بمناسة رحيل الدكتور محمد عابد الجاري، نطرح مع قرائه فكرة لها طابع ابستمولوجي ، تتعلق بتوظيفه لمفهوم القطيعة الابستمولوجية مع التراث في مشروعه الضخم نقد العقل العربي.
في مشروعه استعار الجابري مفاهيم ابستمولوجية من ابستمولوجيين غربيين من بينهم الفيلسوف غاستون باشلار، استعار مفهوم العائق الابستمولوجي ومفهوم القطيعة الابستمولوجية ولم يستعر مفهوم الجدل في فلسفة العلوم عند باشلار.
وهكذا فوت الجابري على نفسه توظيف مفهوم الجدل الباشلاري واعتمد مفهوم القطيعة الابستمولوجية في مستواها الأول حسب تصنيف باشلار بدلا من المستوى الثاني..
فمفهوم القطيعة الابستمولوجية عند باشلار لها مستويين : المستوى الأل وتعني القطيعة الى حد ألا عودة (= بين الميثولوجيا عند هومروس وهوزيود والمدرسة المالطية) والمستوى الثاني وتعني به قطيعة الاحتواء والتضمن بين العلم الجديد والعلم السابق عنه مثل الهندسة اللآأقليدية والهندسة الأقليدية، ومثل ميكانيكا ماكس بلانك وميكانيكا نيوتن ، فالجديد يحوي القديم إلى ما هو أوسع واشمل.
لقد استفاد الأستاذ باشلار من من الدرس الذي قدمه السيد بوهر Bohrفي الميدان الميكروسكوبي. اذ سبق أن أعلن عن مبدأ تكامل النظريتين الموجية والجسيمية للضوء ليضع حدا للصراع بين الفيزياء الكلاسيكية والفيزياء المعاصرة.
فبدلا من أن يعلن عن تنافي النظريتين فهو يعلن ضرورتهما معا وتكاملهما من اجل الوقائع الضوئية التي تظهر في الضوء تارة في شروط معينة على شكل موجات ، وفي شروط معينة أخرى على شكل حبيبات (كوانتوم). وقد انتقل هذا المبدأ الجدلي إلى ميادين علمية أخرى.
فالكائن الحي عند بوهر Bohr يبدو في مظهرين : مظهر فيزيائي ومظهر دينامي، فلكي ندرك ظواهر الحياة يجب من اعتبار هذبن المظهرين معا.
فالعلم في حاجة إلى موقف يتكامل فيه النقيضان لأن الاكتشافات العلمية يمكن أن تفهم ضمن تكامل هذه الحدود المتقابلة وليس ضمن تضادهما.
أمام هذا الطرح العلمي المؤسس على نظريات علمية وعلى مسلمات وحدوس نطرح سؤالا له علاقة بالقطيعة الابستمولوجية عند الجابري. السؤال لماذا لم يقبل الجابري تكامل الفلسفتين السينوية والرشدية؟
فالجابري وظف نصف تعريف مفهوم القطيعة الابستمولوجية فقط أي في مستواه الأول بمعنى القطيعة الى حد ألا عودة.
في إحدى فقرات كتابه “نحن والتراث “‘ يقول الجابري :
“ومن أن يكون ابن رشد رفض ابن سينا الفيلسوف فهذا لا يمكن الاعتراض عليه ؟؟؟؟؟ محصور إذن في رفعنا لهذا الرفض الى مستوى القطيعة الابستمولوجية”.
الجابري : نحن والتراث ، صعحة 8.
ويقصد الجابري عن القطيعة من المستوى الأول حسب تصنيف باشلار، أي القطيعة إلى حد ألا عودة
وفي فقرة أخرى من نفس الكتاب يقول الجابري : لقد قطع ابن رشد مع السينوية فلنأـخذه منه .. ونقطع بدورنا قطيعة تامة ونهائية مع السينوية والمشرقية.
الجابري : نحن والتراث ، ص49.
كلام خطير ، أذا صبح الجابري ايديولوجي الدولة الموحدية أكثر منه ابستمولوجي كما كان الامام الغزالي ايديولوجي الدولة السلجوقية .
يقول الجابري : ان توظيف مفهوم القطيعة الابستمولوجية ،مكنني من ملاحظات أشياء لم ألحظها من قبل .
الجابري: نحن والتراث.
لنتذكر من جديد أنه مع السيدين لوي دو بروي LoUis DeBriglie وبوهر Bohr مدير مدرسة كوبنهاغن أصبح العقل يقبل النقيضين معا في الشيء الواحد . فنظرية التموج ونظرية الجسيمات رغم تناقضهما ،فهما متكاملتان (متجادلتان).
فطبيعة الكهرباء والطاقة تكون على شكل أمواج في ظروف معينة وعل شكل جسيمات ( كوانتا ) في ظروف معينة أخرى وبالتالي لا يمكن فهم طبيعة الكهرباء والمادة والضوء إلا في إطار جدلية النظريتين.
أي في إطار تكاملهما وتوسيع معرفتهما الفيزيائية كما يتكامل العقل النظري والتجريبي وتكامل العلم الديكارتي والعلم اللاديكارتي ، كما تكون جدلية الكتلة النيوتونية مع الكلة النسبية والديراكية (نيبة الى ديراك).
فالعقل الجدلي هو عقل منفتح وغير منغلق ، تحضر فيه جميع الحدوس العلمية المشتة ، وتكو ن فيه الفرضيات مركبة وغير مشتة (انظر كتابنا . جدلية العلم والعقل من منظور ابستمولوجي الصادر سنة 2007 عن دار التوجيدي بالرباط وفي طبعته الثانية الصادرة 2018).
وبالمثل PAR ANALOGIE، فالفلسفتان المشرقية والمغربية رغم أنهما متناقضتان فإنهما متكاملتان ، ومتجادلتان . فلا يمكن فهم الفلسفة العربية الإسلامية إلا من خلال جدليتهما وتوسيع معرفة الفلسفة العربية الإسلامية.
وبالتالي ليست هناك قطيعة نهائية بين فكر المشرق والمغرب إلى حد لا عودة كما يدعي الأستاذ الجابري، بل القطيعة بين وبين هي قطيعة جدلية ، يتكامل فيها العقل المشرقي والعقل المغربي ،ففي المشرق تكون الفلسفة توفيقية لعدة اعتبارات ،لتعدد الأديان والقوميات والأجناس.
وفي المغرب والأندلس تكون الفلسفة برهانية لأنها تغيب فيها الاعتبارات السابقة ولأنها مؤسسة على محتوى معرفي ومضمون ايديولوجي يختلف عن محتوى ومضمون ايديولوجي آخر.
اختار الجابري نصف تعريف مفهوم القطيعة الابستمولوجية حسب باشلار ولم يختار النصف الثاني لأنه لا يخدم أطروحته الانفصالية.
فلو فحص الجابري النصف الثاني لتعريف نفس المفهوم الباشلاري لما سقط في فصل الفكر المشرقي عن الفكر المغربي فصلا تاما. بل لوحد بين عقلي حناحي الوطن العربي والإسلامي.
وهكذا ، وبأطروحته الانفصالية ، انغلق الجابري على نفسه وعلى القارئ والمتتبع ، بدل الانفتاح على معرفة فلسفية تتكامل وتتوسع، كتكامل فلسفة الفارابي وابن سينا والكندي والتوحيدي مع فلسفة ابن طفيل وابن باجة وابن رشد . ففلسفة باشلار هي فلسفة منفتحة وفلسفة جدلية وليست منغلقة وانفصالية إلى حد لا عودة.
اختار محمد عابد الجابري نصف تعريف مفهوم القطيعة الابستمولوجية في مستواها الأول ، واعتبره أداة للقطع مثل أداة “الشاليمو “le chalimeau ،باحثا عن قطائع جزئية في التراث إلى حد لا عودة ، بدلا من الترميم والتصحيح والتوسيع والتكامل بين المتناقضتن ،كما تريده الابستمولوجيا الباشلارية.
فالفلسفة الجدلية هي فلسفة قطائع وفلسفة تكامل وتوسيع وتصحيح الأخطاء. فالحقيقة هي أصلا تصحيح اللاحقيقة، يعني تصحيح الأخطاء (انظر مقال مفهوم الحقيقة العلمية بكتابنا أوراق باشلارية في طبعته الثانية)،
وهكذا؛ فنحن فنقول :ان مفهوم الجدل في العلم إجرائيا مكنني من ملاحظات أشياء لم يلحظها الجابري.
ربما الجابري اجاب عن الاشكالية في بعض ردوده وعتبر القطيعة التي وظفها مسالة اجرائية وظيفية وليست القطيعة بمفهومها العلمي. كي يصل يوضح الفرق بين التوفيق او التلفيق احيانا بين الدين والفلسفة كما هو عند ابن سينا وبين الفصل بينهما وتقاطعهما في اخر المطاف في البحث عن الفضيلة عند ابن رشد
تحية اجلال وتقدير للاستاذ الكريم.وبعد هل من الممكن أن نقول أن فيزياء اينشتاين تتكامل مع فيزياء نيوتن اذا صح ذلك يصح معه القول تكامل بين الشيخ الرئيس وبين ابن رشد علما بان المرحوم الجابري وضح ذلك القطيعة بكونها على صعيد الرؤية والمنهج وليست على مستوى الثقافة العربية الإسلامية .تحياتي