فكر وفلسفة

المذهبية: تاريخاً وراهناً وأخطاراً

1- في المذهبية والتمذهب

هل يمكن للانتماء إلى دين، أو للتديُّن، أن يَحْصُل من دون تمذهُب، أي من دون التعبير عن نفسه من خلال الشعور بالتمايُز داخل البنية الاعتقادية الواحدة، ومن دون الانصراف إلى تنمية ذلك التمايز وحراسته في وجه عوامل الاشتراك والتوحيد دَاخل تلك البنية الاعتقادية الجامعة؟

نظريّاً: نعم، أمّا عمليّاً فلا!

يمكن للتديُّن أن ينشأ بمعزلٍ عن التمذهب، بل تلك حالُه في تكوين أيّ دين، أي في لحظة الإنشاء من ذلك التكوين؛ وبيانُ ذلك أن التدين اعتقادٌ بفكرةٍ عليا، وتعبيرٌ طقوسي: وجداني، وسلوكي، واجتماعي، عنها: أكانت مجسَّدةً في نصّ (= وحي)، أو كانت تعاليم، أو منظومَةَ قيمٍ دينية وأخلاقية يحملها صاحب دعوة.

والغالب على أتباع الدين، في مراحل التأسيس، أن يمارسوا تديُّنهم على نحوٍ من البساطة شديدٍ، وأن يكونوا في غَنَاءٍ عمّن يقوم مقام الوسيط بينهم وبين النصّ أو التعاليم، إِذِ العلاقة بهما (النصّ والتعاليم) تكون مباشِرة، ولعلها تكون كذلك مع صاحب الدعوة أو الرسالة.

هكذا بدأت الأديان التوحيدية الثلاثة: خالية من التمذهب، ومن أسباب الانقسام الذاتي على حدود الاعتقادات الفرعية. بل هكذا، أيضاً، بدأت سائر الأديان في آسيا القديمة.

تتكوّنُ الجماعةُ الاعتقادية الكبرى كجماعة موحَّدة، يؤسِّس النصُّ، أو تؤسِّسُ التعاليم، شعورَها بالانتماء المشترَك الواحد. بل إنها عادةً ما تخرجُ من واقع الانقسام على حدود هويّات اجتماعية متمايزة إلى واقع الالتحام في كيانية جديدة موحَّدة. وتتغذى وحدتُها الدينية، مع الزمن، في مواجهة جماعات مِلّية أخرى تُخالفُها الاعتقاد والشرائع.

وغالباً ما يكون إيقاعُ نموِّ التمركُز الذاتي على فكرة التميُّز والتمايُز لدى جماعةٍ اعتقاديةٍ ما حين تُجَاورها في المكان تلك الجماعاتُ الأخرى المخالفة. وهو يَعْظُم أَكثر حين يكون الجوار قريباً، كأن تنتمي هي وسواها من الجماعات إلى مجتمعٍ واحد مثلما حصل في تاريخ المجتمع العربي الإسلامي.

في مواجهة الآخر (الاعتقادي) لا تختلف الجماعة على نصّها، ولا تنقسم في فهمه، بل لعلّها لا تلتفت إلى ما تمور به بيئتُها الداخلية من أسباب التباين في النظرة إلى الدين الجامع وتعاليمه؛ ففي غيرها، ممّن يخالفها المِلّة، كثيرٌ من الرصيد الذي يَصُبّ في وحدتها، ويرفع من مكانة نصّها التأسيسي في وجدانها، ويدفع نحو تماهيها مع ذلك النصّ بوصفه عنوان وجودها.

إن هذه الصّلة بالنصّ ثابتةٌ في الأديان التوحيدية كافة، وشديدةُ الحضور والظهور حين يقع الاحتكاك بين أتباع الديانات على حدود مجتمعات متجاورة، أو داخل مجتمع واحد متعدّد الانتماءات الدينية. وهي تولِّد، باستمرار، عوامل اللحمة والتماسك في جسم كل مجموعة اعتقادية.

ويكون ذلك في الأحوال كافة، وحتى حينما لا يقع تماسٌّ واتصال مباشر بين جماعة دينية وجماعات أخرى، فإن الجماعات يستبطن بعضُها البعضَ، ويستدعيه في الوعي أو المتخيَّل الجمْعي، فقد يكفي الصراع على تمثيل الحقيقة (= الدين القويم) كي تستحضر الجماعةُ الواحدةُ غيرَها،

فتتمسك بنظرتها إلى نفسها بصفتها الكيان البشري الذي تتجسّد فيه الحقيقة العليا في نقائها وصفائها، والمؤتَمن على إبلاغها إلى العالم (ذلك ـ مثلاً ـ ما يعنيه الصراع بين أتباع الأديان التوحيدية الثلاثة على التمثيل الصحيح للعقيدة التوحيدية الإبراهيمية).

غير أن التمسّك بالنصّ/التعاليم، والنموذج النبويّ، وبفكرة الجماعة الواحدة الموحَّدة في مواجهة غيرها من الجماعات الاعتقادية، لا يوفّر ـ دائماً ـ ضمانةً ضد الانقسام والتمذهب، أو مادةً لتجديد وحدة الجماعة الدينية في التاريخ: في مطلقِ مكانٍ، وفي مطلق زمان.

ولم يحصل أن ديناً من الأديان ـ التوحيدية وغير التوحيدية ـ ظلّ محافظاً على وحدة الجماعة التي تعتنقه، أو خَلا من أيِّ شكلٍ من أشكال التفرُّق والانقسام فيها، على الرغم من جوامع النصّ والكيان الاعتقادي، و ـ أحياناً ـ الدولة الواحدة.

وليس السبب، في الانتقال من حال التوحُّد إلى حال التمذهُب، نقصاً في الإيمان، أو انحرافاً في فهم التعاليم، أو خيانةً للأصول، أو ما في معنى ذلك من النظائر، وإنما مأتاهُ من أن انتقالاتٍ موضوعيةً تحصل داخل كلّ دين، وتُلقي بنتائجها على المنتسبين إليه: الانتقال من النصّ الديني إلى الجماعة.

الانتقال من الجماعة الدينية إلى الجماعة السياسية، الانتقال من السلطة العليا (الإلهية) للدين إلى السلطة البشرية (الفقهية، الإكليروسية، السياسية) للدين، الانتقال من النصّ الديني أو من الرأي إلى المؤسسة (= مأسسة الدين)… إلخ. هذه جميعُها عوامل تصنع شروط ذلك الذي سمّيناه الانتقال من التوحُّد إلى التمذهب.

هكذا نتأدّى إلى القول إن التمذهب ظاهرة تاريخية في الأديان كافة، أو ظاهرة في تاريخ الأديان ذات أسباب تفسّرها، وليست حالةً شاذة أو مجافية لمنطق الدين؛ وبيانُ هذا أن منطق الدين غير منطق النصّ الديني والتعاليم، فالدين ليس النصّ فحسب ـ أو حصراً ـ وإنما هو أيضاً الناس (= الأتباع) الذين يقرأونه، ويفهمونه نوعاً من الفهم المتناسب مع مستوى مداركهم العقلية.

ومع ظروف تلقي النصّ (وهي ظروفهم الاجتماعية والسياسية…)، ومع شروط ذلك التلقي المتغيّرة يتغيّر المكان والزمان، ثم تناسباً مع المصالح التي تصنع أنواعاً مختلفة من الفهم للتعليم الديني.

وبكلمة، إن التاريخ جزء من بنية الدين، لأن النصّ لا يبقى نصّاً معزولاً، وإنما يدخل في نسيج التاريخ حين يتمثله من يعتنقه. والذين يعتنقونه بشرٌ تحكمهم المصالح والأهواء والإرادات المتضاربة، كائنات يصنعها التاريخ المادي الموضوعي، لا كائنات تخرج من رحم النصّ وتعلو على التاريخ.

غير أن تقرير هذه الحقيقة (= التمذهب ظاهرة تاريخية) لا يعني، بحال، أنها شرعية ومشروعة، من وجهة نظر المؤمنين في الأديان كافة، وإنما هي ـ في حقيقتها ـ قرينةٌ على وجْهٍ من أشدِّ الوجوه قتامةً وبؤساً في تاريخ الأديان، وفي تاريخ الإسلام بخاصة.

غير أن الحكم على التمذهب، بأي نوعٍ من أنواع الحكم، فعْلٌ معياريّ، وليس فعلاً معرفيّاً، وهو ـ لذلك ـ لا يستقيم إلا بفهمه كظاهرة لها في التاريخ أسباب.

للاطلاع على الدراسة كاملة من مركز دراسات الوحدة العربية

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى