة اللاهوتية إلى الميتافيزيقية وصولاً إلى المرحلة الوضعية(ص.36).

ما الغرض من هذه المماثلة بين نُظم الجابري ومراحل تطور الفكر البشري عند كونت؟ لعل السبب في ذلك حمْلُ القارئ على الاعتقاد أن الجابري يتبنى نظرة تقدمية معيارية إلى النظم الثلاث التي حللها، ويبدو أن ما رسخ هذا الاعتقاد عند البعض النحو البيداغوجي الذي عرض به الجابري لعملية تكوين نظم العقل العربي في الجزء الأول من مشروع النقد، ولعلي لا أتزيد بالقول إن السيد همام كان ضحية هذه النظرة، والدليل الأوقع على ذلك اعتقاده أن الجابري يفاضل بين مكونات العقل حتى في أشد لحظات وصفه لها، فهو عند هُمام، كما عند طه من قبل، أرسطي برهاني، تهجم على البيان وما فطن إلى غنى وثراء مكوناته وآليات اشتغاله الاستدلالية، بقدر ما امتعض من العرفان ورماه بالبرانية ومعاداة العقل والعقلانية. هذه كلها أحكام يمكن تفهمها، لكن يبقى لزاما علينا أن نفكر في ما إذا كانت عقلانية الجابري مسلمة صدر عنها، أم نتيجة انتهى إليها تحليله لبنى العقل التراثي، أم كانت نتيجة حتمية لاختياره العقلاني الذي جعله ينتقي من التراث الإسلامي رموزه العقلانية كابن رشد. أشير إلى هذه المسألة درءا لكل سوء فهم قد يسوغ لنا التهجم على الرجل ورميه بضيق الفهم والتحيز والتحامل..الخ.

يستدعي همام، هنا، نقد طه عبد الرحمان لبيانية العقل عند الجابري، وهو نقد يقوم، أساساً، على إعادة الاعتبار للبيان وإظهار ثرائه الاستدلالي الذي يضارع به البرهان من جهة، وإظهار نسبية البرهان والعقل الفلسفيين بالقول إن البرهان ما كان حكرا على الفلاسفة وإنما روجت الفلسفة لهذه الفكرة فحورت من خلالها التفكير العقلي البشري عن مساره الصحيح (ص.40). الإشارة هنا إلى العقلانية الأرسطية في تشكلاتها التاريخية وتجلياتها الميتافزيقية كما تلقفها الفلاسفة المسلمون العرب، والغريب أن يحشر الجابري ضمن زمرة هؤلاء وأن يتهم بأنه كان ضحية إيمانه بالمرجعيات اليونانية “البائدة”. يقول همام؛ “إن نجاعة أي مشروع فكري، عربي إسلامي، تفترض تبني “إبستيملوجيا معاصرة” في شقها التقني، وإبعاد المرجعية اليونانية البائدة، ووضع مفاهيم جديدة تتلاءم ومستجدات العلم ومقومات الإبداع البشري لتحقيق الخصوصية والتميز”. أتصور شخصاً يقرأ هذا القول ولم يسبق له أن قرأ كتاب الجابري عن فلسفة العلوم، أو مقدمته لكتاب تكوين العقل العربي، أو مقدمة كتاب العقل السياسي العربي…الخ، سيتصور أن الأمر يتعلق بباحثٍ يجهلُ مستجدات الفكر العلمي والإيبستيمولوجيا المعاصرة، خاصة منها تلك التي قامت على أنقاض الأرسطية والفلسفة اليونانية البائدة (متى كانت بائدة أصلا)، في حين أنه كان في طليعة الباحثين العرب الذين عرفوا الفكر العربي على مستجدات البحث في هذا المجال. من المعلوم أن طه حاول إظهار العوز الإيبستيمولوجي عند الجابري، واعراضه عن كثير من المرجعيات في مجال فلسفة العلوم، اللغة والمنطق. لكن الأمر، على ما يبدو، أعقد من مجرد اطلاع على مستجدات فلسفة العلوم المعاصرة، لأن محاسبة الجابري ينبغي أن تتم على ضوء غرضه من إعمال المرجعية الفرنسية في هذا الباب، ما تعلق منها بباشلار أو بياجي أو لالاند، لأنه وجد عند هؤلاء ما أسعفه بتأطير موضوعه، وأمده بالعدة المفاهيمية والمنهجية التي تفيده في فتح آفاق إشكالية أمام بحثه، أو على الأقل هذا ما فهمه هو من استقدامه لتلك المرجعيات. لذلك يمكن القول إن تصور الجابري لمفهوم النقد، وللمهام التي أناطها به، هو ما يفسر اكتفاءه بالمرجعيات الفكرية التي أعملها في إنجاز مشروع نقد العقل. من علامات ذلك، في ما أعتقد، أنه سرعان ما استدعى مرجعيات نظرية بعيدة عن مجال الإيبسميولوجيا عندما انتقل إلى مناولة العقل السياسي والأخلاقي، بل وسرعان ما انفتح على مجالات معرفية غالبا ما تم استبعادها حين الحديث عن العقل النظري بجزأيه الأول والثاني. أشير هنا، على سبيل المثال لا الحصر، إلى انفتاحه – في دراسته للعقل السياسي العربي- على الترسانة النفاهيمية للبحث في مجال الأنثروبولوجيا السياسية، وهذا ما يعزز ما ذهب إليه كثيرٌ من الباحثين من أن موضوع النقد عند الجابري هو الذي يفرض عليه اختيارات معينة على مستوى المفاهيم والمنهج. يدفعنا هذا الأمر إلى التساؤل عن المعنى الذي يعمل به همام مفهوم العقل كلما تحدث عن المشروع الفكري للجابري، إذ يبدو أنه لم يتجاوز حدود العقل النظري كما تم توصيفه وتحليله في تكوين العقل العربي، وفي بنية العقل العربي. لكن هذا ليس، حصراً، المعنى الذي يُعمل به الجابري العقل وإن كان جزءاً من ذلك، خاصة وأن الرجل يبحث في الأسباب السياسية التي كانت وراء عملية تكوين العقل نفسها، ولو صح لنا أن نصف كتاب تكوين العقل العربي لقلنا إنه قول في التكوين السياسي للعقل العربي إن نحن شئنا الدقة أكثر. لذلك سيجد الجابري نفسه مضطراً إلى الانفتاح على مفاهيم قد يراها البعض مستقدمة من مجالات تقع خارج دائرة العقل المحض، مثل الأنثروبولوجيا السياسية وعلم النفس الاجتماعي والسياسي. وهذا ما سيكرسه كتابه عن العقل السياسي العربي الذي يمكن اعتباره لحظة الخروج من المقاربة المحضة للعقل العربي إلى رحاب مباحث أخرى على صلة بمجال العلوم الإنسانية عموماً، بما يناسب طبيعة البحث في العقلين السياسي والأخلاقي. فهل أبقى الجابري على المفهوم عينه الذي وظف به العقل في الكتاب الأول؟ ألم يكن خليقا بالأستاذ همام أن ينظر في أثر هذا “المنعطف” المفاهيمي والمرجعي في تمثل الجابري لمكانة اللغة في مشروعه النقدي؟

ما سبب اعراض الأستاذ همام عن توسيع دائرة البحث لتشمل هذه المجالات في مشروع الجابري؟ يبدو أن التأثر اللامفكر فيه بطه هو السبب الأهم في هذا الباب. من المعلوم أن صاحب فقه الفلسفة عاب على الجابري عدم مراعاته لما سماه مبادئ التراث العربي الإسلامي الثلاثة؛ الجمع بين القيمة الخلقية والواقع؛ الجمع بين القيمة الخلقية والعلم؛ الجمع بين القيمة الحوارية والصواب. كما عاب عليه، كذلك، تمسكه بما سماه (طه) مبدأ التسييس. صحيحٌ أن العامل السياسي ليس العامل الوحيد الذي يمكن أن نفسر به كل شيء في التراث، وصحيح أيضاً أن طه حاول فهم التراث في ذاته، في بنيته المنطقية واعتماله الاستدلالي. لكن، ما العمل إذا كان السياسي جزءا من ماهية التراث نفسه؟ يصير حينها كل حديث عن التراث بمعزل عن أسباب نزوله السياسية حديثاً عن سرابٍ متناغمٍ لم يوجد إلا في ذهننا نحن الخائفون عليه من السياسة. كيف يمكن أن نفهم إقدام الشاطبي على كتابة الموافقات، وقبله ابن رشد على تأليف الفصل، والغزالي على كتابة فضائح الباطنية…من دون وعي بالشرط السياسي الذي يقف وراء عقد هذه المصنفات؟ هل يمكن أن نرد مآل العقلانية الرشدية إلى بنيتها المنطقية وانغلاق معاني النص الأرسطي على أبي الوليد، أم أن مصير هذا الأخير كان محكوماً بإرادات سياسية لم تطمئن يوماً إلى الميتافيزيقا التي صدرت عنها المصنفات التي انتدب هذا الفيلسوف نفسه لشرحها وتفسيرها؟

ب-     كان من المفروض أن يقدم الباحث لكتابه بعرض مفصلٍ لموقف الجابري من التراث وملابسات تشكله التي عرضها الرجل في كثير من مصنفاته. إذ أتت مقاربته للعقل العربي في سياق أعم هو ما انتبه إليه في مضمار حديثه عن موقفنا، نحن اليوم، من التراث. وهذه إشكالية خاض الجابري، في سبيل فض شفراتها، سجالاً مع جل المحتقلين لمجال الدراسات التراثية، عربا ومستشرقين، وانتهى إلى بناء موقف منهجي يقوم على علاقة نقدية قوامها الوصل والفصل على نحو ما عرضها في كتابه نحن والتراث، وحاول تطبيقها في مشروع نقد العقل العربي. غير أن همام يرى أن منهج الجابري كان قاصرا عن فهم سيرورة السلوك اللغوي العربي، ويرى أن ذلك “لا يتأتى إلا بالوقوف على جوهر العلاقة بين العالم العربي ومرتكزه العقدي الذي يصدر عنه ويحدد ‘رؤيته’ وليس فقط لسلوكه العلمي بل لوجوده ككل، وهذا أمر كان حاضرا عند الجابري نظريا لكنه غاب وظيفيا وإجرائيا أثناء التحليل. كما غاب الاستحضار النفسي للشروط التاريخية والحضارية. ولا يعرف صحة هذا الأمر، بنظر ابن جني، إلا من تصور أحوال السلف تصورهم، وراءهم من الوقار والجلال بأعيانهم، واعتقد في هذا العلم الكريم ما يجب اعتقاده له، وعلم انه لم يوفق اختراعَه، وابتداءَ قوانينه وأوضاعه، إلا البرُ عند الله سبحانه”.

يشعر القارئ في هذا النص أنه يختزل نظرة همام إلى التراث والموقف الذي يجب أن نتخذه منه، لأنه يتجاوز، في نظر صاحبه، أعطاب الجابري ونظرته الجزيئية إلى التراث، لكن هل هذا الموقف سليم بما فيه الكفاية؟ كيف يمكن القول، بهذا القدر من الوثوقية، إن المرتكز العقدي هو، وحده، الذي حدد رؤية العالم العربي وسلوكه اللغوي والعلمي، ألسنا هنا أمام تفسير أحادي لظاهرة على درجة هائلة من التعقد الرمزي والوجداني والمعنوي، تشكلت تاريخيا على مستوى الوعي كما على مستوى اللاوعي، وما توقفت عن إنتاج نقائضها وفرض أفقها التأويلي على الوعي العربي؛ هي ظاهرة التراث العربي الإسلامي. ومن جهة ثانية كيف يمكن الادعاء أن فهم هذه المسألة، أي السلوك اللغوي والعلمي العربي، لا يتأتى إلا لمن تصور أحوال السلف تصورهم، وراءهم من الوقار والجلال بأعيانهم…الخ، هذا ليس موقفاً علمياً من السلف، فالعلم لا تبجيل فيه كما قال ابن الهيثم في شكوكه على بطليموس. وهل يمكن بناء موقف نقدي سليم من التراث إن نحن آمنا بما قاله ابن جني؛ أن “نعتقد في هذا العلم الكريم ما يجب اعتقاده له”. هل من أمل في النقد والفهم بعد الاعتقاد والتسليم؟ بين النقد والفهم من جهة، والاعتقاد والتبجيل من جهة أخرى، مسافة هي عينها التي تحتاجها الذات للوعي بزمنيتها وتاريخية تراثها الفكري، وهذا كان في جملة ما أقام عليه الجابري موقفه من التراث عندما شدد على ضرورة الاتصال به قبل الانفصال عنه. إن موقف هذا المفكر من التراث لا يمكنه أن يفهم بمعزل عن رهان النهضة والحداثة الذي حكم كل مؤلفاته، ويبدو أن فصل مقاربته للعقل عن هذا الرهان هو ما يفسر هذه الأحكام التي ينضح بها كتاب همام عن الجابري وموقفه من التراث عامة واللغوي منه على وجه التحديد.

خاتمة.

هذا هو الإطار العام الذي تناول فيه همام مشروع الجابري في نقد العقل، وخاصةً ما تعلق منه بمكانة اللغة ضمن هذا النقد. نلاحظ أن تمسك همام بتناول المسألة اللغوية، وهو إجراء منهجي ضروري بالنسبة إلى بحثه، جعله يبتر فكر الجابري من سياقه ومقدماته الفكرية الكبرى، بل إن من يدرك صورة الجابري في مرآة كتاب همام يحسبه باحثاً “لغوياً” لا علاقة له بالتراث الإسلامي الفلسفي والكلامي والصوفي، ولا بقضايا عصره كمثقف، ولا بمستجدات البحث في فلسفة العلوم، ولا بمباحث اللغة والمنطق، بل وسيظنه في غفلةٍ عن مآرب المستشرقين، ومتواطئاً مع الناقمين منهم على الثقافة العربية. إنها صورة حالكة عن رجل نذر نفسه وعمره لقراءة التراث والدفاع عن الثقافة العربية. يمكن أن يتفهم المرء هذا الموقف إن هو أخذ بعين الاعتبار رغبة همام في التنقيب عن صلات الوصل التي تجسر الفجوة بين الجابري وطه، ويبدو أن هذه رغبةٌ حكمت تأليفه لهذا الكتاب، غير أنه سلك في ذلك طريقاً جعله ينحاز إلى طه على حساب الجابري، مما منعه من إلقاء نظرةٍ تفهميةٍ على الخطابين معاً، أمام تضخم حضور طه حتى في ثنايا قراءته للجابري. لذلك أعتقد أن عمل السيد همام يفتح الباب أمام الباحثين لمراجعة هذه الصورة التي كرسها نقاده في ثنايا الفكر العربي المعاصر، ليس قصد تلميعها أو ترتيق ما تبقى منها، بل قصد استرجاع معالم العقلانية التي حاول النقد تقويضها باسم اللغة حيناً، وباسم نقد العقل الحداثي أحياناً، وباسم اللاعقل والانسحاب في أحايين كثيرة، طالما أن مطلب العقلانية ما يزال قائماً بالنسبة إلى الفكر الفلسفي العربي المعاصر، ومادام الجابري رمزاً من رموز تلك العقلانية التي ما زالت مشروعاً لم يكتمل بعد…


*محمد همام، جدل الفلسفة العربية؛ بين محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمان، البحث اللغوي نموذجا، المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء- بيروت / مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2013.

– ملحوظة : قدمت هذه الورقة بمناسبة قراءة في كتاب محمد همام :  جدل الفلسفة العربية؛ بين محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمان، البحث اللغوي نموذجا، نظمها مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية بتاريخ الرابع من يوليو 2015.

نبيل فازيو

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى