فكر وفلسفة

علي شريعتي .. المفكر الثائر

عام 1977م، سيغادر علي شريعتي إيران، متوجها إلى إنجلترا… وبعد ثلاثة أسابيع من وصوله؛ في الـ18 من يونيو/حزيران، سيُعثَر عليه ميتا عند مدخل غرفته بمدينة ساوثهامبتون.

كانت تلك… النهاية الغامضة لواحد من أبرز المفكرين في تاريخ إيران.

يومها، خلص التقرير الطبي إلى أن سبب وفاة شريعتي سكتة قلبية. نتيجة لم يهضمها كثيرون، إذ رجحوا تورط نظام الشاه في اغتياله.

رأى هؤلاء أنها النهاية التي يمكن للنظام أن يسطرها لمفكر صار، منذ زمن، يسهم في تشكيل وعي الشباب الإيراني وتقويض سلطة النظام.

رأي يعضده رفض نظام الشاه دفن شريعتي في إيران… حتى إن الفقهاء، يومها، امتنعوا عن الصلاة عليه، خوفا من أي إجراء قد يتخذه الشاه ضدهم.

هكذا، حلت الطائرة التي تنقل جثمان شريعتي في مطار دمشق، عاصمة سوريا، ثم دفن هناك، بجوار مرقد زينب بنت علي بن أبي طالب.

عاد شريعتي إلى بلاده عام 1965… وراح يؤرق بال نظام الشاه؛ إذ كان يؤمن بأن ثورتين مترابطتين، إحداهما وطنية والثانية اجتماعية، وحدهما المدخل لاجتثاث الاستبداد والفقر والرأسمالية.

رغم ذلك، 44 عاما، كانت كافية في حياة هذا الرجل، ليبصم على إرث فكري وثوري استمر حيا يتبلور، حتى إنه لم تكد تمر سنتان على وفاته، حتى اندلع لهيب الثورة في بلاده.

قبل أيام من وفاته، راسل ابنه قائلا: “يقولون بأن الجيل الواحد لا يحتمل أكثر من هزيمة واحدة، وها أنذا أعد نفسي للهزيمة السادسة أو السابعة، الهزيمة أم النصر… وما الفرق لنا؟ … المهم هو أداؤنا لرسالة الله”.

ذاك ما تعلمه في الواقع من والده، محمد تقي شريعتي، منذ أن ولد في الـ23 من نونبر/تشرين الثاني 1933، في قرية مازينان التي تقرب مدينة مشهد الإيرانية.

كان شريعتي الأب رجل علم وفقه، مناضلا في الحركة الوطنية، وواحدا من أعمدة الحركة الفكرية الإسلامية… رجل حاول أن يواكب دينه العصر الذي يعيشه، فأصدر كتبا عدة تروم ذلك، مثل “الاقتصاد الإسلامي، “الوحي والنبوة”، “الخلافة والولاية”.

ورجل مثل هذا، كان يرى في الإسلام حركة اجتماعية-تاريخية تهدف إلى تحقيق العدالة والحرية والمساواة في المجتمع الإنساني، لا يمكن إلا أن يترك أثرا بالغا في مسار ابن عاش في كنفه.

قبل أن يدخل الجامعة حتى، كان شريعتي الابن يتقن اللغتين العربية والفرنسية، مما مكنه من ترجمة بعض الكتب إلى الفارسية، ككتاب “أبو ذر الغفاري” مثلا.

قبل ذلك أيضا، كان قد اعتقل لأشهر، بسبب مشاركته في نشاطات طلابية في الثانوية تدعم حركة المعارض محمد مصدق، كما كان مسؤولا تنظيميا بمدينته عن حركة المقاومة الوطنية الإيرانية.

ثم… بعد تأسيس كلية الآداب بجامعة مشهد عام 1956، التحق بها شريعتي طالبا، وأظهر شغفا بتاريخ أدباء الإسلام وفلسفة التاريخ، فتخرج فيها بامتياز سمح له بالابتعاث إلى فرنسا.

هناك، في جامعة السربون، درس علم الاجتماع والأدب، ويروى أنه حصل على شهادتي دكتوراه، الأولى في تاريخ الإسلام والثانية في علم الاجتماع.

يرى الباحث الأكاديمي جميل قاسم في كتابه “علي شريعتي… الهجرة إلى الذات”، أن شريعتي كان مسلما يعرف تماما قيمة تراثه وهويته. وبالتالي، لم يتعرض لصدمة الحداثة التي تعرض لها المبعوثون من العالم الثالث.

يقول شريعتي: “أنا عند الشيعة سّني، وعند السّنة شيعي، وعند المنحلين متزمت، وعند المتزمتين منحل، إن المفكر الحر يصعب تصنيفه”.

هؤلاء كانوا يتغربون ويتشبهون بالآخر على طريقة المغلوب المولع بالاقتداء بالغالب؛ بينما رأى شريعتي أنها ليست أكثر من فرصة لكي يتعرف عن قرب على الحضارة الأوروبية، كبريائها وضعفها، على حد سواء.

على أساس من هذا الفهم، يبرز جميل قاسم، وضع شريعتي أهم نظرية في فكره الحي الثوري، وهي نظرية العودة إلى الذات.

عاد شريعتي إلى بلاده عام 1965… وراح يؤرق بال نظام الشاه؛ إذ كان يؤمن بأن ثورتين مترابطتين، إحداهما وطنية والثانية اجتماعية، وحدهما المدخل لاجتثاث الاستبداد والفقر والرأسمالية.

  • شريعتي وزوجته بوران

الواقع أنه لم يكن ذا شأن في ذلك، إلا بعدما استقطبه المفكر الشيعي آية الله مرتضى مطهري، ليلقي محاضرات في النادي الحسيني للإرشاد في طهران.

محاضرات كان يحضرها نحو ستة آلاف من الطلبة، وكان لها تأثيرها في الرأي العام، حد أن وجه بعض الفقهاء آلتهم التكفيرية صوبه، فاتهموه بالزندقة وتشويه الإسلام…

كان شريعتي يدرك ذلك جيدا، فنجده يقول: أنا عند الشيعة سّني، وعند السّنة شيعي، وعند المنحلين متزمت، وعند المتزمتين منحل، إن المفكر الحر يصعب تصنيفه.

وانتهى الأمر عام 1973 بإغلاق حسينية الإرشاد.

كان ذلك مصيرا ارتآه النظام مناسبا لمحاصرة رجل، يعبر بأسلوب فصيح وجذاب عن أعمق الأفكار الفلسفية وأعقد الموضوعات العلمية والاجتماعية، على نحو يفهمه القارئ والمستمع ببساطة شديدة.

44 عاما كانت كافية في حياة هذا الرجل، ليبصم على إرث فكري وثوري استمر حيا يتبلور، حتى إنه لم تكد تمر سنتان على وفاته، حتى اندلع لهيب الثورة في بلاده.

لمحاصرة رجل كان يرى أن التفكير الصحيح مقدمة للمعرفة الصحيحة، والمعرفة الصحيحة مقدمة للاعتقاد، الذي حين يكون سطحيا دون وعي، يكون ضيق الأفق وتابعا أعمى للخرافة وحجرة عثرة أمام بناء المجتمع.

في النهاية، سواء اغتيل أو توفي، ظل شريعتي حيا برصيده من الكتب التي تجاوزت الـ150، سواء في الفكر الإسلامي، أو في علم الاجتماع والفلسفة والأدب، والتي ترجمت إلى لغات مختلفة.

وكذلك محاضراته التي كان يلقيها في الحسينية، فُرّغت رغم كونها مرتجلة، ودُونت دون تعديل في كتب ونشرت، ومنها “النباهة والاستحمار”، “التشيع العلوي والتشيع الصفوي”، “دين ضد الدين”…

أما تلك المرأة، “بوران شريعتي رضوي”، التي كانت تقول: “كنت أشترط للزواج ألا يكون أصلعا ولا مدخنا”، ثم أحبت عليا وتزوجته، وكان يجمع بين الصفتين، فقد ترأست بعد ذلك إدارة مؤسسة شريعتي الثقافية، التي أسهمت كثيرا في انتشار إرث المفكر الإيراني.

كما وأصدرت بوران كتابا عن زوجها عام 2007 بعنوان “صورة من حياة”.

المصدر

كريم الهاني

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى